فطرة اللّه عمل وتوكل

 

بقلم : الشيخ إبراهيم الدسوقي ، وزير الأوقاف الأسبق

 

روى البخاري بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل. فقال: اعملوا فكل ميسر لما خُلِق له ثم قرأ من القرآن: ﴿فأمّا مَنْ أَعْطَىٰ واتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ﴾ سورة الليل آية 5-10.

       الكلمات:

       نتكل: توكل على الله اعتمد عليه ووثق به واتكل عليه كذلك والاسم التكلان بضم التاء. وتواكل القوم تواكلاً اتكل بعضهم على بعض، ووكلته إلى نفسه من باب وَعَد وُكُولاً لم أقم بأمره ولم أعنه.

       مُيَسَّر: يقال يَسِرَ الأمر تَيْسَرُ تَيْسُرًا من باب تَعِبَ، ويَسرَ يُسْرًا من باب قَرُب فهو يسير أي سهل ويسره الله فَتَيَسَّر واستيسر بمعنى سهلٌ ويَسُر الشيء مثل قَرُب أي قل فهو يسير أي قليل.

       للعسرى: يقال عَسِرَ الأمر عُسْرًا مثل قرب فهو عسير صعب شديد وعَسِر الأمر عَسَرًا فهو عَسِر من باب تعب وتعسر واستعسر كذلك.

       البيان:

       الإسلام دين الفطرة. وقوام الفطرة قوانين وأسباب يرتبط بعضها ببعض في نظام ودقة وإحكام، والفطرة بجميع عناصرها من صنع الله عز وجل؛ ولذلك كان الإسلام دين حياة وعمل وتطور كما أنه في نفس الوقت دين اعتراف وإذعان لمبدع هذا الكون وخالقه وهذا النظام وموجده. ومن أهم ما يتميز به هذا الدين أنه أولى الاعتبارين عظيم رعايته وجمع بينهما في شخص المؤمن عقيدةً وعملاً وفقهًا وسلوكاً؛ فصنع منه الفرد السويّ الذي يملأ الدنيا حركةً ونشاطاً ويفيء على المجتمع خيرًا وبركةً ويقوده إلى الطريق المستقيم .

       ولقد نبّه هذا الحديثُ إلى أمور لها في بناء الحياة قدرها – وناط عزتها وسعادتها بحسن تدبير شؤونها، وبمقدار ما يعطيها المرء من ذات نفسه يكون عطاؤها وتبدو مشرقة الوجه تشيع في أرجائها البهجة والجمال وتقر العيون بما يكسوها من رواء وبهاء وتلبس الأرض أبهى حللها خضرةً وتجود بأطيب الثمرات، كما ينطبق كل ذلك بأن فاطر هذه الكائنات وبديع الأرض والسماوات إله واحد حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض لايؤده حفظهما وهو العلي العظيم .

 

روح العمل

       ولقد كان القرآن الكريم الهدي الراشد حين عبّر عن العمل الإيجابي في أتم مراحله بالتوكل الموحى بعجز العبد حين تقطع حبال الود والعون بينه وبين خالقه مهما بذل أو ضحى، وما أجمل ما قيل في ذلك.

       إذا لم يكن عون من الله للفتى

                            فأول ما يجني عليه اجتهاده

       فشعار المؤمن الصادق البراءة من حوله وقوته وهو بعمل. إلى حول الله وقوته حتى يجني ثمرة عمله دنيا ودينًا، وصدق الله القائل:

       ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء:18-20)

 

حقيقة التوكل

       وبذلك لاينفصل العمل البشري للدنيا عن الزلفى به إلى الله حين يطلب عونه وهو يقوم به. يقول الحق سبحانه:

       ﴿فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِيْنَ﴾ (آل عمران:159)

 

التوكل الحقيقي

       وذلك يعني أن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب ونبذ التواكل والدعة والاستسلام. وتوطين النفس على مضاعفة الجهد مع التضحية والبذل والعطاء كما أن التخلي عن الأخذ بالأسباب بدعوى التوكل لايكون إلا عن جهل بالدين أو فساد في العقل؛ فالتوكل محله القلب والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح والإنسان مسوق إليه بمقتضى فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله.

       ويعنى هذا أن الإيمان ما وقر في القلب واستنار بهديه العقل ونطق به اللسان، وقام عليه الدليل بالعمل الذي يصل العبد بخالقه مخلصًا له الدين ويقيم أوثق العرى بمن حوله في علاقات تؤكد روح الإخاء والتراحم وتجمع الكل على مائدة الحب التي تبدو في جوها المشرق ظلمات الأغيار التي تعكر الصفو وتثير الضغائن وتوغر الصدور. يقول القرطبي معلقًا على هذه الآية، قال المهلب: "وامتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه؛ فقال لا ينبغي لنبي ليس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله. أي ليس لنبي إذا عزم أن يتصرف؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله مع العزيمة.

       وجاء في تفسير المنار: في قوله تعالى:

       ﴿فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (سورة آل عمران آية 159)

       أي فإذا عزمتَ بعد المشاورة التي أُمِرَت بها (وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأَمْرِ) أي فامض لماترجحه الشورى وأعددت له عدته فتوكل على الله في إمضائه وكن واثقًا بمعونته وتأييده لك فيه ولاتتكل على حولك وقوتك؛ بل اعلم أن وراء ما أُوْتِيْتَه وما أتيته قوة أعلى وأكمل يجب أن تكون بها الثقة وعليها المعول وإليها الملجأ إذا انقطعت الأسباب وأغلقت الأبواب. كما قال ما معناه: إن العزم على الفعل وإن كان بعد الفكر وإحكام الرأي والمشاورة وأخذ الأهبة فذلك كله لا يكفي للنجاح إلا بمعونة الله وتوفيقه لأن العوائق الخارجية له. والعوائق دونه لا يحيط بها إلا الله فلابد للمؤمن من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته .

       وقوله: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِيْنَ﴾ على حوله وقوته مع العمل في الأسباب بسنته على أن من أحبه الله عصمه من الغرور باستعداده والركون إلى عدته وعتاده، والبطر الذي يصرفه عن النظر فيما يعرض له بعد ذلك حتى لايقدره قدره ولا يحكم فيه أمره. فبدلاً من أن يكون نظره إلى الأمور بعين العجب والغرور واستماعه لأنبائها بأذن الغفلة والازدراء. مباشرته لها بيد التهاون، يلقى السمع وهو شهيد وينظر بعين العبرة؛ فبصره حينئذ حديد ويبطش بيد الحزم؛ فبطشه قوي شديد وذلك بأن يسمع ويبصر ويعمل للحق لا للباطل الذي يزينه الهوى ويدلي به الغرور؛ فيكون مصداقًا للحديث القدسي: "فإذا أجببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها".

       ولقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عمليًا ولم يصغ إلى قول الذين أشاروا عليه بالخروج إلى "أحد" حين أرادوا الرجوع عن رأيهم خشية أن يكونوا قد استكرهوه على الخروج وكان قد لبس لامته وخرج وذلك مشروع في العمل بعد المشاورة ومن يعلم أن المرء إذا شرع في العمل تنفيذًا للشورى لايجوز له أن ينقض عزيمته ويبطل عمله وإن كان يرى أن أهل الشورى قد أخطأوا الرأي.

       إن التوكل وإن كان المؤمن مطالبًا به إلا أنه مسوق بفطرته إليه قال تعالى:

       ﴿فَامْشُوْا فِيْ مَنَاكِبِهَا وَكُلُوْا مِنْ رِزْقِه﴾ (سورة الملك:15)

       وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا خُذُوْا حِذْرَكُمْ﴾ (سورة النساء:71).

       وقال: ﴿وَأَعِدُّوْا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وِمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (سورة الأنفال:60).

       وقال: ﴿وَتَزَوَّدُوْا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (سورة البقرة:197).

       وقال لنبيّه لوط: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ (سورة هود:81).

       وقال لنبيّه موسى: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِيْ لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُوْنَ﴾ (سورة الدخان:23).

       وقال يعقوب لابنه يوسف:

       ﴿يَابُنَيَّ لاَتَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيْدُوْا لَكَ كَيْدًا﴾ (سورة يوسف:5).

       وقال حكايةً عنه أيضًا:

       ﴿يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (سورة يوسف:67).

       فجمع بين الواجبين وبين أنه لا تنافي بينهما ولا غناء للمؤمن عنهما. وذلك أن الإنسان إذا توكل ولم يستعد للأمر ويأخذ له أهبته بحسب سنة الله في الأسباب والمسببات يقع في الحسرة والندم عندما يخيب ويفوته غرضه فيكون ملومًا شرعًا وعقلاً قال تعالى في مسألة الإسراف في المال:

       ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ (سورة الإسراء: 29).

       وإذا هو استعد وأخذ بالأسباب واعتمد عليها غافلاً قلبه عن الله تعالى؛ فإنه يكون عرضةً للجزع والهلع إذا خاب سعيه ويفوته الذي يهون عليه الأمر بل قد يبلغ به الأمر إلى الوقوع في اليأس القاتل الذي لايطمع معه في فلاح.

 

صلاح المتوكل المؤمن

       ولذلك قرن الله الصبر بالتوكل؛ فقال حكايةً عن الرسل في محاجة أقوامهم :

       ﴿وَمَا لَنَا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (سورة إبراهيم: 12).

       وقال لخاتم أنبيائه:

       ﴿فَاتَّخِدْهُ وَكِيْلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُوْلُوْنَ﴾ (سورة المزمل: 9، 10).

       وقال:

       ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِيْنَ الَّذِيْنَ صَبَرُوْا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُوْنَ﴾ (سورة العنكبوت: 58، 59).

       وجاء ذكر المتوكل في مقام ذكر الحرمان من الرزق أو من سعته. قال تعالى:

       ﴿وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَه مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبْ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوْ حَسْبُهُ﴾ (سورة الطلاق: 2، 3).

       وقد أنكر القرآن على بني إسرائيل أنهم كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه، وقولهم لموسى:

       ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُوْنَ﴾ (سورة المائدة:24).

       ومن السنّة الشريفة ما جاء في رواية أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وأخرجه الذهبي يقول صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصًا وتروح بطانًا". أي أنها لم تمكث في أعشاشها وأوكارها فيهبط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه.

       ويقول صلى الله عليه وسلم أيضًا: "من رأى منك منكرًا؛ فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع، فبلسانه فإن لم يستطع، فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".

       وأيضًا حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته وفي رواية قال: أ أعقلها وأتوكل أم أطلقها وأتوكل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعقلها وتوكل!

       ويقول أبوبكر: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَؤُوْنَ هذه الآية "يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَيَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ" وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه. رواه أبوداود، والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.

       ولما كان العمل من أهم عناصر الإنتاج وكان المال عنصرًا ضروريًا من عناصر العمل؛ فقد رأينا الإسلام يهتم بالعمل والعاملين ويجعل الأرض بكل ما فيها مهيأةً لبذل النشاط ومسخرةً لصالح الإنسان ومعاونته على أن يبذل جهده ويستغل طاقته في استخدامها والانتفاع بخيراتها وذلك ما يشير إليه سبحانه بقوله:

       ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (سورة الملك:15).

       وقوله: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرٍَسُوْلُه وَالْمُؤْمِنُوْنَ﴾ (سورة التوبة: 105).

       وقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (سورة النحل:97).

       ولم يكتف الإسلام بطلب العمل والحض عليه وإنما تجاوز ذلك إلى المطالبة بإتقان العمل وإخلاص النيّة فيه. أما إتقان العمل فقد بيّنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه".

       وكحافز على هذا الإتقان والإحسان في العمل يقول عز من قائل:

       ﴿إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ (سورة الإسراء:7).

       ويقول: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ (سورة الأنعام:104).

       ويقول:

       ﴿وَمَا تَعْمَلُوْنَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوْدًا إذْ تُفِيْضُوْنَ فِيه﴾ (سورة يونس:61).

       وأما إخلاص النيّة فيبيّنه قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى" ولـمّا كان استغلال الوقت في نظر الإسلام مقومًا من مقومات العمل وعاملاً على إنجاحه. فقد حرّض الإسلام جماعة المؤمنين على توخي الإسرع بعمل الصالحات وعدم الإبطاء فيه.

 

مكانة المال في الإسلام

       ولمكانة المال في بناء الحياة كان حريًا أن يعمل الإسلام على صيانته من التلاعب وإسرافه فيما لايفيد أو فيما يضر بالآخرين قال تعالى:

       ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِيْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ (سورة النساء:5).

       وهو في حقيقته ملك للمولى استخلف المؤمنين فيه ليوجّهوه لصالح أنفسهم ومجتمعهم وليستغلوه فيما يعود على مجتمعهم وأمتهم بوافر الخيرات وعظيم الثمرات.

       فوظيفة المال في نظر الإسلام وظيفة اجتماعية وإنسانية في الوقت ذاته وإلى ذلك يشير الحق سبحانه: ﴿وَأَنْفِقُوْا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلِفِيْنَ فِيْه﴾ (سورة الحديد:7).

       والإسلام كمنهج شامل للحياة وضع لشؤون المال قواعد تنظّمه في الاكتساب والاستثمار والاستخدام ليكون وسيلة إسعاد لاوسيلة إفساد. وكذلك وضع للعمل قواعد وأصولاً توجّهه وجهة السداد وتصونه من الانحراف ولقد عمل الأنبياء، وكان لكل منهم حرفة يعمل فيها ويعيش منها مع عظم مسؤولياته ليكون قدوةً لبني ملته .

       ولقد كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته تطبيقًا عمليًا لذلك؛ فقد عمل صلى الله عليه وسلم في التجارة مع عمّه أبي طالب، ولخديجة بنت خويلد قبل أن يتزوّجها، ورعى الغنم، كما كان يقوم بكثير من شؤون البيت؛ فقد سُئِلَتْ عائشةُ رضي الله عنها. كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان يكون في مهنة أهله أي في خدمتهم. ولما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك استقبله أحد الصحابة فقال له صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الذي أرى بيدك؟ قال من أثر المر (الحبل) والمسحاة أضرب وأنفق على عيالي؛ فَقَبَّل رسولُ الله يدَه وقال هذه يد لاتمسها النار"..

 

الكسب الحلال

       والعمل وإن كان واجبًا؛ فإنه لابد وأن يكون في إطار العمل المشروع الذي حدّده الإسلام فلاظلم ولاعدوان ولاضرر ولاضرار كما عُني بتنظيم العمل بين الدين والدنيا حتى لايشغل عمل الدنيا عن عمل الآخرة وعمّا يجب لله من حقوق. كما نبّه صلى الله عليه وسلم إلى أن المغالاة في طلب المال وعدم تحري طرق الكسب لاتجلب رزقًا ولاتضاعف كسبًا؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إني لا أعلم شيئًا يقرّبكم من الجنة ويبعدكم عن النار إلا أمرتكم به. وإني لا أعلم شيئًا يبعدكم عن الجنة ويقرّبكم من النار إلا نهيتكم عنه. وإن الروح الأمين نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستوفيَ رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولايحملنّكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى؛ فإن الله لاينال ما عنده بمعصيته". قال الغزالي: أمر بالاجمال في الطلب ولم يقل اتركوا.

       والمرأة شقيقة الرجل وانسانيتهما واحدة يشتركان في العقل والعواطف والمشاعر وثم فقد منحها الإسلام من الحقوق مالم يتوفّر لها في ظلّ جميع القوانين والشرائع السماوية والوضعية وكذا في الجاهلية. فوضعها موضع التكليف والمسؤولية وكلّفها بما كلّف به الرجل من عبادات إلاّ فيما لا يلائم طبيعتها وأخذها بما يؤاخذ به الرجل من مسؤوليات ومنحها من الحقوق ما منحه فأباح لها حق التملّك وحق البيع والشراء وحق الهبة والتبرع وأعطى لها حظاً من الميراث.

       وفي التاريخ الإسلامي برزت في ميدان التعليم والتعلم، وبرزت في الطليعة أمهات المؤمنين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهن السيدة عائشة التي كانت المعلِّمة الأولى في الإسلام. وفي ميدان الخدمة العامة برزت كثير من الصحابيات وفي مقدمتهن أسماء بنت أبي بكر التي كان لها جهدها الموفور في إنجاح خطة الهجرة المباركة من مكة إلى المدينة.

       ومتى تهيأت للمرأة ظروف العلم والعمل الشريف وفي ممارسة ما يلائمها من الأعمال؛ فإنه لا مانع أن تعمل إذا كانت في حاجة إلى العمل وفي ميدان الطب والصيدلة والتمريض والكيمياء والنسيج والحياكة والتطريز.

       وقوله صلى الله عليه وسلم اعملوا فكل ميسّر لما خُلق له ثم قرأ قوله سبحانه:

       ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ (سورة الليل: 5-10).

       لقد تحدثنا عن العمل بما فيه الكفاية.

       وقوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خُلِق له" رفض للسلبية التي تقضي على صاحبها بالخمول والدعة والرضى بالدون من العيش فضلاً عن أنه يصبح بها كلاًّ على المجتمع وعبئًا على أهله وذويه وهو وأمثاله معمول هدم يقوض بنيان الحياة كما أنه معطل لسنة الله فيها وإعاقة لمسيرة الأمة إلى آفاق المجد والكرامة. وتخلف عن مواكبة أولى الهمة والعزيمة وبناة الأمجاد الأخيار.

 

الحرية والعمل

       وقد جاء هذا الحديث بروايات متعددة ومنها رواية أحمد بسنده إلى عبد الله بن عمر قال: قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه؟ أمن أمر قد فرغ؟ أو مبتدأ أو مبتدع؟ قال صلى الله عليه وسلم فيما قد فرغ منه فاعمل يابن الخطاب؛ فإن كلاً ميسر. أما من كان من أهل السعادة؛ فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء؛ فإنه يعمل للشقاء" ومعنى "ميسر" أن الله يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ومن قصد الشر بالخذلان وكل ذلك بقدر مقدر. أي أن المرء إذا أراد أمرًا هيأ الله له الطريق لتنفيذه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

       ولما كانت الأشياء تقع بأسبابها؛ فإن الإرادة الإنسانية بعض هذه الأسباب فالأعمال العظيمة من الرجال. هم من أعظم أسبابها بما لهم من عزيمة صادقة وإرادة قوية وأفكار حرة.

       ومع هذا؛ فإنهم لاغنىً لهم عن الله. إذ أنهم بعلمهم القاصر وقدرتهم الحدودة لا سلطان لهم على جميع الأشياء الخارجية المطلوبة لتتميم مايريدون كمرض أو سفر أو موت أو نحو ذلك، أي أن إرادة العبد وقدرته كلاهما له حدود وما وراءها مردّه إلى الله ييسّره ويهيّئه ليتمّ للإنسان مايريد.

       على حين نرى أن أفعال العباد وقد نُسِبَت إليهم في كتاب الله ولذلك كُلِّفوا وما ذاك إلا لأن لهم قدرةً وإرادةً وقد وُكِّلَ إليهم تصريفُ تلك الإرادة بمحض اختيارهم إلى أحد الجانبين: الفعل أو الترك ومن هنا كان الثواب أو العقاب ويسوقنا ما ذكرنا إلى إلقاء الضوء على قضية القضاء والقدر وموقف العبد منهما في رأي العلماء بعيدًا عن الخلاف وسلوك مسلك أهل الاعتساف.

 

القضاء والقدر

       فالقضاء عبارة عن وجود الأشياء على الوجه الأكمل في علمه تعالى على وجه كلّي والقدر إيجاد تلك الأشياء في عالم الظهور على وجه تفصيلي يوافق القضاء السابق من مقال للشيخ الدجوي. أو أن القضاء هو تعلّق العلم الإلهي بالشيء. والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام، والقدر وقوع الشيء على حسب العلم" والعلم لايكون إلا مطابقًا للواقع وإلا كان جهلاً أو أن الواقع غير واقع وهو محال.

       وهنا أمران كل منهما ثابت في نفسه: أحدهما أن الله خالق كل شيء، وثانيهما أن هذا النوع من المخلوقات (الإنسان) يعمل أعماله بقصد واختيار ولكنه غير تامّ القدرة ولا الإرادة ولا العلم؛ فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغيّر علمه بالمصلحة أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه مع بقاء علمه إنه الموافق للمصلحة وذلك لمرض أو حائل يحول دون ما أراد، وننتهي من هذا إلى أمرين: أحدهما أن الشيء متى وقع يعلم بعد وقوعه أنه لم يكن منه بدّ.

       وثانيهما: أن الإنسان إذا كان يؤمن بأن الله تعالى عناية به وقد يلهمه إذا هو توجه إليه علم ما يجهل من أسباب سعادته يوفقه إلى ما يعجز عنه من الأسباب بمحض حوله وقوته؛ فإنه بهذا الإيمان يكون مع أخذه بالأسباب الشط في العمل عنه عند عجزه عنها بعد اليأس والكسل.. تفسير المنار.

       والخلاصة: أن الله تعالى قبل أن يخلقك يعلم أنك ستكون مريدًا مختارًا ويعلم بالضرورة ما تختاره بمحض إرادتك وما ستصرف إليه عزمك من خير أو شر. وقد اقتضت حكمته أن يهبك تلك الإرادة الحرة التي تصرفها كما تشاء كي يحقق لك الحرية التي اقتضت حكمته أن يمنحك إياها ثم يحازيك بعد ذلك على ما كان منك في يوم عصيب تؤدي فيه الحساب على ما كسبت يداك ولولا ذلك لم يكن هناك معنى للحرية والاختيار ولا للتكليف والثواب والعقاب. ولسنا ننكر أنه لو شاء لسلب هذه الإرادة؛ فيكون آلة صماء ولا يوجد تكليف ولكنه أرادك إنسانًا، كما لايقال لابد من حصول ما سبق به القضاء ولا يتأتى تخلفه ولكن ذلك مبني على صحة العلم لا على تأثيره والله أعلم.

 

ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33