من توجيهات القرآن الكريم

مدارك العقول بين عالم الغيب وعالم الشهادة

 

بقلم : د. محمد السيد الجليند

 

يتصل الحديث عن هذه القضية بنظرية المعرفة من جهات مختلفة:

1-    فهو يتصل بها من حيث وسائلها.

2-    ومن حيث موضوعها، ومن حيث غايتها.

3-  من حيث هي كهدف مقصود لذاته وليس من هدفنا الحديث عن نظرية المعرفة في هذه الدراسة فإن ذلك له مجالات أخرى، ولكن الذي نقصده بالدرجة الأولى هو تحديد علاقة العقل بموضوع المعرفة وغايتها من جانب، وعلاقته بوسائلها من جانب آخر.

       ولقد آثرنا استعمال هذا المصطلح "مدارك العقول" لما فيه من دلالة على تمكن العقل من موضوع المعرفة وسيطرته عليها، واحتوائه لها، مما لانجده في غيره من المصطلحات المعرفية الأخرى، وهذا المصطلح يطرح علينا مباشرة الحديث عن موضوع المعرفة التي هي "مدارك العقول".

       فقد يكون موضوع المعرفة هو عالم الشهادة وما يشتمل عليه من ظواهر ومظاهر.

       وقد يكون موضوع المعرفة لا ينتمي إلى هذا العالم الحسي، ولايمت إليه بسبب كعالم الغيب، ونريد هنا أن نتعرف على مدارك العقل لهذين العالمين، عالم الشهادة، وعالم الغيب، ودور العقل في التعرف على كل منهما.

 

أولاً: وظيفة العقل في عالم الشهادة

       عالم الشهادة وهو المقابل الشرعي للعالم الحسي والمحسوسات لدى علماء المناهج أو المعرفة الحسية، وينطلق موقفنا هنا في تحديد علاقة العقل بعالم الشهادة من توجيهات القرآن الكريم التي تجعل النظر العقلي والتأمل في آيات الله أفقيةً كانت أو نفسيةً مطلبًا شرعيًّا وواجبًا دينيًّا على سبيل الفرض الكفائي أحياناً، وقد يرقى في بعض الأحيان إلى مستوى الفرض العيني على شخص بذاته، أو على جماعة معينين بذواتهم، حيث يلزمهم ولي الأمر ويجبرهم على أداء هذه الوظيفة التي تعينت عليهم والتي لاينهض بها سواهم، حتى تستقيم أحوال الأمة بها، ومن حق ولي الأمر أن يعاقبهم – أفرادًا كانوا أو جماعةً – إذا لم ينهضوا بهذه المسؤولية التي أصبحت بمثابة الدين الواجب الأداء، كما إذا تعين على جماعة ممارسة مهنة الطب أو صناعة الأسلحة للجيوش، أو فن الهندسة أو القيام بخدمات أخرى لاينهض بها سواهم:

       والقرآن الكريم يحث العقل ويدفعه دفعًا إلى التعرف على هذا الكون واكتشاف قوانينه، ومعرفة خصائصه والتعرف على العلاقات المتبادلة بين أنواعه وأجزائه للوقوف على خصائص العلاقات السببية الكامنة فيه، لأن ذلك كله يرتبط برسالة الإنسان في هذا الكون والهدف من وجوده، واستخلافه في الأرض وتنفيذه للأمر القرآني باستعمارها.

       وهذه المهام لا تتم للمسلم إلا باكتشاف قوانين الأشياء ومعرفة العلاقات السببية فيها، ليستطيع أن يحقق فيها المعنى الإلهيّ المقصود من تسخير هذا العالم من سمائه إلى أرضه لصالح الإنسان.

       ولقد شاع العلم بهذه الآيات القرآنية التي تأمر العقل بالنظر والتأمل، وأصبحت معروفة للعامة والخاصة، ولذلك سوف أعفى نفسي من سردها في هذا المختصر، ولكن الذي يلفت النظر وأنبه إليه أن منهج القرآن في سوق هذه الآيات كان يأخذ بمبدأ التدرج والترقي من مستوى معرفي إلى مستوى آخر أرقى وأدق، ويفتح أمام العقل مجالات للنظر وآفاقاً أرحب للتأمل كان يجهلها العقل من قبل، لتكون مسرحًا لنظره العقلي وعمله الفكري، فالكون كله قد أعده الخالق سبحانه وجعله مهيأ للنظر العقلي ليجعل منه حبلاً ممدودًا وسببًا موصولاً بين الإنسان العارف وموضوع المعرفة من جهة وغاية هذه المعرفة وهدفها من دهة أخرى، ولذلك كانت آيات القرآن المتصلة بهذا الموضوع تختم غالباً بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَّتَفَكَّرُوْن﴾. أو ﴿قَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ﴾.

       1- نجد آيات القرآن في هذا الصدد تأمر الإنسان بالنظر إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان وما فيها من أصناف الموجودات من حيث كيفية الصنعة، دقةً وإتقاناً، فتقول له: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ الغاشية: الآيات 17-20 .

       والسؤال في هذه الآيات يدور حول كيفية الصنعة وليس عن وجودها. والفارق كبير بين مضمون السؤالين؛ فالسؤال عن كيفية الصنعة لا يملك الإجابة عنها إلا صانعها أو من كان في مستواه من العلم بكيفيتها والغاية والقصد منها.. ولذلك فإن النظر العقلي هنا يدرك من مضمون السؤال حسب استطاعته فقط، فهو يدرك منها ولايدركها، لتبقى القضية كلها في نطاق الإعجاز من جانب ومطلبًا شرعيًا للعقل من جانب آخر.

       2- وأحياناً يطلب القرآن من العقل ألا يكتفي بمجرد النظر إلى هذا الكون بل لابد أن يخترق ظواهره ليكتشف ماذا في داخله، قال تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمـٰـوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ يونس: آية 101، ومعلوم أن الأمر بالنظر في الشيء أعلى درجة من مجرد النظر إلى الشيء، فليصعد الإنسان إلى القمر – إن شاء – أو إلى ما شاء من الكواكب، وليهبط – إن شاء – في باطن الأرض مكتشفًا وباحثاً فإن ذلك كله مطلب شرعي في منهج القرآن، لأن رسالة الإنسان في الكون واستعمار الأرض لاتتم إلا بذلك، وحين يخاطبنا القرآن بقوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيْهَا﴾ هود: آية 61، فإنه يطلب منا بصيغة الأمر أن نعمل على عمارة الأرض بكل ما نستطيع، والتقصير في تنفيذ هذا الأمر معصية جماعية تجني الأمة ثمرتها فقرًا ومرضًا ومذلةً وهوانًا وتخلفًا وتبعيةً لأمم الأرض.

 

العقل والكون

       وحين يذكرنا القرآن بأحوال الأمم السابقة وكيف جرت عليهم السنن الإلهية في الكون من ازدهار للحضارات أو انهيار لها، فإن ذلك كان على سبيل التعليم والإفادة من الدرس والعبرة من التاريخ، ليكون تاريخ الإنسان نفسه مجالاً رحبًا لعمل العقل ليتعرف منه على أساس ازدهار الحضارات وانهيارها، ليعي العبرة من قصص القرآن لهذه السنن وعلاقتها بالأفراد والجماعات، فالكون كله مسرح للعقل وميدان لعمله، وتاريخ الإنسان كله مسرح لنظر العقل، والعقل مهيأ للسيطرة الكلية على الكون واحتواء تاريخه، فكرًا وتأملاً، مقدمات ونتائج، علاقات بين الأشياء، أسباب ومسببات، تسخيرًا وتوظيفًا، وتلك مهمة العقل ووظيفته في عالم الشهادة، وذلك واجبه الشرعي الذي ندبه القرآن له وحثه عليه وأمره به.

       وليس من قبيل المصادفة أن يلفت القرآن نظر المسلم إلى بعض آيات بعينها من آيات الله في كونه جعلها اسمًا وعلمًا على بعض سور القرآن، وكأنه يقول للعقل في هذه اللفتة: تلك قضية تحتاج إلى نظر وتدبر، وقد يقرأ المسلم هذه الآيات دون أن يعيرها حقها من النظر والتدبر مع أنها تحتاج من القارئ أن يقف أمامها طويلاً وطويلاً، لأنها جاءت بصورة شاملة لكل أنواع الموجودات غالبًا.

       1- فهناك آيات تنتمي إلى عالم الحشرات جاءت علمًا على بعض السور للقرآن، مثل سورة النحل، سورة النمل، سورة العنكبوت.

       2- وهناك آيات تنتمي إلى عالم الأفلاك والطبيعة كانت علمًا على بعض سور القرآن، مثل سورة الشمس، سورة القمر، سورة الرعد.

       3- وهناك آيات تنتمي إلى عالم النبات، مثل سورة التين والزيتون.

       4- وآيات تنتمي إلى عالم الحيوان، مثل سورة البقرة، سورة الأنعام.

       5- آيات تنتمي إلى عالم الزمان وبعض أوقاته، مثل سورة الليل، سورة الضحى، سورة العصر، سورة الفجر.

       6- آيات تعبر عن الكون كله، سورة الملك.

       7- آيات تعبر عن أصل الإنسان في بعض مراحله، سورة الإنسان.

 

القسم في القرآن الكريم

       ويقسم القرآن ببعض الآيات تنبيهًا للعقل إلى أهميتها في حياة الإنسان وإلى ضرورة الاهتمام بها فكرًا وتأملاً وتوظيفًا: ﴿فَلآ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوْمِ * وَإِنَّه لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُوْنَ عَظِيْمٌ﴾ الواقعة: الآيتان 75، 76.

       ﴿فَلآ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُوْنَ وَمَالاَ تُبْصِرُوْنَ﴾ الحاقة: آية 38.

       ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ التكوير: الآيتان 17، 18.

       ﴿فَلآ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ الانشقاق: الآيات 16 – 18.

       هذه بعض آيات الله في كونه التي يستحث العقل ويدفعه دفعًا للنظر والتأمل فيها، وهذا الكون هو عالم العقل ومسرحه الحسي الذي يملك العقل أدوات التعامل معه، ويستطيع السيطرة عليه إن شاء على قدر استطاعته، يجعل القرآن عمل العقل فيه وتعامله معه مطلبًا شرعيًا وواجبًا دينيًا وعبادة يتقرب بها إلى الله يعاقب المجتمع كله على التفريط فيه أو الإعراض عنه.

       ومن الأمور اللافتة للانتباه أن الآيات السابقة تتسع دائرتها لتشمل الكون كله من عالم الأفلاك إلى عالم النبات وعالم الجماد، فليس في الكون ماهو غريب على العقل، وليس فيه ماهو فوق مستوى الإدراك العقلي، أو يعز على العقل مناله، فالكون كله موضوع بحثه وموضوع كده وكبده، وحين يعمل العقل ويستفرغ وسعه بحثًا وفكرًا وتأملاً يكون حينذاك في عبادة شرعية لله، وكلما ازداد عمله وعلمه ازداد لله خشية ومن الله قربًا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.

       وينبغي أن يبدأ توظيف العقل في عالم الشهادة من هذا المنطلق القرآني، ومن خلال تحديد القرآن لوظيفته في هذا الكون: لقد ندبه للنهوض بها وأتمنه عليها، وطلب منه إعمار الكون تبعاً لهذا المنهج باكتشاف القوانين، والتعرف على العلاقات السببية الكامنة في الأشياء، ليسخر الكون كله لخدمة الإنسان وتحقيق مصالحه، وليحقق في ذلك معنى الاستخلاف عن الله في الأرض.

       ومن جانب آخر فإن النكوص عن أداء هذه الوظيفة إهدار لطاقة العقل وضياع لرسالة الإنسان، وجريمة في حق الدين والدنيا معاً، وعلاقة العقل بعالم الشهادة على هذا النحو السابق تقوم على أسس معينة يعتبرها القرآن أركاناً لتكليف العقل بهذه الوظيفة، بحيث إذا تخلف ركن منها سقط عن الإنسان ما يقابله من التكاليف الشرعية.

       1- إن العقل يملك القدرة المؤهلة له للتعرف على هذا العالم واكتشاف قوانينه وتحديد العلاقات السببية بين أنواعه، ليجعل منه مملكته التي استخلفه الله عليها.

       2- إن الله تعالى قد زود الإنسان بالحواس الخمسة، وجعلها جنودًا للعقل يتعرف بها على كل محسوس، وفي نفس الوقت هي مناط مسؤولية الإنسان أمام الله يوم القيامة، إذا أساء استعمالها أو أهمل توظيفها ﴿إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُوْلاً﴾ الإسراء: آية 36، والتكاليف الشرعية منوطة بهذه الأدوات المعرفية وجودًا وعدمًا، فإذا تخلف واحد منها سقط عن الإنسان ما يقابلها من التكاليف الشرعية، ولذلك كان من القواعد الأصولية: إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب، وقال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ الطلاق: آية 7.

       3- هذه الحواس هي روافد المعرفة العقلية عن عالم الشهادة، هي جواسيس العقل وعيونه حسب تعبير الغزالي وبدون هذه الجواسيس لا يستطيع العقل أن يعلم شيئًا يقينيًا عن عالم الشهادة، فمن فقد حاسة البصر فاته العلم بعالم المرئيات، ومن فقد حاسة السمع فاته العلم بعالم المسموعات وهكذا شأن بقية الحواس.

       فكل حاسة مسلطة على عالم معين تتعرف عليه وتنقل إلى العقل أحساسها بهذا العالم المعين.

       حاول – أيها القارئ – أن تتخيل معى إنسانًا خلقه الله بدون هذه الحواس الخمسة. ماذا يمكن أن يتكون لديه من معلومات يقينية عن هذا العالم الحسي؟، ولذلك كان من الأصول المعرفية أن من فقد حسًّا فقد علمًا، فمن العبث أن تسأل الأعمى عن الفرق بين الأسود والأبيض، أو تسأل الأصم عن الفرق بين صوت الإنسان وصوت الحمار، وهذا المعنى يصدق على من يملك الحواس لكنها تعطلت عن العمل لوجود الآفة بها أو وجود مانع قوي كالمريض بالصفراء مثلاً فإنه قد يحس طعم العسل مرًّا والذي على بصره غشاوة قد يرى الأشياء على غير ماهي عليه، فيرى الصغير كبيرًا والكبير صغيرًا.

       4- أن ما غاب عن حواس الإنسان وتجربته الشخصية، في هذا العالم فقد غاب عن العقل العلم اليقيني به عن هذا الطريق، طريق التجربة الحسية، لكن قد يعلمه عن طريق آخر غير تجربته هو، كان يعلمه عن طريق خبر المعصوم صلى الله عليه وسلم مثلاً أو عن طريق ما تواتر العلم به عن الأمم السابقة.. إلى غير ذلك من طريق العلم الآخر، فكل ما ثبت صدقه عن طريق تجريب الغير له وتم العلم به لزم الأخذ به والعمل بمقتضاه ممن لم يجرب بنفسه، وهذا في عالم الشهادة معلوم بالاضطرار من كل أحد.

       فالمريض لايسوغ له أن يمتنع عن تناول الدواء الذي وصفه الطبيب بدعوى أنه لم يجربه قبل ذلك بنفسه، والأعمى لايسوغ له أن ينكر ضوء الشمس بحجة أنه لم يره بنفسه. وهكذا يتواتر العلم لدى العامة والخاصة بكلما ثبت صدقه مما جربه غيرنا ولم تدركه حواسنا، وأصبح العلم به، والعمل بمقتضاه لازماً لنا لزوم ما جربناه بأنفسنا وأدركناه بحواسنا، ولا فرق في ذلك بين ما جربه.

       الشخص بحواسه وما جربه غيره، فالأخذ بكل منهما ضرورة عقلية كمصدر من مصادر المعرفة.

       ويدخل تحت ما جربه غيرنا العلم بأخبار الأمم الماضية، والأخبار المتعلقة بالعصر الذي نعيشه مما لم يقع منه تحت حواسنا، وما جربه غيرنا منها، كالعلم بسور الصين العظيم، وأن الكعبة في مكة وأن الهرم الأكبر بالجيزة في مصر وكالعلم بنبوة الأنبياء السابقين.

       ومما ينبغي أن يعلم أن هناك أمورًا كثيرة يقتصر العلم بها على مجرد الإخبار عنها فقط لأن الحواس لا تنالها بسبب غيابها عن الحواس، وليس لنا طريق إلى العلم بها إلا الخبر المتواتر، وهذا يشمل علمنا بتاريخ الإنسانية كله فإنه لم ينقل إلينا إلا عن هذا الطريق، ومن العبث إنكار تاريخ الأمم الماضية بدعوى عدم التجريب أو عدم السماع له.

 

صفر - ربيع الأول 1430هـ = فبراير - مارس  2009م ، العـدد : 2-3  ، السنـة : 33