مع المتنبئ في شعر الهجاء

 

بقلم : أ. د/ طه مصطفى أبو كريشة

 

من المعروف أن حياة المتنبئ لم تصف له الصفاء كله، ولم يرض عنها الرضا الذي يملأ نفسه، وكانت صلته بالناس أقرب ما تكون إلى العداوة والشحناء منها إلى المحبة والوئام. وقد كانت هناك أسباب متعددة وراء ذلك، أهمها إحساسه الشديد بنفسه، الأمر الذي أدى إلى اعتزازه بها اعتزازًا أقرب ما يكون إلى الغرور، كما أدى إلى احتقاره لغيره من الناس واعتقاده أنه أفضل منهم، خاصةً طبقة الشعراء الذين خصهم بكثير من الإدلال والفخر عليهم، مع التهوين من شأنهم والتقليل من شاعريتهم حتى ينفرد بالساحة وحده من دونهم، وقد استطاع أن يصل إلى كثير من ذلك .

       ولم يُعْرف أن أحدًا أغاظ المتنبئ كما أغاظه كافور الإخشيدي، الذي حرمه العطاء الذي يرضيه، وأبقاه في البلاد سجينًا لا يأذن له بالخروج إلى وجهة أخرى، إضافةً إلى أنه لم يجد عنده التكريم الأدبي لشعره بالصورة التي رآها من قبل وهو في كنف سيف الدولة الحمداني، وكانت الصورة لاتزال زاهية الألوان متوهجة البريق أمام عينيه، ولا غرابة حينئذ إذا رأينا قلبه يمتلئ بالمرارة والحقد على كافور الإخشيدي وَالِي "مصر".

       من هنا كان المتنبئ في حالة حرب لا يفارقه سلاحه، فضلاً عن إشهاره في وجوه خصومه، وأعنى بالسلاح سلاح الشعر، يذود به عن نفسه في كثير من الأحايين، ويقوم باستخدامه في الهجوم المباشر أحيانًا، وكان هذا الهجوم يختلف كثرةً وقلةً، وشدةً وضعفًا، باختلاف الأسباب الداعية إلى ذلك، كما كان يختلف في أسلوبه، وطريقة الأداء.

       والملاحظ أن شعر المتنبئ في الهجاء الخالص قليل بالنسبة لسائر الأغراض الشعرية الأخرى، وعلة هذا ظاهرة؛ فقد كان الرجل مشغولاً بنفسه أكثر مما هو مشغول بغيره، وربما كان يرى في الإعلان عنها خير وسيلة لإغاظة أعدائه ومنافسيه، ولم تحدث المجابهة المباشرة إلا في اللحظات التي رأى أن الحديث فيها عن نفسه لا يكفي أو لا يجدي في شفاء صدره، فكان عندئذ يصب سيل غضبه على من يريد مهاجمته، وكانت كلماته حينئذ أنفذ من السهام وأشد أيجاعًا من وخزات الرماح.

       وعلى ضوء ما تقدم نستطيع أن نقول: إن المتنبئ وجَّه هجومه أو هجاءه الشعري إلى اتجاهات ثلاثة: الناس عامةً والشعراء خاصةً، وكافور الإخشيدي على وجه أخص، وكان أسلوبه في الهجاء يقوم على الاستعانة بالكلمة الموحية أحيانًا وعلى الصورة البيانية أحيانًا أخرى، وفيما يأتي نصحب المتنبئ وخياله في هذه الاتحاهات الثلاثة؛ لنرى كيف كان يصل إلى الإيذاء والإيلام بشعره، وكيف كان يصيب بهجائه مقتلاً.

       1- أما هجاؤه للناس عامةً فيبدو أنه كان يقصد به المجتمع الذي لايقر له بالفضل، أو الذي لاينظر إليه نظرة التقدير بالصورة التي ترضى غروره، ونلاحظ أن هذا الاتجاه كان في الفترة التي سبقت اتصاله بسيف الدولة، أي في الفترة التي كان يبحث فيها عن مكان له في خضم المجتمع.

       وقد كان الهجاء الموجَّه إلى هؤلاء الناس يدور حول إخراجهم من طائفة البشر، وإدخالهم في طائفة الحيوانات، وكان هذا يأتي أحيانا في تعبير صريح قائم على التشبيه بنوع من أنواع الحيوان كقوله:

لُمِ الليالي التي أَخْنَتْ على جـِدَتِي

              بِـرِقَّـةِ الحالِ واعْذُرْنِي ولا تَلُمِ

أَرَى أُنَاسًا وَمَحْصُـولِي على غَنَمٍ

              وَذِكْرَ جُورٍ ومحصولي على الكَلِم

وَرَبَّ مالٍ فقيـرًا من مُـرُوَّتِــه

              لَمْ يُثْر منْها كما أَثـْرَى من العَدَمِ

       فالذي ينغص على المتنبئ صفو حياته أنه قد سُلب الغنى وحُظي بالفقر، لكن مَنْ السبب في ذلك؟ السبب الناس الذين لم يكرموه، ولم يجد عندهم أكثر من الكلمات، وإذا كانوا قد تخلَّوا عن الكرم، وليس لهم من المروءة شيء؛ فهم ليسوا أكثر من البهائم (أرى أناسًا ومحصولي على غنم) فالصورة التي ترى صورة البشرة لكن عند التحقيق والتحصيل لا يزيدون عن الغنم..!!

       ويعاود التشبيه بمثل هذه الصورة في مواطن أخرى منها قوله:

وَدَهْـرٌ نَاسُـه نـاسٌ صِغَـار

                     وإن كانت لهم جُثَثٌ ضِخَامُ

وما أنا مِنْهـمُ بالعيشِ فيهـمْ

                     ولكنْ مَعْدِنُ الذهبِ الرَّغَـامُ

أَرَانِبُ غَيْرَ أَنَّهُمُ مُلُـــوكٌ

                     مَفَتَّحَــةٌ عيـونُهُم نِيَـامُ

       والناس هذه المرة صغار النفوس؛ وإن كانوا ضخام الأجسام، وقد زاد على ذلك أنهم كالأرانب ضعفًا وجبنًا وغفلةً، وقد بالغ المتنبئ في تحقيرهم حيث جعلهم أرانب في الأصل، وإن كانوا ملوكاً في دنيا الناس (أرانب غير أنهم ملوك) وكان المعهود أن يقال (ملوك غير أنهم أرانب) لكنه جعل طبع الأرانب فيهم أغلب، فعكس التشبيه، وجاء بالأصل فرعًا، وبالفرع أصلاً.

       وإلى جانب هذه الصور المباشرة؛ فإننا نراه يستخدم التصوير الضمني الذي يلتقي مع ما سبق في طريق واحد، ومن هذا قوله:

أَفَاضِلُ الناسِ أغراضٌ لِذَا الزَّمَنِ

              يَخْلُو من الهَمِّ أَخْلاَهُمُ من الفِطَنِ

وإنما نحن في جيلٍ سواسيةٍ

              شرٍّ على الحُرِّ من سُقْم على بَدَنِ

حَوْلِي بكلِّ مكانٍ منهمُ خِلَقٌ

              تَخْطىً إذا جِئتَ في اسْتِفهَامِها بِمَنِ

       فالخالي من الفطنة أشبه بالبهائم (يخلو من الهم أخلاهم من الفطن)، وفي البيت الأخير ترى تأكيدًا لهذا المعنى؛ حيث يودع فيه المتنبئ خلاصة رأيه فيمن حوله من هؤلاء الذين هم مجرد (خلق) بكسر الخاء وفتح اللام، والكلمة بجرسها تجري على ألسنة العامة أكثر من جريانها على ألسنة الخاصة، وهي على أية حال تستعمل عند إرادة الذم والتحقير. وخلاصة رأيه فيهم أنه لا يدري كنههم على سبيل الحقيقة، إنهم أيّ شيء آخر غير كونهم من البشر، ولذلك فإن من يسأل عنهم بأداة الاستفهام (مَنْ) يكون مخطئًا لأنّ (مَنْ) للعقلاء أو للبشر عامةً، وهم ليسوا منهم؛ فالأصوب أن تستعمل معهم أداة الاستفهام (ما) دون (من).

       2- أما عن هجائه للشعراء؛ فإنه يستخدم معهم الأسلوب ذاته الذي مضى؛ حيث يجردهم من ملكاتهم ومواهبهم، معتمدًا في ذلك على الكلمة أحيانًا، وعلى الصورة أحيانًا أخرى، ومن الأمثلة على استخدامه الكلمة الموحية ما جاء في قوله:

      أَرَىَ المُتَشَاعِرينَ غُرُوا بِذَمِّي

                          وَمَنْ ذَا يَحْمَدُ الدَّاءَ العُضَالاَ

       فكلمة (المتشاعرين) بصيغتها التي تدل على الادعاء والتكلف تلبّى رغبة المتنبئ في هجاء منافسيه من الشعراء، وفي إبلاغهم أنهم ليسوا بشعراء على الحقيقة، وإنما هم متطفلون على مائدة الشعر؛ إذ ليس لهم منها شيء.

       وكذلك قوله:

أَفِي كُلٍّ يومِ تَحْتَ ضَبْنِي شُوَيْعِرٌ

              ضَعِيفٌ يُقَاوِيني قَصِيـرٌ يُطَاوِلُ

لِسانِي بِنُطْقِي صَامِتٌ عنه عادِلٌ

              وَقَلْبِي بِصَمْتي ضاحكٌ منه هازل

       وكلمة (شويعر) تتساوى من حيث الذم مع كلمة (متشاعر) وفي صيغة التصغير التي جاءت عليها الكلمة معنى التحقير، وعدم التسليم لهم بما ينظمونه من شعر، إنهم بذلك حين يباهون بشعرهم، يكونون مثل القصار الذين يطاولون العمالقة، ومثل الضعاف الذين يصاولون الأقوياء، ومثل هذا يكون أدعى إلى السخرية لا إلى الإعجاب. يضاف إلى ذلك ما توحي به كلمة (المتعاقل) التي جاءت بعد ذلك في هذا البيت:

وَمَا التَّيهُ طِبِّي فيهمُ غَيْرَ أنَّنِي

                     بغيضٌ إليَّ الجاهلُ المُتعاقِلُ

       فكلمة (المتعاقل) توحي بادعاء المعرفة التي ليست بموجودة أصلاً، والوصف بهذا فيه من الذم ما فيه، لأن كلمة (المتعاقل) إلى جانب إفادتها ادعاء المعرفة في مقابل الجهل؛ فإنها تفيد أيضًا في مادتها وصيغتها ادعاء العقل؛ فكأنه في الحقيقة ليس بموجود، وهذا هو سر إيثار الكلمة على كلمة أخرى مثل (المتعالم) التي ربما تكون أنسب في مقابل كلمة (الجاهل) لكنه أراد أن يستأصل أداة المعرفة من أساسها.

       ومن الاستعانة بالصورة في هجاء الشعراء ما جاء في قوله:

بأيِّ لفظِ تقـولٌ الشعرَ زِعْنِفَـةٌ

              تَجُوزُ عندكَ لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ

       فكلمة (زعنفة) مستعارة للشعراء الذين يقولون الشعر عند سيف الدولة، ومن معاني الكلمة أطراف كل شيء متساقط يُرمىٰ ويُستغنَى عنه، وفي هذا ما يعني أن هؤلاء الشعراء زوائد في المجتمع ولا فائدة منهم، وأنهم ليسوا على دراية بلغة الناس عربًا كانوا أو عجمًا، فأي شيء يكونون بعد ذلك، وأيّ ألفاظ ينطقون بها إذا لم تكن ألفاظاً عربيةً أو أعجميةً؟ لا شيء إلا أن يكون صياح الأنعام.

       3- أما كافور الإخشيدي فقد خصه المتنبئ بأغلب ما قاله من شعر الهجاء، كما خصه بتنوع أسلوب الهجاء بين الحقيقة والمجاز والإيحاء.

       وقد اتخذ المتنبئ من ماضي كافور واسترقاقه من قبل سبيلاً إلى طعنه وتجريحه؛ فكأنه يريد أن يهدم شخصيته الحاضرة، وما يحوطها من أبهة الملك عن طريق التذكير بالماضي الذي يظن أنه يسوؤه؛ فمن ذلك قوله:

أَكُلَّمَا اغْتالَ عبدُ السوءِ سَيِّدَه

                     أَوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهيدُ

العبدُ ليس لِحُرٍّ صالحٍ بأخٍ

                     لَوْ أَنَّهُ في ثِيَابِ الحُرِّ مَوْلودُ

       إنه يسوق الحقيقة مجردةً، منكرًا أن يكون أهلاً لتولي الملك بعد هذا الماضي الذي قضاه في العبودية.

       وحين هرب المتنبئ من مصر، وسجّل قصة هروبه؛ فإنه أورد في قصيدته قوله عن كافور:

وَنَامَ الخُوَيْـدِمُ عن لَيلِنا

                     وَقَدْ نَامَ قبلُ عَمى لاَ كَرَى

       فهو يلفته إلى ماضيه الذي كان يعمل فيه خادمًا لدى مواليه الإخشيديين وقد زاد في ذمه بإيراد الكلمة مصغرةً، فضاعف بذلك الذم الذي أراده.

       وإلى جانب التذكير بالماضي؛ فإن المتنبئ كان يتخذ من هيئة كافور مادةً للسخرية والتهكم، وهنا كان خياله ينشط في تجسيد القبائح تجسيدًا فيه كثير من المبالغة والشطط، فمن ذلك قوله عنه من قصيدة كلها هجاء:

فإنْ كُنْتَ لا خيرًا أَفَدْتَ فإنَّنِي

              أَفَدْتُ بِلَحْظِي مِشْفَرَيْكَ المَلاَهِيَا

       ومثلُكَ يُؤْتَى من بلاد بعيدةٍ

              لِيُضْحِكَ ربَّاتِ الحِدَادِ البَوَاكِيَا

       فإذا كان كافور لم يستفد شيئًا من المتنبئ؛ فإن المتنبئ أفاد من كافور التسرية عن أحزانه، وكيف لايطرب ومنظره كفيل بإذهاب حزن الثكالي، وإضحاك ربات الحداد البواكي؟

       ولم يقف المتنبئ في هجائه كافورًا عند حدود الشكل، وإنما تعدّاه إلى الجوهر والموضوع، جوهر النفس وما تحرص عليه من صفات محمودة.. ولما كان المتنبئ لم يحظ بشيء من الكرم بالقدر الذي كان يتطلع إليه؛ فإنه جعل البخل مناط الذم في هجومه على كافور، وذلك على النحو الذي نراه في هذه الأبيات:

مَاذَا لقيتُ من الدنيا وَأَعْجبَهُ

              أَنَى بما أنا باكٍ منه مَحْسُود

أَمْسيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خازنًا وَيَدًا

              أنا الغنيُّ وأمْوالي المواعِيدُ

إني نزلتُ بكذَّابين ضَيْفُهُمُ

              عن القِرىَ وعن التَّرْحالِ مَحْدُود

جُودُ الرجالِ من الأيدِي وجودُهم

              من اللسانِ فلا كانوا ولا الجُودُ

       فأمواله التي حازها (المواعيد) وجود الرجال عادةً جود مقرون بالفعل والعطاء، أما الكذابون فجودهم من اللسان فحسب.

       وإذا لم تكن لدى كافور معالي الأمور، فلديه إذن محفراتها كما أفصح عنها في قوله:

أريكَ الرِّضَا لو أخْفَتِ النفسُ خَافيًا

              وما أَنا عن نفسِي ولا عنْكَ راضِيا

أمَيْنًا وإخْلافًا وَغَدْرًا وَخسةً

              وَجُبْنًا، أَشَخْصًا لُحْتَ لِي أَمْ مَخَازِيَا

       إنه لم ير فيه شيئًا آخر غير المخازي؛ فكأنه جسد مركب منها، وليس من لحم وعظم مثل سائر الناس، وفي ذلك من الذم ما يسوء ويؤلم.

       وهناك من شعر الهجاء في كافور ما نمسك عن ذكره؛ حيث تجاوز فيه الشاعر حدود القول المقبول، وتعداه إلى ما يخدش الإحساس والشعور مؤكدين مع ذلك أيضًا أن كافور في واقع إدارته لشئون البلاد لم يكن على النحو الذي قد يفهم من وراء هجاء المتنبئ له.. بل إنه كان على النقيض مما قد يتبادر إلى الذهن، فقد شهد له مؤرخوه بحسن إدارته لشؤون البلاد، وكفاءته في قيادته لأولى الأمر فيها، ولو أنه كان من أولئك الذين يسعدهم أو يسوؤهم كلام الشعراء، لكان له مع المتنبئ شأن آخر حتى ينال إعجابه أوحتى يشتري لسانه وينال من وراء ذلك عذب القريض، وجميل المديح؛ لكنه آثر أن يقدم المصلحة العامة، على الرغبة الخاصة، حين لم يعط المتنبئَ ما يريد، ولقد كان ما يريده كثير حين طمح أن يكون له من شؤون الحكم نصيب؛ فلما فاته ذلك، قال ما قال، مما يقوله الشعراء، ومما يدخل تحت ما تشير إليه الآية الكريمة عن الذين يهيمون في كل واد من الشعراء (وَأَنَّهُمْ يَقُوْلُوْنَ مَالاَ يَفْعَلُوْنَ) أو كما رأينا من خلال الدراسة أنهم أحيانًا يقولون مالا يعتقدون، وما يعلمون أنه غير حقيقي في عالم الواقع.

       وأخيرًا.. فإن الناقد حين يقف عند هذا اللون من الدراسة؛ فإنه يقف بمقدار ما يثبت أن للشاعر مشاركةً في هذا الغرض الذي يأتي عند سائر الشعراء، وقد يكون السكوت عن ذكره ودراسته مدعاةً لإثارة الظنون حول وجوده في ديوان الشاعر، أو إثارة الشك حول الموهبة ذاتها التي تكون لدى الشاعر، وما أكثر الذين يقولون إثباتًا للقدرة قبل إعلان الرضا عما يقول.

       وإلى هنا يأتي ختام مقالنا، وختام حديثنا عن أبي الطيب المتنبئ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

 

صفر - ربيع الأول 1430هـ = فبراير - مارس  2009م ، العـدد : 2-3  ، السنـة : 33