اجتنب هذه المحاذير

 

بقلم : الشيخ إبراهيم الدسوقي

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظنّ فإن الظنّ أكذب الحديث ولا تحسّسوا ولاتجسّسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولاتدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله تعالى. المسلم أخو المسلم لايظلمه ولا يخذله ولايحقره. بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ ماله ودمه وعرضه، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صُوَركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. التقوى ههنا. التقوى ههنا. التقوى ههنا. ويشير إلى صدره".

       رواه البخاري ومسلم في كتاب الأدب من صحيحهما من طرق مختلفة.

       الكلمات: الظن: قال الخطابي وغيره. ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبًا؛ بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لايمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لايكلف به، ويؤيده حديث "تجاوز الله للأمة فيما حدثت به نفسها".

       وقال القرطبي: المراد بالظن هنا: التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلاً بالفاحشة. من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها؛ ولذلك عطف عليه قوله. ولا تجسسوا وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتحسس ويبحث ويستمع فنهى عن ذلك.

       وقوله أكذب الحديث: المراد عدم مطابقة الظن للواقع قولاً أو فعلاً، ويحتمل أن يراد بالظن ما ينشأ عنه فيوصف به مجازًا.

       وقوله: ولاتحسسوا ولا تجسسوا، يحذف إحدى التاءين تخفيفًا كبقية المناهي في الحديث، والأصل ولا تتحسسوا ولا تَتَجسسوا... الخ.

       ولاتحاسدوا: الحسد تمنى الشخص زوال النعمة عن متسحق لها.

       هذا، وإذا كان للمسلم أن يتوقى شرًا يخافه – حسدًا أو غيره فقد علَّمنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما به يدفع الله الأذى عنه. روى النسائي بسنده إلى ابن عائش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "يا ابن عائش، ألا أدلك أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون. قال بلى يا رسول الله قال: قل أعُوْذُبِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أعُوْذُبِرَبِّ النَّاسِ. هاتان السورتان".

       ولا تدابروا، أي لاتتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه وقال ابن عبد البر قيل للإعراض مدابرةً لأن مَنْ أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره والمحب بالعكس، وقيل: لا يستأثر أحدكم على الآخر أى بشيء دونه.

       ولاتباغضوا، أي لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأن البغض لا يكتسب ابتداءً. وقيل المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض.

       وقوله صلى الله عليه وسلم: "كونوا عباد الله إخواناً" أي اكتسبوا بما جاء في الحديث وتطبيقه في حياتكم، ما يوثق عرى الأخوة بينكم ويدعو إلى الألفة وعدم النفرة.

       وقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخوالمسلم لايظلمه ولا يخذله ولايحقره" أى يستصغر شأنه ويضع من قدره لأن الله تعالى لما خلقه لم يحقره؛ بل رفعه وخاطبه وكلفه؛ فاحتقاره تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء وهو ذنب عظيم.

       وقوله كل المسلم – إلى آخر الحديث: التقوى هي اجتناب ما يغضب الله بفعل المأمور وترك المحظور والإشارة إلى الصور في الحديث تنبيه إلى أن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى وحدها، ولكن تحصل بما يقع في القلب من عظيم خشية الله ومراقبته؛ ومن ثم كان نظر الله بمعنى مجازاته ومحاسبته على ما في القلب من خير وشر دون الصور الظاهرة؛ إذ الاعتبار في ذلك بالقلب.

 

في دائرة الضوء

       البيان: خلق الله الإنسان وكرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه وأحاطه بسياج من التشريعات يكفل سلامته في دينه ودنياه وآخرته ويوفر له جميع مقدرات حياته في إطار من العلاقات التي توثق صلته بربه وببني جنسه وبالحياة من حوله ويعيش في ظلالها آمنًا على نفسه وماله ودينه وعرضه، ترفرف في سماء حياته الوية الأخوة التي تستثير فيه عاطفة التراحم والتعاطف والتواد وتشعره بضرورة التحلى بمكارم الأخلاق في أقواله وأفعاله والتنزه عن كل أسباب الفرقة والتردي في حمأة الرذيلة وموارد الهلكه، وهكذا حرص الإسلام في دستوره الخالد على أن يذكر بأن البشر جميعًا كلهم لآدم وآدم من تراب فإن لم تجمعهم أخوة الدين جمعتهم الأخوة الإنسانية التي تستحثهم على تقوى الله في معاملاتهم إذ يقول:

       يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ. سورة النساء – آية:1.

       ويقول:

       يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. سورة الحجرات – آية: 13.

       ولكن يحميهم من أن يجر فهم تيار المادة، ويطغى على أخوتهم الإنسانية، وحتى لا نكون الأغيار وهي المعيار الذي يتعاملون به من مال أو جاه أو ولد أو عصبية ذكرهم بأن كل ذلك هباء وأنها معايير خاطئة ما لم تتوج بتقوى الله عز وجل.

       إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقـٰـكُمْ. سورة الحجرات – آية: 13.

       فإذا كانت أخوة الإيمان هي الأخوة الحقيقية كان ضروريًا أن يثمر هذا الإيمان في صاحبه طهر السريرة ونقاء الطوية وجلاء البصيرة، فلا يجد الشيطان إليه سبيلاً يُزَين به القبيح ليراه حسنًا؛ بل إنه بإيمانه لاينظلق وراء ما توسوس به نفسه ويدعوه إليه شيطانه دون أن تتجلى له الحقيقة حتى لايتهم البريء فيقع في الإثم، وثم يقول الحق سبحانه:

       لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا. سورة النور – آية: 12.

       ويقول الرسول الكريم:

       "إياكم والظنّ فإن الظن أكذب الحديث" وليس المراد به ترك العمل الذي تناط به الأحكام، وإنما المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل؛ فإن أوائل الظنون إنما هي الخواطر ولا يمكن دفعها وما لا يمكن دفعه لا يكلف به وفي الحديث: "تجاوز الله للأمة عما حدثت به نفسها"، وقد يراد بالظن التهمة التي لا سند لها.

       ولا يدخل في الظن المحرم، الظن بمن أورد نفسه موارد الريب جهرًا ولا الظن في الأمور المعاشية ولا حسن الظن بالله، ويدخل في الظن المحظور، الظن في الإلهيات والنبوات؛ فإنه محرم والواجب فيها اليقين، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الظن بأنه أكذب الحديث، واستشكل بأن الظن عمل نفسي وأن تعمد الكذب الذي لايستند إلى ظن أصلاً أشد من الكذب الذي يستند إلى الظن، فكيف يكون الظن أكذب الحديث؟.

       والجواب أن الظن حديث نفسي فيوصف بالكذب إذا لم يطابق الواقع، أو أن المراد بالظن ما ينشأ عنه الكلام، وأما وصفه بذلك فللإشارة إلى أن المراد ظن لايعتمد على شيء؛ فهو لا يطابق الواقع فكان لذلك كذبًا وكان أكذب الحديث؛ لأن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه في الأكثر ووضوح الكذب المحض أو أن وصفه بالأكذبية مبالغة في ذمه؛ لأن الكذب معروف وصاحب الظن يعتمد بزعمه على شيء؛ فكأنه في نظره غير قبيح فقبحه بوصفه ذلك تنفيرًا منه.

 

التجسس والتحسس

       وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تحسسوا ولا تجسسوا". التحسس البحث عن عيوب الناس وتتبع عوراتهم، وأصل الكلمة من الحاسة، وبالجيم اختبار الشيء باليد، وقيل بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر، والجاسوس صاحب سر الشر، والناموس صاحب سر الخير، وقيل بالجيم تتبع الشخص لأجل غيره وبالحاء تتبعه لنفسه، والمراد النهي عن تتبع عورات الناس والبحث عن مثالبهم بأي طريق والاكتفاء منهم بالظاهر ونكل إلى الله أمر الباطن، نعم لو تعيين التجسس طريقًا لدرء مفسدة كبيرة أو جلب مصلحة لم يكن محرمًا، وذلك مثل اللجوء إليه لحماية الفرد أو الأمة من خطر عدو يتربص بالفرد أو الأمة الدوائر أو يسعى للحيلولة دون نعمة تثرى خيراتها أو تجلب لها مصلحة لم يكن محرمًا.

 

الحسد .. والوقاية

       وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تحاسدوا" أي لا يحسد بعضكم بعضًا ويتمنى زوال ما لديه من النعم إليه أو إلى غيره: ماليةً كانت أو غيرها؛ فإن هذا ينافي خلق المؤمنين الذين يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم، وقد نهى الله عن ذلك التمني فقال:

       وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ. سورة النساء – آية: 32.

       وهو داءٌ لا دواءَ له ومرض عضال من أمراض القلوب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم" أخرجه أحمد والترمذي.

       ومن الناس من إذا رأى نعمةً على مسلم لايحب زوالها ولا يكره وجودها ودوامها، ولكن تشتهي نفسه مثلها، وهذه تُسَمّىٰ غبطةً، وقد تسمى الغبطة منافسةً كما تسمى حسدًا، ومنه الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله علمًا فهو يعمل به ويعلمه الناس". متفق عليه

       وإذا كان للمسلم أن يَتَوقَّى شرًا يخافه – حسدًا أو غيره.. فقد روى النسائي بسنده إلى ابن عائش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا ابن عائش ألا أدلك أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: "قل أعُوْذُبِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أعُوْذُبِرَبِّ النَّاسِ، هاتان السورتان".

       وروى ابن ماجه بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين الجان وأعين الناس فلما نزلت المعوّذتان أخذهما وترك ما سوى ذلك.

       وعن أبي سعيد أيضًا أو عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى فأتاه جبريل، فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل حاسد وعين الله تشفيك.

 

هجر الإخوان

       ولا تدابروا أى لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه، قال ابن عبد البر. قيل للإعراض مدابرةً لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره والمحب بالعكس، وقيل لايستأثر أحدكم على الآخر بشيء دونه، وعن مالك في الموطأ هو الإعراض عن السلام، وهو إشارة إلى ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".

       ويجوز هجر المبتدع والفاسق ونحوهما ومن رجا بهجره صلاح دين الهاجر والمهجور وعليه يحمل هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه الصحابة عن كلامهم، وكذا هجر السلف بعضهم بعضًا.

       وقوله صلى الله عليه وسلم "ولا تباغضوا" أى لا تتعاطوا أسباب البغض لأن البغض لا يكتسب ابتداءً، وقيل المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض.

       قال صاحب الفتح: بل هو لأعم من الأهواء؛ لأن تعاطى الأهواء ضرب من ذلك وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما.

       والتباغض المذموم ما كان في غير الله تعالى أما التباغض في الله فإنه واجب ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله، وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".

 

النصح في المعاملة

       وزاد مسلم في رواية قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تناجشوا ولا بيع بعضكم على بيع بعض" والنجش في اللغة الإثارة والخديعة وفي الشرع، الزيادة في الثمن المدفوع في الثمن المعروض للبيع وإن لم يساو القيمة أو كان لمحجور عليه ليغر غيره فيشتريه وهو حرام للإيذاء، والبيع صحيح ويختص الإثم بالعالم بالتحريم دون غيره، ويصح تفسيره بما هو أعم فيكون المعنى: لاتتخادعوا ولا يعامل بعضكم بعضا بالمكر والاحتيال وإيصال الأذى إليه. قال تعالى:

       وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ. سورة فاطر – آية: 43.

       فيشمل جميع المعاملات.

       وقوله: "ولا بيع بعضكم على بيع بعض" لما فيه من الإيذاء الموجب للتنافر والبغض. ومثل البيع الشراء بغير إذن المشتري، قال صلى الله عليه وسلم: "لابيع أحدكم على بيع بعض" رواه الشيخان وروى مسلم من حديث عقبة بن عامر "المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يَذَر".

       وقوله صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانًا": أي كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمودّة والنصيحة كما أمر الله في قوله:

       إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ. سورة الحجرات – آية:10.

       فاكتسبوا مما جاء في الحديث الأخذ بكل ما أمركم به وتطبيقه في حياتكم ؛ فان ذلك ينميّ روح الأخوة ويجنبها جميع ما يوهن من قوتها أو يعرضها للانحلال والتفكك ويغرى الطامعين في العدوان عليها وعلى مقدراتها والله تبارك وتعالى يقول: "إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ" سورة الحجرات – آية:10.

       والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشدّ بعضه بعضًا".

 

حق إسلاميّ

       وقوله صلى الله عليه وسلم "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره".

       هذا إيذان ببعض ما مقتضيه الأخوة الإيمانية وهو العمل على تجسيد أسباب لقوة في المجتمع المسلم ونبذ جميع ما يفرق جمعه أو يبدد شمله، واقتلاع جذور الشر في محيطه؛ فإذا كان العدوان على عضو من أعضاء الجسم أو فرد من أفراد الأسرة يُعدّ عدوانًا على جميعها أو على الجسم كله؛ فإن المجتمع المسلم أسرة كبيرة أو جسم واحد واجب أعضائه التعاون على خيره ودرء الشرّ عنه والله تعالى يقول:

       وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنـٰـتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ. سورة التوبة – آية:70.

       وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: "يا عبادي إني حَرّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا". والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا قال رجل يا رسول الله انصره إذا كان مظلومًا أرأيت ان كان ظالمًا كيف انصره قال تحجزه أو تمنعه عن الظلم؛ فان ذلك نصره" البخاري.

       وقوله: لايظلمه: أي ينقصه من ماله أو من حقه بغصب أو نحوه ولا يسلمه إلى عدو مُتَعَدّ عليه عدوانًا؛ بل ينصره ويدفع الظلم عنه.

       وقوله: لا يخذله: أي لا يترك نصرته المشروعة سيّما مع الاحتياج والاضطرار.

       قال تعالى: "وَتَعَاوَنُوْا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ" سورة المائدة – آية:2.

       وقال:

       وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّيْنِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ. سورة الأنفال – آية:72.

       فالخذلان محرَّم شديد التحريم دنيويًا كأن يقدر على نصرة مظلوم ودفع ظالمه عنه فلا يدفعه أو دينيًا كأن يقدر على نصحه من نحو غيبة فيترك وقد روى أبوداود. "ما من مسلم يخذل امرأً مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع تجب فيه نصرته" .

       وروى البزار: "من نصر أخاه بالغيب وهو يتسطيع نصره نصره الله في الدنيا والآخرة".

       وقوله: ولا يحقره: أي لا يستصغر شأنه ويضع من قدره فقد خلقه الله وكرّمه وفضّله على كثير من خلقه ورفعه وخاطبه وكلفه واصطفى منه أولياءه وأنبياءه ورسله، فاحتقاره عدوان على مقام الربوبية حيث شاء سبحانه له أن يكون الإنسان بين مخلوقاته أهلاً لما رآه الله به من التكليف دونها، والاحتقار للغير منشؤه الكبر، وهو ذنب كبير، وجرم في حق من له الكبرياء في السموات والأرض، وثم فإن هذه الجريمة قمة الشر الذي يجب التوقي منه والذي يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم : "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

       يَـٰـآ أيُّهَا الَّذِيْنَ ءَامَنُوْا لاَ يَسخَرْقَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أن يَكُونُوْا خَيْرًا مِنْهُمْ. سورة الحجرات – آية:11.

       وتخصيص ذلك بالمسلم لعظيم حرمته؛ لأن الذميّ يشاركه في حرمة ظلمه وخذلانه، أما من حيث الكفر القائم فجائز والله تعالى يقول:

       وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَالَهُ مِن مُّكْرِمٍ. سورة الحج – آية:18.

       وقوله: "كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه".

       حكمة جامعة في محافظة المسلم على حقوق أخيه وعدم تعديه عليها بغير حق وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وجعلها "كل المسلم" وحقيقته لشدة اضطراره إليها أما المال؛ فهو مادة الحياة وأما الدم؛ فلأن به الحياة وأما العرض فيه قيام صورته المعنوية واقتصر عليها؛ لأن ما سواها فرع عليها وراجع إليها؛ لأنها إذا قامت الصورة الحسية والمعنوية فلا حاجة إلى غير ذلك وقيامها بتلك الثلاثة لاغير، ولكون حرمتها هي الأصل لم يحتج إلى تقييدها بما إذا لم يعرض ما يبيحها شرعًا كالقتل قودًا وأخذ مال المرتد فيئًا وتوبيخ المسلم تعذيرًا.

       وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لاينظر إلى أجسادكم ولا إلى صُوَركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" تنبيه إلى أولئك الذين فتنتهم الدنيا بزخرفها وزينتها فأقبلوا عليها وسخروا كل مقدرات حياتهم في خدمتها وأهمهم منها المظهر الحسن في المأكل والمشرب والمسكن والملبس دون نظر إلى حق يؤدّى أو معروف يؤتى أو شر يتوقى: أو نعمة تَسدى، وأن عليهم أن يعلموا أن الله لاينظر من الإنسان ظاهره وأنّ متاع الدنيا قليلٌ والآخرة خير لمن اتقى، وأن نظره سبحانه إلى القلوب والأعمال؛ لأنها موضع التقوى؛ فمن صفا قلبه وامتلأ بخشية الله وعظمته ومحبّة الخير لبنى جنسه وتوج حياته بالأعمال الصالحة يصلح بها نفسه وأسرته وأمته ويرفع بها دينه فذلك الرجل الذي يستحق نظر الله ورعايته ورحمته ومثوبته ورُبَّ أشعث أغبرّ ذي طمرين مدفوع الأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه.

 

صفر - ربيع الأول 1430هـ = فبراير - مارس  2009م ، العـدد : 2-3  ، السنـة : 33