مواصلة السير نحو الغاية هي الفوز بنفسها

 

 

 

كثيرٌ من الشباب يطمحون لتحقيق أحلام كبيرة وآمال عريضة؛ ولكنهم لاينجحون في تحقيقها، ويسقطون في وسط الطريق أو يرجعون من ربعه أو ثلثه، أو بعدما يكادون يبلغون الغاية ويُوشِكُون أن ينصبوا الراية. ذلك لأنّ الطريق إلى تحقيق غاية ما في الحياة يكون في الأغلب صعبًا وَعْرًا طويلاً، يحتاج المرأ ليجتازه في نجاح إلى أشياء عديدة مُتَنَوِّعَة، تُعِيْنُه على متابعة السير ومواصلة الرحلة. منها: تكوينُ الذات، وبناءُ الشخصية، وتربيةُ الإرادة، وحسنُ إدارة الوقت، واستغلالُ الفرصة، والضنُّ بلحظات الحياة على أن تضيع في غير غاية شريفة يتوخّاها، واليقظةُ الواعيةُ، والانتباهُ الناتجُ من الشعور بالمسؤوليّة، والصبرُ والهدوءُ، والتأنِّي والرفقُ، وما إلى ذلك من سِمَات الرجولة وصفات المروءة التي تضمن النجاحَ وتكفل الانتصارَ في معركة الحياة.

       الشبابُ في الأغلب يعتمد التَسَرُّعَ والتَّهَوُّرَ، ويحرص على أن يحرز ما يريده بين عشيّة أو ضحاها أو في وقت أقلّ من ذلك. يزرع وينتظر أن تبرز البذرة نبتةً، فتصير شجرةً، فتعود تثمر، ولاتنقطع ثمارها مهما كانت الفصول، وأن يحصل ذلك كلِّه في يوم وليلة أو في مدة أقلّ من ذلك؛ ولكنّ الله خالق الكون والمحيط بطبائع الأشياء علمًا، و واضع السنن بمشيئته لإدارة الكون، لم يرد ذلك، وإنّما أراد التدرّجَ والمرحليَّةَ، وأن يحدث كلّ شيء في وقته، وبعد أن يجتازَ الأجل الذي قَدَّرَه له.

       السيرُ في طريق الحياة نحو تحقيق غاية، سيرٌ بالسيَّارة في طريق طويل، يقتضي الانتباه واليقظة في جانب، والصبر والهدوء ومجانبة الاستعجال في جانب آخر. أمَّا الاستعجال والتهوّر فقد يؤدّي إلى ما لايودّ إنسان لعدوّه فضلا عن صديقه وعن ذاته. السيرُ في طريق المستقبل لتحقيق حلم وإحراز غرض ترضاه الذات وتحرص عليه النفس يحتاج إلى العزيمة التي لا تُقْهَر، والصبر الذي لا ينفد، والإصرار الذي لايقبل الانكسار، وتحديد الأهداف التي تستقطب غاية الاهتمام، والحماس الذي لايبرد رغم كل محاولة من كل الناس لإخماده .

       والعزيمة المُؤَكَّدَة على الرقيّ بالحياة،والنهوض بالشخصيّة، والاستعداد النفسي لبذل الجهود الواعية لذلك، أكثر إثارة للحماس الذي لاتُخْمِده قوّة في الكون. الشبابُ قد تفتر عزيمته لعدم تحديد الأهداف بشكل يدعو للاستماتة في سبيل إنجازها، وتجاوز كل عقبة تعترض طريقَها مهما كانت كؤودًا. الأهدافُ مُحَدَّدَةً هي – كما يُجْمِع المفكرون من كلّ ديانة وجنسيّة – بمثابة نقاط انتقال واهتداء واستضاءة في الطريق، أو منارة نور يهتدي بها المارّة من بعيد.

ثم يأتي دورُ الإصرار، كالنملة تصعد ثم تسقط، ثم تصعد فتسقط؛ ولكنها لاتنثني عن إرادتها، ولا يفتُّ السقوطُ المُتَكَرِّر في عضدها، وإنما تُصِرُّ على الصعود، ومواصلة السير، وبلوغ الغاية. إنَّ تحقيقَ الهدف لايحصل إلاّ بالإصرار. الاصرارُ عنصرٌ أساسيّ في سبيل إنجاز غاية، وهو شيء لابديلَ منه، ولا عوضَ عنه، ولايحلّ محلّه حتّى الموهبة؛ فقد تجد أناسًا كثيرين هم موهوبون؛ ولكنهم فاشلون غيرُ ناجحين، مُهْمِلُون مُتَسَكِّعُون في طريق الحياة؛ لأنهم فقدوا الإصرارَ. وكذلك العبقريّةُ (Genius) والنبوغُ غير العاديّ أو الذكاء العالي لاتكون بديلاً عنه؛ لأن هناك كثيرين نبغوا وأُكْرِمُوا بالعبقرية وطُبِعوا على الذكاء غير العاديّ؛ ولكنّهم ظلّوا مُهْمِلِين، لم يُنْجِزوا شيئًا يذكر، ولم يُخَلِّدُوا ما يخلّد أسماءَهم.

       من ثم كان يقول معلم العربيّة العبقريّ المثالي المنقطع النظير، المربي الجليل أستاذنا فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانويّ رحمه الله (1349-1415هـ = 1930-1995م) رئيس مساعدٌ ومدير للمجلس التعليمي بالجامعة الإسلاميّة الأهليّة الأمّ: دارالعلوم/ ديوبند: إن الشباب لكي يتخرج مُؤَهَّلا لايحتاج إلى شيء بمثل ما يحتاج إلى العزيمة فالإصرار فالاجتهاد المتّصل. كان يقول: إن الذكاء والموهبة والعبقرية مقومات مساعدة وليست مقومات أصليّة، إنما الأساس في بناء الذات وتكوين الشخصية وتحقيق الهدف هو العزيمةُ والإصرارُ والاجتهادُ مع طاعة مُرَبّ يقوم بتخريجه، وإثارة موهبته الكامنة، ونحته رجلاً يسير فلا يعبأ بالمتاريس، ولايخاف المُثَبِّطِين، ولاينهار أمام مغريات تنحرف به عن الصراط، مهما كانت قويّة.

       العزيمةُ والإصرارُ هما القوة الهائلة، هما الشحنةُ النفسيّةُ، والطاقةُ المُفَجِّرَة، لأنهما وحدهما يُذَلِّلاَن كلَّ العقبات، ويجعلانِ صاحبهمَا يقفز على جميع العوائق ويمنحه الشحنةَ العقديّةَ، والثقةَ بالنفس،ورؤيةَ المستقبل الغائب في مرآة الحاضر الذي يُمِدُّه بقوّة خارقة يثب بها إليه المستقبل وثبةً ساحرةً واسعةً تُدْهِش العقولَ وتَدَعُ أصحابَ النهى حياري في التوصّل إلى تفسير لها.

       وأَجْمَعَ العلماءُ والمُفَكِّرُون أنّ الجميعَ يثقون بالإنسان الذي يتمتّع بـ"الإصرار" لأنهم يتأكّدون أنه عندما يتولَّى مسؤوليّةً لايدعها حتى ينجزها؛ لأنه لايخوض معركةً في الحياة إلاّ ويحسمها لصالحه؛ فقد عُهِدَ أن يُحَقّق كلّ شيء يعزم عليه، بإصراره فاجتهاده الذي لايني، وعمله الذي لاينثني. وقد يخفق في الإنجاز ولكنه – الاخفاق – لايُهِمُّه ولاغيرَه؛ لأن النجاح ليس دائمًا هو الإنجاز، وإنما هو المحاولة الدائمة للإنجاز. الأغلبيّةُ من الناس تعتقد أنّ النجاحَ هو الإنجازُ دائمًا، وكسبُ كلِّ معركة ظاهرًا؛ ولكنّ العقلاءَ الخبراءَ يقولون: اُرْفُضْ أن تكون من الأغلبيّة الحذرة التي تلعب لكي لاتخسر، اِلْعَبْ لتفز، والفوزُ ليس دائمًا إحزازُ النصر على الفريق، وإنما هو شجاعةُ المحاولة، ولذّةُ العمل، وحلاوةُ الشعور بالمسؤوليّة، وطيبُ النفس بالإصرار والعزيمة الثابتة ثبوت الجبال الرّاسيات.

       ليكن درسُك في الحياة – يا شبابُ – أنّ الغايةَ لاتُبْلَغ بالتَمنِّي والترجِّي، والحماسِ الآنئ الذي ينطفئ كشعلة تَشِبُّ فجأة، وتخمد عاجلاً، ولكن تَمَسَّكْ بالعزيمة لاتثنيها العواصفُ الهوجاءُ، والإصرارِ الذي تنهزم لديه كلُّ العقبات، تقطف ثمارَ الحياة يانعةً، وتنجز أغراضك حلوةً، وتنال أهدافَك رغم كره الكارهين واعتراض المعارضين. وإن لم يكن ذلك فإن لذّةَ الجهد، وحلاةَ مواصلة السير هي الفوزُ بنفسها، يثق بفضلها مواصلة السير فيك جميعُ من دنا ونأى، ولا يصيبك قطّ الشعورُ بالشقاء أو الفشل والخيبة.

 

( تحريرًا في الساعة 10 من ضحى يوم الخميس: جمادى الثانية  1430هـ = 28/مايو 2009م ) .

 

أبو أسامة نور

 

رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33