المعاهدات الدولية ومشروعيتها

 

بقلم : الأستاذ الدكتور عثمان جمعة ضميرية

 

أولاً – المعاهدة في اللغة :

       عهد: العين والهاء والدال، أصل يدلُّ على الاحتفاظ بالشيء وإِحداث العهد به، إِذ من شأنه أن يُراعى وَيُتَعَهَّدُ، وإِليه ترجع فروع هذا الباب فمن ذلك:

       العهد؛ وهو حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال. وهو أيضًا: العقد والموثق واليمين، وجمعه عهود، ومنه قوله تعالى:

       ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ (النحل:91)، وقوله: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ﴾ (الأنفال: 72)، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمُنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة:1)

       والعهد أيضًا: الوصية والتقدُّم إِلى المرء بالشيء أو بالأمر، يقال: عهد الرجل يعهد عهدًا؛ قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾ (يس:60) ومنه اشتقاق العهد الذي يكتب للولاة.

       وهو أيضًا: الوفاء والحفاظ على الحرمة ورعايتها؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ﴾ (الأعراف:102) أي من وفاء.

       والعهد أيضًا: الأمان والذمة؛ تقول: أنا أُعْهِدُك من هذا الأمر. أي: أؤمِّنك منه؛ ومن هنا قيل للحربي الذي يدخل دار الإسلام بالأمان: ذو عهد ومعاهد؛ وعاهد الذميَّ: أعطاه عهدًا فهو مُعَاهِدْ ومُعَاهَد.

       وأهل العهد: هم المعاهَدون، أي: إِنهم يعاهَدون على ما عليهم من جزية، فإِذا أسلموا ذهب عنهم اسم المعاهدة.

       والتعهد: التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، يقال: تهدتُ فلانًا، وتهدتُ ضيعتي. وهو أفصح من قولك: تعاهدته، لأن التعاهد إِنما يكون بين اثنين.

       والعهيد: الذي تُعاهده ويعاهدك.

       والعهْدة: الوثيقة بين المعاقدين، وكتاب الحلْف والشراء والمبايعة. ويقال: استعهد من صاحبه: اشترط عليه وكتب عليه عهدة، لأن الشرط عهد في الحقيقة.

       والمعاهدة والاعتهاد والتعاهد بمعنىً واحد. وهي: المعاقدة والمحالفة. يقال تعاهد القوم. أي: تحالفوا. فالمعاهدة ميثاق بين اثنين أو جماعتين، لأنها على وزن "مفاعلة"، وهي تدل على المشاركة فلابد أن تكون بين طرفين(1).

       واستحدث مجمع اللغة العربية بالقاهرة تعريفًا للمعاهدة بأنها: اتفاق بين دولتين أو أكثر لتنظيم علاقات بينهما(2).

 

ثانيًا – المعاهدة عند الإمام محمد:

       استعمل الإِمام محمد ألفاظاً متعددة للتعبير عن معنى المعاهدة كالموادعة، والعهد، والمراوضة، والهدنة، والمصالحة، والمتاركة، والمسالمة(3). وغالبًا ما يختار لفظ الموادعة والمعاهدة دون المسالمة والمصالحة، لأنه لامسالمة ولا مصالحة حقيقة بين المؤمنين والمشركين. وإِنما تكون بينهم المعاهدة، كما قال الله تعالى:

       ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِيْنَ﴾ (التوبة:1).

       والمعاهدة عند الإِمام محمد هي: موادعة المسلمين والمشركين سنين معلومة(4).

       وأخذ هذا المعنى فقهاء الحنفية فقال السَّمَرْقَنْدِيّ في تعريف الموادعة: هي الصلح على ترك القتال مدة بمالٍ أو بغير مال(5). وعرَّفها الكاسانيُّ بأنها: الصلح على ترك القتال مؤقتًا(6).

       وبنحو هذا عرَّفها فقهاء الحنابلة(7).

 

ثالثًا – ألفاظ ومصطلحات أخرى:

       يطلق فقهاء الحنفية على المعاهدة ألفاظاً أخرى أيضًا مثل: المواضعة والمقاضاة(8)، ويسميها غيرهم الأمان والاستئمان(9). وبعضهم يسميها المهاودة(10).

       وهذه الألفاظ بعضها مترادف كالمهادنة والموادعة والمعاهدة والمسالمة والاستئمان والصلح، والباقي منها متباين(11).

       ونلمح بإِيجاز إلى معاني هذه المصطلحات:

       فالموادعة: مأخوذة من وادعتُه موادعة، أي: صالحته؛ فالموادعة هي المصالحة، سميت بذلك لما فيها من ترك القتال، والوَدْع هو الترك، أو من الدَّعة وهي الراحة، لحصول الراحة من القتال في تلك المدة. ولذلك تسمى أيضًا: المتاركة، فهي تقتضي منح الموادعين من أهل الحرب صفة المستأمنين بإعطائهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ونسائهم، ولذلك عرّفها بعض فقهاء الحنفية بأنها طلب الأمان وترك القتال(12).

       ويعرفها كثير من الفقهاء بتعريف المهادنة الآتية لأنهما لفظان مترادفان.

       والمهادنة أو الهدنة: مأخوذة من قولهم: هَدَنَ يَهْدِنُ هُدُونًا. والهدون هوالسكون؛ يقال هادنه مهادنة، أي: صالحه مصالحة – على وزن مفاعلة – وهَدَنَه، أي: سكّنه، والاسم منه: الهدنة، وإِذا سكنت الفتنة بين فريقين كانا يقتتلان – على شرط تراضيا به، ومدةٍ جعلا لها غاية على ألاَّ يهيج واحد منهما صاحبه – فذلك : المهادنة(13).

       وعرَّفها ابن عرفة بأنها: عقد المسلم مع الحربي على المسالمة مدة ليس فيها تحت حكم الإِسلام(14).

       وعرَّفها فقهاء الشافعية بأنها: عقد يتضمن مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدةً بعوض وبغير عوض(15).

       وعرَّفها فقهاء الحنابلة بأنها: عقد على ترك القتال مدة معلومة لازمة، بعوض وغيره(16).

       العَهْدُ: هو حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال – كما تقدم آنفًا – ثمَّ استعمل في الموثق الذي تلزم مراعاته؛ وهو المراد في هذا البحث(17).

       المُصَالَحَةُ: وهي بمعنى الصلح والتصالح، بخلاف المخاصمة والتخاصم(18).

       المُقَاضَاة: وهي الفصل والحكم في القضية تكون بين اثنين(19).

       المُتَارَكَةُ: يكنى بها عن المسالمة والمصالحة(20).

       المُسَالَمَةُ: وهي بمعنى المصالحة. يقال: سالمه مسالمة وسلامًا(21).

       ويفرِّق العلماء بين هذه الألفاظ: كما فعل أبوهلال العسكري حيث قال: "الفرق بين العقد والعهد: أن العقد أبلغ من العهد؛ تقول: عهدت إِلى فلان بكذا؛ أي: ألزمته إِياه، وعقدت عليه وعاقدته: ألزمته باستيثاق؛ وتقول: عاهد العبد ربّه، ولاتقول: عاقد العبد ربه؛ إِذ لايجوز أن يقال: استوثق من ربه..

       والفرق بين العهد والميثاق: أن الميثاق توكيد العهد، من قولك: أوثقت الشيء، إِذا أحكمت شدّه، وقال بعضهم: العهد يكون حالاً من المتعاهدين، والميثاق يكون من أحدهما"(22).

       وفي القانون الدولي الحديث تطلق المعاهدة على الاتفاقيات الدولية الهامة ذات الطابع السياسي، كمعاهدات الصلح أو التحالف. وماعداها – كالأمور الاقتصادية والفنية – يطلق عليه كلمة "اتفاقية" أو "اتفاق"، وتستمل كلمة "عهد" و"ميثاق" للمعاهدات المنشئة للمنظمات الدولية... ولكن جرى العمل على استعمال هذه الألفاظ بالترادف، فليس لها ضابط محدد(23).

 

المبحث الثاني

مشروعية المعاهدات

       يبني الإِمام محمد بن الحسن – رحمه الله – مشروعية المعاهدات مع أهل الكفر على تحقيق مصلحة المسلمين والحفاظ على عزتهم وكرامتهم التي تتحقق بالقيام بفريضة الجهاد في سبيل الله تعالى، ولذلك يميّز بين حالتين، يمنع في إِحداهما المعاهدات ويبيحها في الأخرى.

       (أ) فإِذا كان بالمسلمين قوة على أهل الشرك فلاينبغي موادعتهم، لأن فيه تَرْك الجهاد المأمور به صورةً ومعنىً، أو تأخيره، وذلك مما لاينبغي للأمير أن يفعله من غير حاجة، لأن الله تعالى يقول: ﴿ولاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْنَ﴾ (آل عمران:139). ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَترَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد:35).

       (ب) والحال الثانية، إِن لم يكن بالمسلمين قوة على المشركين ولاقدرة على الجهاد والقتال، فلا بأس عندئذ بالموادعة، لأن الموادعة خير للمسلمين في هذه الحالة(24).

       ويدل على مشروعية الموادعة في هذه الحال ماجاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ووقائع السيرة والمعقول؛ وقد أشار الإِمام محمد إلى ذلك واستشهد به.

       1- فمن القرآن الكريم، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال:61).

       ففي الآية الكريمة دلالة على مشروعية المصالحة والموادعة إِذا طلبها المشركون ومالوا إِليها، وإِذا كان في الصلح مصلحة فلا بأس أن يبتدئ به المسلمون إِذا احتاجوا إِليه(25).

       وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ..﴾ (النساء:92)، والآية الكريمة في بيان ما يترتب على قتل رجل من الكفار الموادعين الذين بيننا وبينهم عهد، ففيها دليل على مشروعية الدخول في الموادعة والمعاهدة التي سماها الله تعالى في هذه الآية ميثاقًا، لأنها عهد وعقد مؤكِّد(26).

       وقال الله تعالى في استثناء المعاهدين من القتل: ﴿إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ (النساء:90)، فهؤلاء يرتبطون بقوم بينكم وبينهم ميثاق وصلح وعهد، فلاسبيل للتعرض لهم بسبب تركهم للقتال بهذه الموادعة التي انضموا إِليها مع موادعيكم. فهي واضحة الدلالة في مشروعية المعاهدات(27).

       2- ومن السنة النبوية وأحداث السيرة: وقائع كثيرة تدل على مشروعية المعاهدات، فقد استدل الإِمام محمد على جواز الموادعة بمباشرة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمين بعده:

       فقد قال محمد بن كعبٍ القُرَظِيّ: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وادعتْه يهودُها كلُّها، وكتب بينه وبينها كتابًا، وألحق كلَّ قوم بحلفائهم؛ وكان فيما شرط عليهم ألا يظاهروا عليه عدوًا، ثمَّ لما قدم المدينة بعد وقعة بدر بَغَتْ يهودُ، وقطعت ماكان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، فأرسل إِليهم فجمعهم وقال: "يامعشر يهود أسلموا تَسْلموا، فوالله إِنكم لتعلمون أني رسول الله". وفي رواية: "أسلِموا قبل أن يُوْقِعَ الله بينكم مثل وقعة قريش ببدر"(28).

       فصار هذا أصلاً بجواز الموادعة عند ضعف حال المسلمين، والإقدام على المقاتلة عند قوّتهم(29).

       واستدل أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في غزوة الخندق إِلى عُييْنَةَ ابن حصْنٍ – وفي رواية: عيينة والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان – "أرأيت لو جعلتُ لك ثلث ثمار الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان وتخذِّل بين الأحزاب؟"(30).

       وفي رواية: أرسل عيينةُ بن حصنٍ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم: تعطينا ثمر المدينة هذه السنة ونرجع عنك، ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال: فنصف الثمر؟ فقال: نعم. ثمَّ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وهما سيِّد الحيَّيْن (الأَوْس والخَزْرَج) فاستشارهما، وقد حضر عيينة وقال: اكتب بيننا كتابًا. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحيفة ودواة ليكتب بينهم – وفي رواية: فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إِلا المراوضة – فقالا: يارسول الله أُوْحِيَ إِليك في هذا؟ فقال: لا، ولكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقلت أردُّهم عنكم. فقالا: يارسول الله، والله إِنهم ليأكلون العِلْهز(31) في الجاهلية من الجهد، وماطعموا منّا قطٌّ أن يأخذوا ثمرةً إِلا بشراء أو قرى، فحين أكرمنا الله وهدانا بك وأيَّدَنا بك نعطي الدنيّة؛ لانعطيهم إِلا السيف؛ فشق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة وقال: اذهبوا، لانعطيكم إِلا السيف(32).

       كما استدل أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، يأمن فيها الناس، وعلى أن بينهم عَيْبَةً مكفوفة، وأنه لا إِسلال ولا إِغلال(33)، وعلى أن من جاءه منهم مسلمًا ردَّه إِليهم ومن جاءهم من عنده لايردُّونه إِليه(34).

       3- ومما يدل على مشروعية المعاهدة والموادعة: أن المقصود بها هو الدعوة إِلى الإسلام بأرفق الطرق وأسهلها، والتزام بعض أحكام المسلمين، وهي في هذا تشبه عقد الذمة وشاهد ذلك أيضًا: أنّ صلح الحديبية كان سببًا لاختلاط الكفار بالمسلمين وسماعهم للقرآن والدعوة، ودخل في الإسلام في مدة الهدنة مَنْ شاء الله تعالى أن يدخل فيه.

       كما أن الموادعة أيضًا هي جهاد معنىً، أو هي من تدبير القتال والجهاد، فإن على المقاتل أن يحفظ قوة نفسه أولاً، ثمَّ يطلب العُلُوَّ والغلبة إِذا تمكن من ذلك. وربما يكون في الموادعة حفظ لقوة المسلمين(35).

       وللإِمام الجصَّاص – رحمه الله – لكمة جامعة في الاستدلال لمشروعية المعاهدات عند الحنفية وحكمة تشريعها، على التفصيل السابق عند الإِمام محمد، يقول فيها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد حين قدم المدينة أصنافًا من المشركين، منهم بنو النضير وبنو قينقاع وقريظة، وعاهد قبائل من المشركين، ثمَّ كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إِلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة – حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم – ولم يختلف نَقَلَةُ السِّير والمغازي في ذلك؛ وذلك قبل أن يكثر أهل الإسلام ويقوى أمر الدين.

       فلما كثر المسلمون وقوي أمر الدين، أُمِرَ بقتل مشركي العرب، ولم يقبل منهم إِلا الإِسلام أو السيف، وأمر بقتال أهل الكتاب حتى يُسلموا أو يعطوا الجزية.

       ولم يختلفوا أن سورة براءة التي فيها الأمر بالقتال، من آخر مانزل من القرآن، وسورةَ الأنفال – وفيها الأمر بالمسالمة – نزلتْ عقيب بدر، بيَّن فيها حكم الأنفال والغنائم والعهود والموادعات؛ فَحُكْمُ سورة براءة مستعملٌ على ما ورد، وماذكر من الأمر بالمسالمة إِذا مال المشركون إِليها (في سورة الأنفال) حكمٌ ثابتٌ أيضًا؛ وإِنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين، فالمسالمة والمهادنة في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوِّهم، والحال التي أمر فيها بالقتال هي حال كثرة المسلمين وقوَّتهم على عدوِّهم"(36).

       وبمثل هذا الذي قاله الإِمام محمد قال جمهور العلماء، فقد نصَّ فقهاء المالكية على أن الجهاد إِذا كان فرض عين فلا تجوز الموادعة، وإِذا كان فرض كفاية فالصلح جائز لمصلحة يراها الإِمام بحسب اجتهاده.

       وقال الشافعي: إِذا كان الإمام مستظهرًا بالقوة ولم يكن في الهدنة مصلحة لم يَجُزْ عقدها.

       وقالت الحنابلة: لا تصح الهدنة والموادعة إِلا حيث جاز تأخير الجهاد وحيث تدعو إِليها الضرورة، كأن يكون بهم ضعف، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين(37).

       وإذا شرعت المعاهدات فإِنها تتنوع حسب وجهة النظر إِليها، فقد تكون مؤبَّدة كعقد الذمة، وقد تكون مؤقتة كالأمان والهدنة والموادعة، وقد تكون مطلقة عن الوقت في هذه العقود نفسها.

       ومن حيث موضوعها: قد تكون معاهدات لوضع الحرب كالهدنة، وقد تتعلق بأمور التجارة ونحوها.

       ومن جهة مَنْ تُعْقَد معهم: قد تكون ثنائية وقد يتعدد أطرافها فينضم إِلى أحد الطرفين من يدخل في عهده كما في صلح الحديبية.

       ومن ناحية أخرى: قد تكون مع المشركين وقد تكون مع المرتدِّين ومع البُغَاة من المسلمين. ولكلِّ منها أحكام تخصُّها(38).

 

الهوامش:

(1)  أنظر: "معجم مقاييس اللغة": 4/167-170، "الصحاح": 2/515-516، "ترتيب القاموس المحيط": 3/335-336، "لسان العرب": 3/311-315، "المصباح المنير": 2/435، "الكليَّات": 3/255، "النظم المستعذب": 3/340، "المغرب في ترتيب المعرب": 2/91-92، "تأويل مشكل القرآن" ص(447-448)، "التعريفات" ص(204)، "النهاية في غريب الحديث":3/325، "مفردات القرآن" ص (350-351). وراجع "العهد والميثاق في القرآن الكريم" د. ناصر سليمان العمر ص (17-19).

(2)     "المعجم الوسيط" إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة: 2/134.

(3)  "السِّير الكبير" مع شرح السرِّخسي : 2/409-419، 461و 5/1689-1697، وفي مواضع أخرى كثيرة، "السير" من "كتاب الأصل" ص (164-166). وراجع: "المبسوط": 10/85، "البدائع": 9/4324، "الهداية" مع "فتح القدير" و"العناية" 4/292، "درالمنتقى": 1/638.

(4)     "السير الكبير": 5/1780.

(5)     "تحفة الفقهاء" للسمرقندي: 3/507.

(6)     "بدائع الصنائع" للكاساني: 9/4324.

(7)     انظر: "الإنصاف" للمرداوي: 4/211، "كشاف القناع" للبهوتي: 3/103.

(8)     انظر: "المغْرِب في ترتيب المعرب" للمطرزي: 2/184.

(9)     انظر: شرح حدود ابن عرفة" للرصَّاع المالكي: 1/226.

(10)"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري: 1/226.

(11)"شرح حدود ابن عرفة" للرصَّاع المالكي 1/226.

(12)انظر: "البدائع": 9/4324، "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق": 3/245، "حاشية الشرقاوي على التحرير": 2/466، "المغرب": 2/346، "النظم المستعذب": 2/8، "الزاهر" ص (398)، "المصباح المنير" : 2/653.

(13)انظر: "كشاف القناع" للبهوتي: 3/103، "المغرب": 2/381، "النظم المستعذب" لابن بطَّال: 2/308، "الزاهر" للأزهري ص (397-398)، "المصباح المنير" للفيومي ص (636).

(14)"حدود ابن عرفة" مع شرح الرصّاع: 1/226. وانظر: "الشرح الكبير" للدر دير: 2/206، "المعيار المعرب" للونشريسي:2/209.

وعرّفها الشيخ محمد عليش، من متأخري المالكية، بأنها "توافق إِمام المسلمين والحربيين على ترك القتال مدة..." وبذلك يخرج اتفاق من سوى الإِمام من المسلمين، فإذا حصل منه فلا يتم ولو كان أمير السرية". انظر: "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإِمام مالك" للشيخ عليش: 1/392.

(15)انظر "شرح التحرير" للشيخ زكريا الأنصاري: 2/465-466، "فتح الوهاب" وحاشية البحيرمي: 4/258، "نهاية المحتاج" للرملي: 8/106، "مغني المحتاج": 4/260، "شرح المحلي على المنهاج": 4/237. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر: 6/259.

(16)انظر: "المبدع": 3/398، "المغني": 9/509، "غاية المنتهى" مع "مطالب أولي النهى": 2/585-586.

(17)انظر: "التعريفات" للجرجاني ص (204). وراجع آنفًا التعريف اللغوي.

(18)انظر: "المُغْرِب" للمطرِّزي: 1/479.

(19)"لسان العرب": 15/186.

(20)"المُغْرِب": 1/104.

(21)"المصباح المنير": 1/287.

(22)"الفروق اللغوية" العسكري ص (42-43). وراجع: "الفوائد في مشكل القرآن" للعز بن عبد السلام ء (97)، "أحكام القرآن" لابن العربي: 2/525، "العهد والميثاق في القرآن الكريم"، د. ناصر سليمان العمر ص (44-47)، "أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية" د. محمد طلعت الغنيمي ص (49-50) "المعاهدات الدولية في الشريعة" د. أحمد أبو الوفا محمد ص (10-21).

(23)انظر: "القانون الدولي" د. أبوهيف، ص(525)، حسني جابر، ص(187-188)، د. حامد سلطان، ص(157)، د. حافظ غانم، ص (556-558)، "قواعد العلاقات الدولية" د. جعفر عبد السلام، ص(367-369).

(24)"السير الكبير" بشرح السرخسي: 5/1689، "كتاب السير" من "الأصل" ص (165)، "المبسوط": 10/86، "تبيين الحقائق": 3/245-246، "أحكام القرآن" للجصاص: 3/69-70.

(25)انظر: "تفسير الطبري": 14/40، "البغوي": 3/373، "أحكام القرآن" للجصاص: 3/69-70، 6/275، "عمدة القارئ بشرح البخاري": 15/95.

(26)انظر: "تفسير البغوي": 5/263، و"القرطبي": 5/325، "أحكام القرآن" للجصاص: 2/239 و"أحكام القرآن" لابن العربي: 1/477.

(27)انظر: "تفسير الطبري": 9/24-25، "تفسير البغوي": 2/260.

(28)"السير الكبير" : 5/1690. وأخرج القطعة الأولى في موادعة يهود كلّها: البلاذري في "أنساب الأشراف": 1/286، وذكرها الشافعي في "الأم": 4/129 وأبوعبيد في "الأموال" ص (232) ومابعدها، وراجع بالتفصيل تخريجًا لفقرات المعاهدة في "مجموعة الوثائق السياسية" د. محمد حميد الله ص(57-59)، "المجتمع النبوي في عهد النبوة" د. أكرم ضياء العمري، ص (107) ومابعدها، والبحث نفسه في "مجلة كلية الإمام الأعظم" العدد الأول، 1392هـ (ص(40) ومابعد.

وأبما بغي يهود ثمّ ماتلاه من أخراجهم من المدينة فهو ثابت في "الصحيحين" انظر: "صحيح البخاري": 6/329 ومابعدها، "صحيح مسلم": 3/1387-1388، وراجع جملة الأحاديث عن هذا في "جامع الأصول" لابن الأثير: 8/218، 225. وانظر ماكتبه الدكتور العمري في المرجع نفسه ص(137-157)، والعلامة أبوالأعلى المودودي في "شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية" ص(223) فمابعده.

(29)"شرح السير الكبير" للسرخسي، المرجع السابق.

(30)أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى": 2/73، وابن إسحاق في "السيرة": 2/223، وأبويوسف في "الخراج" ص(225)، وعبد الرزاق في "المصنف": 5/267-368، وابن زنجوية في "الأموال": 1/399 وأبو عبيد في "الأموال" ص (189-190)، والبيهقي في "دلائل النبوة": 4/430-431، والواقدي في "المغازي": 2/477-479.

وانظر : "تلخيص الحبير" لابن حجر: 4/131، "مجموعة الوثائق السياسية"، ص(74-75).

(31)العِلْهز – بكسر العين – القراد الضخم، وطعام من الدم والوبر كان يُتخذ في أيام المجاعة.

(32)انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة: 14/420، "مجمع الزوائد" للهيثمي: 6/132، "المغازي" للواقدي، المصدر السابق، "إمتاع الأسماع" للمقريزي: 1/235.

(33)العيبة هي ما يوضع فيه المتاع، والمكفوفة: المشدودة بشرجها، والمراد: أن بيننا صدورًا سليمة وعقائد صحيحة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا. وقوله: "لا إِسلال ولا إِغلال" أي: لا سرقة ولا خيانة، والمراد: يأمن بعضنا بعضًا في نفسه وماله، انظر: "معالم السنن" للخطابي: 4/81، "المجازات النبوية" للشريف الرضي، ص(103).

(34)حديث صلح الحديبية أخرجه البخاري في كتاب الشروط: 5/312و 329-333، ومسلم في الجهاد والسير: 3/1409-1413 مختصرًا. ورواه الإمام أحمد في "المسند": 4/322-326 مطولاً.

وذكر المدة وأنها عشر سنين: ابن إِسحاق في "السيرة": 2/316-317 بإسناد رجاله ثقات وقد صرّح فيه بالسماع، وأبوداود في الجهاد، باب الصلح: 4/80-81، وجزم بهذه المدة ابن سعد في "الطبقات": 2/97، والبهقي: 9/222، والإمام أحمد في المسند المرجع السابق.

ووقع في "مغازي ابن عائذ" من حديث ابن عباس وغيره أن المدة كانت سنتين، وكذلك عند موسى ابن عقبة من حديث عروة مرسلاً والبيهقي في المرجع السابق. ويجمع بينهما بأن ما قاله ابن إسحاق هي المدة التي وقع عليها الصلح، والذي ذكره ابن عائذ وغيره هي المدة التي انتهى إليها أمر الصلح حتى وقع نقضه على يد قريش.

وأما ماجاء في "الكامل" لابن عدي، و"المستدرك" للحاكم، و"الأوسط" للطبراني، و"الأموال" لأبي عبيد ص(186) من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده: منكر مخالف للصحيح.

انظر: "فتح الباري": 5/343، "تلخيص الحبير": 4/130، "نصب الراية": 3/388، "زاد المعاد": 3/140، "فتح القدير" للكمال بن الهمام: 4/293، "نيل الأوطار" للشوكاني: 8/56.

(35)انظر: "شرح السير الكبير": 5/1689و 1724، "المبسوط<: 10/86.

(36)"أحكام القرآن" للجصَّاص : 3/69-70.

(37) انظر بالتفصيل: "الشرح الكبير" للدردير: 2/205، 206 "المعار المعرب" للونشريسي: 2/207-208، "الأم": 4/108 ومابعدها، "المهذب" مع المجموع: 18/221-222، "المغني": 10/509-510، "مطالب أولى النهى": 3/586، "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى ص (49)، "البحر الزخار": 6/446، "فتح العلي المالك": 1/390-391، "السيل الجرار": 4/565، "بدائع السلك في طبائع الملك" لابن الأزرق: 2/576-577.

 

صفر - ربيع الأول 1430هـ = فبراير - مارس  2009م ، العـدد : 2-3  ، السنـة : 33