الإدب الإسلامي

شباب الشعر العربي في العصر العباسي

 

بقلم : الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)

 

سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية عام 132هـ/749م، وكان للفرس الفضلُ الأكبرُ والخطرُ العظيمُ في قيامها، فتمتَّعوا بمكانةٍ مرموقةٍ في الدولة، وكان لنفوذهم الواسع أثر كبير في سياستها(1) حتى قال الجاحظ: "دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية"(2).

       عرفنا من ذلك أن الدولة الأموية كانت عربيّة خالصة، وكانت تتعصب للعرب ولغتهم وثقافتهم وآدابهم، ولم تتخذ جنودها وقوادها وسائر عمّالها إلا من العرب. فبقــي الأدب والشعر على ماكانا عليه في الجاهلية ولم يحدث فيهما تغييرٌ يُذْكَرُ.

       لما كانت الدولة العباسية قد قامت على أكتاف الفرس، وهم الذين بذلوا دماءهم وجهودهم في قيامها اصطبغت الدولة بالصبغة الفارسية، فكان منهم الوزراء والكتَّاب وحكّام الولايات، كما دخلت العناصر المختلفة من الفارسية والتركية والسريانية والرومية في تكوين الدولة، فاختلطت المدنيتان: الآريةُ والساميةُ وتمازجتا، ولكل من المدنيتين لغة وثقافة وآداب ومعتقدات فأثرت إحداهما في الأخرى.

       ومن مميزات الدولة العباسية أنها أطلقت الحرية في الدين وشؤون الدنيا، فتعددت الفرق والمذاهب، وتكاثرت الجوارى والغلمان، وأخذ الناس يسترسلون في الخلاعة والمجون، ويتأنّقون في المآكل والملابس، ويتنافسون في البناء والرياش.

       كل ذلك أحدث انقلابا اجتماعيا له أثر عظيم في العقول والميول وعلى أقلام الكتاب وألسنة الشعراء، فتخيّروا معاني جديدة، واختاروا ألفاظا جزلة، وفتحوا أبواب البديع وعُنُوا بالتنميق والتنسيق.

       وكان لهذا الانقلاب الاجتماعي أثر كبير على الشعراء؛ لأنهم هم الذين تقربوا إلى الخلفاء، وأخذوا نصيبا كبيرا من الترف والمدنية، ونادموهم على الشراب وجالسوهم في السمر، فكفوا أيديهم عن العمل في ميادين الحياة وانطلق خيالهم، فتفرغوا لصوغ الشعر في أشكال مختلفة، ولقوا تشجيعا من الخلفاء، وميلا من البيئة، وتحمسا من القريحة والسليقة، فانتقل الشعر من البوادي إلى القصور على يد مجموعة من الشعراء المولدين. فإذا قارنا بين الشعر في العصر الجاهلي وبين الشعر في العصر العباسي وجدنا بونا شاسعا بينهما؛ فالأول يمثل الحياة العربية أحسن تمثيل، ويصوّر حياة العرب الاجتماعية أتمّ تصوير فيه خيالهم، فيه طريقة صيدهم، وفيه وصف حروبهم ولهوهم وجدهم وبداوتهم. وأما الثاني فقد وجدنا الناس، خاصة الفرس الذين دخلوا في الإسلام وكانت لهم غلبة على مرافق الدولة، لم يعودوا يتذوقون بذوقهم الفارسي الشعر العربي الجاهلي، وإنما يتذوقون ما ألفوا من التغني في شعرهم بالحب، والخمر، فظهر العباس بن الأحنف الخراساني البيئة، وأبونواس الفارسي الأم، يشبعان ذوقهما، الأول في عشقه، والثاني في خمرياته. قد كان للعربي الجاهلي شعر في الحب، وشعر في الخمر. ولكن شتان بين خمريات طرفة وخمريات أبي نواس، وشتان بين شوق امرء القيس وشوق العباس بن الأحنف. وما أحسن ما قال الجاحظ: "كم بين قول امرء القيس: "تقول وقد مال الغبيط بنا معا" وبين قول علي بن الجهم:

                                  سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة

                                                وأدنى فـؤادا من فـؤاد معذَّب

                                  فبتنا جميعا لو تراق زجـاجـة

                                                من الراح، فيما بيننا لم تسرّب(3)

       وإذا ألقينا نظرة على الشعر العربي واستعرضنا حياته وجدناه قد تطور تَطَوُّرَ الأمة العربية، وقطع مراحل حياته كما يقطع الإنسان مراحل حياته من صبا وفتوة، وشباب وكهولة، وهرم. فهو في الجاهلية أنغام صبي، وأطماع حياة، ثم استحار حياته واكتمل شبابه في صدر الدولة العباسية. فظهر في شعر بشار وأبي نواس وأضرابهما عبث شباب، وأغاني طرب ومظاهر ترف، ثم عض على نواجذ الحلم واكتهل في أوساطها، فبدا في شعر ابن الرومي وأبي تمام والمتنبّي وأمثالهم دروس تجربة ونتائج حكمة وخواطر فلسفة، ثم أدركه الهرم في أواخرها فظهر في شعر المتاخرين تمويه صَنْعة وخرف شيخوخة ومعالجة روح.(4)

       لقد شهد الشعر في العصر العباسي تطورًا عظيمًا في أسلوبه ومعانيه، وأغراضه وأوزانه.

       أما أسلوبه فقد ابتعد عن غريب الكلمات، وآثر عذوبة التركيب واستحدث البديع واستكثر منه، وترك الابتداء بذكر الأطلال، ووصف القصور والخمور، وبالغ في المدح والهجاء، وأكثر من التشبيه والاستعارة، وحرص على التناسب بين أجزاء القصيدة والترتيب في تركيبها.

       وأمّا معانيه فقد تولدت فيه المعاني الحضرية، ودخلت فيه الأفكار الفلسفية؛ لأن أكثر الشعراء في هذا العصر رضاع لغتين وأدبين، وربائب حضارتين مختلفتين، وكان لذلك تاثير كبير في توليد المعاني الجديدة، وقد ظهرت في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي.

       هذا إلى أنّ العرب نقلوا علوم اليونان وفلسفتهم فكان لهذا النقل تاثير كبير على الشعر في معانيه.

       وأمّا أغراضه فالإغراق في وصف الخمر ومجالسها ونعت الرياض، والصيد، وغزل المذكر، والمجون، والوعظ والأخلاق والفلسفة، وضبط العلوم كالنحو وغيره.

       وأما أوزانه فالإكثار من النظم في البحور القصيرة، وابتداع أوزان جديدة، كالمستطيل، والممتد، والموشح، والزجل، والدوبيت، والمواليا، وكذلك في القافية كالمسمط والمزدوج.

       ولما ضعفت الخلافة في بغداد واستقلّ الولاة بالحكم في فارس والشام ومصر والمغرب، وجد الشعر ملاذاً في غير بغداد، فانتقل إلى بني بويه وآل حمدان، وصادف منهم تشجيعا كبيرا، وكان لهذا التشعب السياسي فضل كبير في نهضة الشعر.

       بقي الشعر على هذه الحال من العناية بالألفاظ والإصابة للغرض، والتفنن في المعنى، حتى انقضى القرن الخامس الهجري، فذهب معه جمال الشعر العربي من الشرق، وفقد تأثيره في النفوس؛ لأن المعضدين من بني بويه ذهب سلطانهم، وقلّت رغبة آل سلجوق، ومالت الخواطر إلى الأدعية والتصوف، وعجزت القرائح عن التوليد والابتكار.

       وأما المتأخرون منهم فقد أخذوا معاني الشعراء القدامى ورفعوا عقيرتهم بتردادها حتى أصبح منتهى جمال الشعر عندهم "أحسن الشعر أكذبه".

       ثم أسوق نماذج من شعر الشعراء البارزين في هذا العصر مع التعريف الموجز بحياتهم(5).

       هذا بشار بن برد أصل أبائه من بلاد الفرس، وقع عليهم سبي؛ فآل ملك أبي بشار لبني عقيل، وفيهم ولد بشار، ولما كبر صار يختلف إلى أعراب البصرة حتى أخذ عنهم العربية، وتعلّم الشعر ونبع فيه. وقد وُلد أعمى، ثم أصابه الجدري، فصار قبيح المنظر، ولكنه كان شديد الذكاء واسع الخيال، ذا ملكة قوية في الشعر، يُعَدُّ من أكبر شعراء عصره، وفي مقدمة المحدثين وأهل الافتنان، ومن أصحاب المعاني المخترعة في الشعر العربي، كان كثير الهجاء للناس ماجنًا، متهمًا في دينه بالزندقة. قد تصرف بشار في فنون الشعر ومعانيه، وذاع شعره في زمانه، وصار إمامًا بين الشعراء. وكان لأسلوبه قوة معروفة وجمال ممتاز، وقدمات مقتولاً سنة 167هـ.

       وقال في الغزل:

يا منظرًا حسنًا رأيتــه     *  من وجه جاريـة فديته

بعثت إلى تســـومـني  *  ثوب الشباب وقدطويته

والله رب محمـــــد  *  ما إن غدرت ولا نويته

أمسكت عنك وربمـــا *  عرض البلاء وما ابتغيته

إن الخليفـــة قد أبى    *  وإذا أبــى شيئـًا أبيته

ومخضّب رخـص البـا   *  ن بكى على وما بكيتــه

ويشوقني بيـت الحبيب   *  إذا ذكـرت وأين بيتــه

       وهذا العباس بن الأحنف، وكان شاعرًا ظريفاً، نشأ في بغداد في حال يسر ورخاء،لم يصطنعْ المدح والتكسب بالشعر، بل توفر على الغزل في مدح فوز، ولزم هذا الفن وحده مجيدًا موفقا، حتى مات 192هـ.

       يمتاز شعره بالسهولة، وحس التصرف، وجمال المعاني، فهو من شعراء الغزل العذريين.

       ومن شعره في الغزل:

                                  قالت ظلـوم سميــة الظلم

                                                ما لي رأيتك ناحـل الجسم

                                  يا من رمى قلبي فأقصــده

                                                أنت العليم بموضع السهم

       وذلك أبو نواس الحسن بن هانئ،نشا نشأته الأولى في البصرة، وكان يَكْلَفُ بمن يجيدُون قرض الشعر، ثم تحوّل إلى الكوفة ليأخذ على والبة بن الحباب، وكان والبة شاعرًا ماجنًا مشتهرًا بالشراب، وصافًا للخمر ثم انتقل إلى بغداد.

       برع أبو نواس في الشعر، حتى بذّ أهل زمانه، ولم يُجِدْ شاعر قبله ولا بعده وصف الخمر كما أجادها، وكان ماجنًا مستهترًا، توفر عمله على تحصيل اللذائذ ما يبالى في ذلك شيئًا وقرض الشعر في أبواب المجون غير متأثم ولا متحرج. أبونواس لايُعد من أعظم الشعراء العباسين فحسب، بل من أعظم شعراء العربية على الإطلاق، وكانت وفاته سنة 198هـ.

       قال يصف الخمر:

دع عنك لومي فـإن اللّوم إغـراء

داوني بالتـي كانت هـي الـداء

صفراء لاتنزل الأحــزان ساحتها

لو مسّها حجـر مستـه سـرّاء

رقّت عن الماء حتى ما يـلائمها

لطافة، وجفا عـن شكلها الماء

فلو مزجت بها نورًا لمـازجها

حتى تولد أنوار وأضـــواء

دارت على فتية دان الزمان لهم

فما يصيبهـم إلا بمـا يشـاء

لتلك أبكي ولا أبكي على منزلة

كانت تحـل بها هنـد وأسماء

       وهذا أبوالعتاهية إسماعيل بن القاسم يكنى أبا إسحق، نشأ بالكوفة، عالج الشعر صبيًّا خليعًا، ثم ألمّ بمذاهب المتكلمين والفلاسفة حتى خرج زاهدًا، وكان بـخيلاً شديد البخل. غلب عليه مذاهب الزهد حتى مات 211هـ ببغداد .

       ويمتاز شعره بالسهولة ووضوح المعنى، وتناول خواطر العامة فكان صلةً حسنةً بين الطبقات المتباينة، ويكاد شعره من السهولة يكون نثرًا.

       يقول في الوعظ:

لدوا للموت وابنـوا للخراب

فكلكم يصيـر إلى تَبَــاب

ألا يا موت! لم أر منك بُـدًّا

أتيت وما تحيف وما تحابـي

كأنّك قد هجمت على مشيبي

كما هجم المشيب على شبابي

       وجملة من أمثاله:

حسبك مما تبتغيـه القـوت

ما أكثـر القـوت لمن يمـوت

الفقر فيما جـاوز الكفـاف

من اتقى الله رجـا وخافا

هي المقادير فلمني أو فـذر

إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

ما انتفع المـرء بمثل عقلـه

وخير ذخـر المـرء حسن فعله

إن الشباب والفراغ والجـدة

مفسدة للمـرء أي مفسـدة

ما زالت الدنيا لنا دار أذى

ممزوجة الصفو بألوان القذى

       وهذا أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، وُلد في قرية جاسم من بلاد حوران الشام، ثم انحدر إلى مصر صبيًّا فتروى الأدب، وأكثر من حفظ الشعر قصيده وأراجيزه، وعالج القريض حتى أجاده وبرع فيه، ثم صار إلى بغداد، فمدح الخليفة المعتصم وغيره فأبدع وأوفى على الغاية.

       حتى تقدّم على شعراء عصره، ويمتاز في شعره بتخير اللفظ، وتجويد الصياغة، وهو أول من عنوا بتحري فنون البديع، وبـخاصةٍ الطباق والتجنيس، وكانت وفاته سنة 231هـ قال وهو يمدح الحسن بن رجاء:

لما وردنا ساحـة الحسن انقضى

عنا تعجرف دولـة الإمحـال

أحيا الرجاء لنا بـرغم نوائب

كثرت بين مصـارع الآمـال

أغلى عذاري الشعر أن مهورها

عند الكرام وإن رخص عوالي

ترد الظنون بنا على تصديقها

ويحكم الآمال في الأمـوال

       وصاحبنا أبوالحسن علي بن الجهم، وُلد بخراسان، ثم انتقل إلى بغداد وأقام بها واختص بالمتوكل، وكان من خاصّته وأحبّه المتوكّل، ثم ظهر له شيء من سوء أخلاقه؛ لأنه كان نمّامًا واشيًا فنفاه إلى خراسان سنة 232هـ. كان ابن الجهم شاعرًا مشهورًا جيد الشعر وصافًا قوى الأسلوب رائع المعاني حسن التعليل مات سنة 249هـ.

       يقول في الفراق :

يا رحمتا للغريب بالبلد النا

زح ماذا بنفسـه صنـع

فارق أحبابه فما انتفعـوا

بالعيش من بعده ولا انتفع

       جملة القول إن الشعر العربي تطوّر في العصر العباسي، وتجاوز مرحلة المراهقة والفتوة حتى بلغ مرحلة الشباب، ومرحلة الكهولة؛ لذلك نجده في هذا العصر حافلاً بالمجون والخلاعة في جانب، وبحكم وتجارب في جانب آخر. ثم إنّه لـمّا ضعف أمر الدولة واستقلت الولايات بالحكم وجد الشعر ملاذًا في الحواضر غير بغداد وبقي جماله وطراوته فيها، كما نراه في شعر المتنبي وأبي فراس الحمداني وغيرهما فلما سقطت الدولة العباسية ذهب جمال الشعر من الشرق كذلك .

*  *  *

الهوامش:

(1)    التاريخ الإسلامي الوجيز ص: 148.

(2)    البيان والتبيين 3/206.

(3)    ضحى الإسلام 1/21 بصرف يسير.

(4)    تاريخ الأدب العربي 183.

(5)       المنتخب من أدب العرب 3/27، تاليف مجموعة من المؤلفين ط. مصر 1954م .

 

 

شعبان 1430 هـ = أغسطس 2009 م ، العدد : 8 ، السنة : 33



(*) أستاذ بقسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم، ديوبند.