لماذا سُمِّي المعروف معروفاً ؟

(2/3)

 

بقلم : معالي الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر / الرياض

                                                                          وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي

 

ولعل عمر رضي الله عنه اعتبر أن عمل هذا الرجل مفيد للمجتمع، واعتبره دافع بلسانه مثل من دافع بيده؛ فأعطاه حقه في بيت المال. وقدر فيه شجاعته في ذلك اليوم، واتخاذه جانب الإِنصاف، والعدل، وانتصاره لذلك؛ فاعتبر عمله كفايةً منه، تعطيه الحق في أن يسود قومه، فسوده ببياض المنصب المتميز!

       وقصة أخرى يرويها أحد الفضلاء، واصفًا موقف إسداء معروف، ظهر فيه النبل من مسديه، والمُسْدَى إليه:

       "مرّ عمرو بن يزيد الأسدي على الحسن؛ فقام إليه، فسأله عن حاله، وألطف في سؤاله؛ فقال عمرو بن عبيد:

       أتقوم لهذا؟

       فقال: إنه صنع إليّ جميلاً في أيام الخوف، ونقلني من مكان إلى مكان؛ فأنا أشكر له ذلك، وأرعاه".(1)

       هذه التفاتة كريمة من الحسن البصري، جعلت جليسه يعجب من حفاوته برجل ظن أن الحسن خرج عن حدود ما يليق به، فكشف له الحسنُ السببَ، وأطلعه على ما يكمن خلف هذه العناية الفائقة، إن نفس الحسن النبيلة سارعت ترد الجميل، عند أول فرصة سانحة، والحسن إن غالى في هذا؛ فلاقتناعه بقيمة ما كان جاءه من معروف هذا الرجل. والخوف، وانعدام لأمان، مما لاينساه المرء، ووجود المأمن منه، وانفتاح باب اطمئنان واسع، لاينسى أيضًا؛ والبدء بالمعروف سبقٌ تتغلغل لذته داخل الروح، فيبقى داخلها يزدهر، ويربو دَرُّه، ويتنامى خيره.

       وقطري بن الفجاءة ناصب الدولة الأموية العداء، وحمل في وجهها السيف، وظفر به الحجاج، ومنّ عليه بالعفو؛ فطوق عنقه بمنة اعترف بها، وبفضل مسديها، والقصة كما يلي:

       "أسر الحجاج قطري بن الفجاءة الخارجي، ثم منّ عليه، وقال:

       أتعاود القتال، ياعدو الله؟

       قال: هيهات! غلّ يدًا مطلقها، وأرقّ رقبةً معتقها. ثم قال:

أَ أُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ

بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّها مَوْلاَتُـهْ

مَاذَا أَقُـوْلُ إِذَا وَقَفْتُ إِزَاءَهُ

فِي الصَّفِّ وَاحْتَجَّتْ لَهُ فِعْلاَتُه

أَ أَقُوْلُ جَارَ عَلَيَّ؟ لاَ، إِنِّي إِذَنْ

لأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلاَتُهْ

وَتَحَدَّثَ الأَقْوَامُ أَنَّ صَنِيْعَهُ

غُرِسَتْ لَدَيْهِ فَحَنْظَلَتْ ثـَمَرَاتُهْ

إِنِّي إِذَنْ لأَخُوْ الْجَهَالَةِ وَالَّذِيْ

طَمَتْ عَلَى إِحْسَانِه جَهَلاَتُه

هَذَا وَمَا ظَنِّيْ بِجُبْنٍ فِيْكُمُ

إِنِّي لِمُطَرقُ مَشْهَدٍ وَغَلاَتُهْ(2)

       لقد فعل العفو بهذا القائد الخطير فعله الجميل، وغرس فيه نبتةً؛ لأن أصله زاكي؛ فمنذ لامست قطرات الصفح أرض روحه الخصبة، نبت الخير الكامن فيها. والقصيدة تدل على اقتناعه بما عليه من حق تجاه صاحب العفو، لقد وجد أنه أصبح عبدًا مملوكاً لعفوه، لقد كبله بقيود مفتولة قوية. إن ذنبه عظيم، وإن على يده دماءً كثيرةً، وهو أمام رجل مهيب، بيده الحجة على قتله، والحزم، والقوة صفته، وأمن الدولة ملء تفكيره، ومع هذا فقد نفذ قطري بن الفجاءة، ونجا بأعجوبة. فشُكْر ما وصل إليه أمره، يجب أن يكون عظيمًا، بعظم هذا الذنب، وهذا الموقف المخيف.

       إن الحوار الذي قام بينه وبين نفسه في هذه الأبيات، يدل على عمق التفكير الذي ربربه قطري في نفسه، وعلى القناعة التامة التي وصل إليها، وعلى ما رسمه لنفسه من خطّة طاعة تامة في المستقبل؛ وقوة عزمه على الاستقامة دلّت عليها قوة هذه الأبيات؛ ففيها قوة سبك، وعمق معنىً، ورجولة متناهية.

       إن قطري تصور لو أنه خان العهد، وتمرد؛ فإن الحجاج لن يكون الذي يجادله، ولكن فعل الجميل هو الذي سوف يُذكر قطري بما كان من الحجاج من عفو، وما كان من قطري من نكث للعهد. ولو ادعى بأن الحجاج جار عليه لكذب، ولاستحق أن يُجَار عليه. وسيقول العقلاء من الناس: إن غرسة الحجاج أثمرت حنظلاً، إنه لا يفعل هذا إلا جاهل، وقطري ليس جاهلاً، يطغى شرّه على خيره، ومن يرضى بهذا الخلق لنفسه، وليس ما يقوم به من باب الجبن، والاستسلام؛ لأنه معروف بالإِقدام في مشهد الحرب الكريه، وإن ما أقنعه بما وعد به هو المنطق السليم الذي دار داخل نفسه، وخرج نفثةً في هذه الأبيات.

       والمعروف له إشعاع يبهر العين، ويعيد الغاضب راضيًا، والمدبر مقبلاً، والغافل متيقظاً؛ لأن نسيم المعروف ينعش الروح؛ فيجعل المرء يتصرف تصرف رضىً يشع بالبشر والقبول، والقصة التالية مثل لذلك:

       "قال المنصور لإسحاق بن موسى العقيلي، وكان قبله خصيصًا عند عمران بن محمد، وقد ضمن غلامًا من بني أمية:

       ما ضمانك له إلا حبًا لبني أمية؟

       فقال: هذا وفائي لمن له عندي يد، وقد زالت عنه الدولة، فكيف وفائي لمن له عندي يد، والدولة عليه باقية؟

       فاستحسن قوله، وأطلق له الغلامَ من غير ضمان"(3).

       إن الخير في نفس إسحاق جعله لا يتأخر عن الوقوف مع من كان لمولاه عليه فضل، ولم يخش سطوة الحاكم؛ لأن بريق الوفاء جعله لا يرى إلا الوفاء، هذا الوفاء الذي لن ينضب معينه؛ بل سوف يزداد بريقًا، لأصحاب المعروف من الأحياء، من أهل الدولة الجديدة، مثلما لم يمت مع موتى الدولة الماضية.

       لقد لمح المنصور ضياء النبل؛ فلم يرد أن يكون أقل كرمًا، ولم يقتصر، بعد أن اقتنع بما قيل، على قبول الضمان، وإنما أعفاه من الضمان؛ فكان الموقف تسابقًا للفضل، ومحاولة نيل قصب السباق فيه.

       ويبدو أن للوفاء عند المنصور قيمةً عاليةً، وهو إن غفل عن أن يلمح ضياءه في لحظة غضب؛ فإنه سرعان ما يرى نوره إذا ما نبه إليه، وقد رأينا ذلك في الحادثة السابقة، وسوف نراه جليًا أيضًا في الحادثة الآتية:

       "سأل المنصور بعض بطانة هشام عن تدبيره في بعض حروبه مع الخوارج فقال:

       فعل كذا، وصنع كذا رحمه الله.

       فقال المنصور: قم، عليك لعنة الله! تطأ بساطي، وتترحم على عدوي!

       فقام الرجل وهو يقول:

       والله إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لاينزعها إلا غاسلي.

       فقال المنصور: ارجع ياشيخ؛ فإني أشهد أنك جهيض حرة، وغراس شريف.

       ودعا له بمال؛ فأخذه، وقال:

       لولا جلالة أمير المؤمنين، وامتطاء طاعته، ما لبست لأحد بعده نعمة.

       فقال له المصنور: مت إذ شئت، لله أنت؛ فلو لم يكن في قومك غيرك، لكنت أبقيت لهم مجدًا مخلدًا".(4)

       لعل الصحيح في هذه القصة أولها، وهو القول الذي فيه الوفاء وبريقه، أما قول الرجل: "لولا جلالة أمير المؤمنين.. إلخ" فلا يستبعد أن يكون مزادًا؛ لأنه نابٍ، وخارج عن حدود اللياقة والعقل اللذان اتصف بهما الرجل، والأدب الذي بدا منه في أول الكلام.

       ولقد جاء بريق الوفاء لامعًا فتح عيني المنصور على ما لم يبد له في أول الأمر، ولقد قضى هذا النور الخيّر على ظلمة الشر، التي بدأت تخيم على قلب المنصور، ورأى "عاصوفًا" أسود بدأ يرتفع أمامه، لم يصبر حتى نفث ما في صدره كلمات قاسية، أتبعها ببرد وسلام، أنبع صفوه، ما قاله الرجل عما في عنقه من قيد، أحكمه الفضل، وأدار عقدته المعروف الكريم الذي أسداه له مروان، آخر أمراء الأمويين، خلفاء الدولة المنتهية التي حلت محلها دولة العباسيين الفتية؛ وأبو جعفر ثاني خليفة فيها، ولم يجف دم قتال هذه لتلك، ولم تخف سموم العداوة.

       والمعروف، في بعض التعبيرات، واستعباد محبب، ورق لذيذ؛ لأنه استحكام جاء عن طريق خير، في وقت حاجة، وجاء بشكل وافٍ، ومقدار تام، وبطريق نفاذ إلى القلوب، لامسًا لشغافها، محركاً للعواطف فيها. ومن الأمثلة التي تدل على هذا، القصة الآتية:

       يقول صاحب كتاب "الإشراف":

       "حدثني شيخ من بني تميم قال: قال الحصين بن عبده العدوي:

       من سبقنا إلى الود، كيف لنا أن نلحق به، ومن ابتدأنا بالمعروف فقد استرقنا".(5)

       إن سحر المعروف في بدئه، وأول أمر كل شيء له التأثير الأكبر على المراحل التي تتلو.

       وعلى هذا النهج يسير القول الآتي:

       "أنشد أبو الحسن علي بن الحسن بن عنتر الحلي لنفسه:

كُنْتُ حُرًّا قَدْ تَمَلَّكْتَ رِقِّي

بِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوْفِ أَصْبَحْتُ عَبْدًا

أَشْهَدَتْ أَنْعُمٌ عَلَـيَّ لَكَ الأَعْـ

ضَاءَ مِنِّيْ فَمَا أُحَاوِلُ جَهْدَا

وَجَدِيْرٌ بِأَنْ يُحَقَّقَ ظَنُّ

الْجُوْدُ فِيْهِ مِنَ النَّوَالِ تَصَدَّى"(6)

       والشعراء يجدون في مدح صاحب المعروف ما يشعرون أنه يؤدّي واجبَ الشكر، وردّ المعروف، ولهذا فالشاعر يحسّ أنه أكثر حظًّا ممن لا يقول الشعر، ممن قد لا يجد الفرصة، أو المقدرة، على رد المعروف، وليس عنده القدرة لإبراز شعوره شعرًا، ونشره على الملأ، مما يثلج به صدر مسدي المعروف، مما يجد به الشاعر أنه أفرح المتجمل عليه مثل ما أفرحه، فخف عبء المعروف، لا بنقص الاعتراف بالجميل، ولكن بالمقدرة على التعبير عنه:

       يقول أبو تمام تعبيرًا عن معروف أُسدِيَ إليه، وكرم جاد به متفضل عليه:

"لَئِنْ جَحَدْتُكَ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنٍ

إِنِّي لَفِيْ اللُّؤْمِ أَحْظَى مِنْكَ فِي اللَّوْمِ

أَنْسَى ابْتَسامَكَ وَالأَلْوانُ كَاشِفَةٌ

تَبَسُّمَ الصُّبْحِ فِي دَاجٍ مِنَ الظُّلَمِ

ردَدْتَ رَوْنَقَ وَجْهِيْ فِي صَحِيْفَتِهِ

رَدَّ الصِّقَالِ بهَاءَ الصَّارِمِ الجَزِمِ

وَمَا أُبَالِيْ وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ

حَقَنْتَ لِيْ مَاءَ وَجْهِيْ أَوْ حَقَنْتَ دَمِيْ"(7)

       ومما قيل شعرًا جزاءًا على المعروف الأبيات الآتية:

       "ذكروا أن القطامي كان يهجو قيسًا، فأسره زفر ابن الحارث، فامتنّ عليه، وأمر له بمئة من الإِبل، فامتدحه بعد ذلك بأشعار كثيرة منها قوله:

مَنْ مُبلِغ زُفَرَ القَيْسِي مِدْحَتَهُ

عَنِ القِطَامِيِّ قَوْلاً غَيْرَ إِقْنَادِ

إِنِّي وَإِنْ كَانَ قَوْمِي لَيْسَ بَيْنَهُمُ

وبَيْنَ قَوْمِكَ إِلاَّ ضَرْبَةُ الهَادِيْ

مثْنٍ عَلَيْكَ بِمَا اسْتَبْقَيْتَ مِنْ حَسَنٍ

وقَدْ تَعَرَّضَ مِنِّيْ مَقْتَلٌ بَادِيْ

إِذْ يَعْتَرِيْكَ رِجَالٌ يَبْتَغُوْنَ دَمِي

   وَلَوْ أَطَعْتَهُم أَبْكَيْتَ عُوَّادِيْ"(8)

       وقيل في الحثّ على المبادرة على عمل المعروف، واعتبر ذلك من أعلى درجات الجود، وأرفع مراتب الكرم، ومما قيل في ذلك:

       "أنشد المبرد:

لا تَبْخَلَنَّ بِمَعْرُوْفٍ عَرَفْتَ لَهُ

وَجْهًا وَبَادِرْ فِي وَقْتِ عِرْفَانِهْ

فَرُبَّمَا انْقَبَضَتْ مِنْ بَعْدِ مَا انْبَسٍطَتْ

كَفٌّ وَقَدْ أَعْوَزْتَنِيْ بَعْدَ إِمْكانِهْ"(9)

       ولاشك أن الجود هو الباب الذي يثبت به المعروف، وعن طريقه يدخل إلى زرع الإحسان لدى فرد من أفراد المجتمع، والكرم هو الوسيلة لدغدغة العاطفة، وحلب درّة الخير في الإنسان، وإرواء عطشى إلى فعل خير مثل صاد ينتظر النجدة، ويؤمل في الإنقاذ، ويرجو الإسعاف.

       ومن الأشعار التي وردتْ حثًا على المعروف الأبيات الآتية:

       "أنشد الأحنف العكبري لنفسه:

بَادِرْ إِلَى كُلِّ مَعْرُوْفٍ هَمَمْتَ بِهِ

فَلَيْسَ فِيْ كُلِّ وَقْتٍ يُمكِنُ الكَرَمُ

كَمْ مَانِعٍ نَفْسَهُ إِمْضَاءَ مَكْرُمَةٍ

عِنْدَ التَّمَكُّنِ حَتَّى عَاقَهُ العَدَمُ

لَيْسَ النَّدَامَةُ فِيْ إِمضَاءِ مَكْرُمَةٍ

بَلْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا يَحْدُثُ النَّدَمُ"(10)

       إن هذا الشاعر يريد من الكريم أن يبحث عن الأراضي الخصبة، التي يمكن أن يزرع فيها معروفه، وأن عليه أن لا ينتظر حتى تقوم الحاجة في طريقه، وتمدّ يدها إلى نواله، إنه يريد أن يبحث عنها، وأن يسعى إليها؛ فإن في الوقت فواتًا للمجد، قد لا يستدرك؛ فقد يخيم العدم محل الوجد؛ فلا يتمكن الكريم من إمتاع نفسه بإسداء الكرم، ولا إشباع رغبته في بذل الجود، ويكون الأوان قد فات، ويحل الندم بسبب العدم، بدل المجد بسبب الوجد، وما يتبعه من سخاء وكرم.

       والمعروف أخذ بتلابيب الخيرين؛ فدعوا إليه بأبسط العبارات، وبأفصحها أحيانًا؛ وهناك قول تردده العامة، وتعطيه رمزًا لفضيلة بذل المعروف، وقد جاء مدوّنًا في أحد كتب التراث، والعامة لا تزال تردده، وقد انتهى في إحدى المرات بقصة هي كما يلي:

       يقول الأمير كيكاوس بن زيار، صاحب كتاب "قابوسنامه" "كتاب النصيحة":

       ".. سمعت أنه في ذلك العصر الذي كان المتوكل خليفة في بغداد، كان له غلام اسمه الفتح، حسن الخط، دائم التوفيق، وقد تعلم الفنون والآداب، فتبناه المتوكل.

       وأراد الفتح هذا أن يتعلم السباحة؛ فكان الملاحون يعلمونه فنونها؛ ولم يكن قد اجترأ على السباحة في دجلة، ولكنه على عادة الصغار كان يتظاهر بنفسه، قائلاً: "إني قد تعلّمت".

       وذات يومٍ ذهب للسباحة منفردًا بغير الأساتذة، وكان الماء يجري بشدةٍ، فجرف الفتح؛ وعرف الفتح أنه لا يستطيع مقاومته، فجاراه، وأرخى نفسه. وصار يدلف على وجه الماء حتى غاب عن أعين الناس؛ فلما قطع مسافةً كان على ضفّة النهر فجوات، نخرها الماء؛ وفجأة بلغ به الماء الفجوات، فجاهد والقى بنفسه في إحداها وجلس. وقال لنفسه: "سأبقى حتى أرى ما حكمة الله تعالى في هذا، وعلى كل فقد نجوت هذه الساعة بنفسي".

       وقد بقي في تلك الفجوة سبعة أيام بلياليها. وأخبروا المتوكل في اليوم الأول أن الفتح قد غرق؛ فنزل عن السرير وجلس على الأرض، ودعا الملاحين، وقال:

       كل من يأتيني بالفتح حيًا أو ميّتًا أعطه ألف دينار.

       وأقسم الأيمان المغلظة، قائلاً بأنه: "إذا لم يأتوا به بالحالة التي يكون عليها، ولم أره؛ فإني لن أتناول طعامًا".

       فنزل الملاحون في دجلة، وغاصوا، وأخذوا يبحثون إلى أن وصل أحد الملاحين في نهاية اليوم السابع إلى تلك الفجوة، ورأى الفتح، فابتهج، وقال:

       أَذْهَبُ فَأُحْضِرُ السماري (نوع من الزوارق).

       فذهب، وجاء إلى المتوكل، وقال:

       يا أمير المؤمنين، إذا أتيت بالفتح حيًا فماذا تعطيني؟

       قال: أعطيك خمسة آلاف دينار نقدًا.

       فقال الملاح: وجدته، وسأتي به حيًّا.

       فأخذوا السماري، وأتوا بالفتح حيًّا؛ فأعطى المتوكل ما كان وعد به الملاح، وقال للوزير:

       إذهب إلى الخزانة، وأعط للفقراء النصف من كل ما يكون بها.

       ثم قال: أحضروا الطعام؛ فإنه جائع سبعة أيام بلياليها. فقال الفتح:

       يا أمير المؤمنين، إني شبعان.

       فقال المتوكل: لعلك شبعان من الماء!

       فقال الفتح: في هذه الأيام السبعة كان يأتيني في كل يوم عشرة أرغفة موضوعة على طبق؛ فكنت أجاهد، وآكل في كل يوم اثنين أو ثلاثة منها، وأعيش بها. وكان مكتوبًا على كل رغيف: "محمد ابن الحسن الإِسكاف".

       فأمر المتوكل أن نادوا: "من الرجل الذي كان يلقي بالخبز في دجلة؟". فأتوا به، وقالوا له: إن الأمير سيحسن إليك.

       وفي اليوم التالي جاء رجل وقال:

       إني أنا الذي ألقيت الخبز في دجلة.

       فقال المتوكل: بأية علامة؟

       قال: بعلامة أن أسمي: "محمد بن الحسن الإِسكاف" كان مكتوبًا على كل رغيف.

       فقالوا: إن هذه العلامة صحيحة. فمذ أي وقت تلقي بهذا الخبز في دجلة؟

       قال: منذ سنة.

       ققالوا: وما غرضك من هذا؟

       قال: كنت قد سمعت أن أعمل المعروف، وألق به في الماء؛ فإنه يثمر يومًا ما.

       فقال المتوكل: لقد عملت بما سمعت، ووجدت ثمرة ما عملت.

       وأقطعه خمس قرى على باب بغداد. وذهب ذلك الرجل إلى قراه، وصار وجيهًا جدًا، إلى أن ذهبتُ في زمن القائم بأمر الله للحج، حيث رزقني الله زيارة بيته؛ فرأيت أحفاد ذلك الرجل في بغداد، وسمعت هذه الحكاية من الشيوخ".(11)

 

*  *  *

الهوامش:

(1)         ربيع الأبرار: 4/324.

(2)         ربيع الأبرار: 4/327.

(3)         ربيع الأبرار: 4/342.

(4)         ربيع الأبرار: 4/346.

(5)         الإشراف: 377.

(6)         ذيل تاريخ بغداد: 18/312.

(7)         الزهرة: 2/151.

(8)         الزهرة: 2/184.

(9)         ذيل تاريخ بغداد: 16/281.

(10)    ذيل تاريخ بغداد: 17/35.

(11)     قابوسنامه: 64.

 

رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33