الفكرالإسلامي

شجون رمضانية

 

بقلم : الأستاذ أمل زاهد

 

كأني برمضان قد تركنا العام الماضي ليعود فيجدنا على نفس الحال الذي غادرنا فيه إن لم تزد الأوضاع سوءًا والأجواء اكفهرارًا، وكأن هذه البقعة المتأججة من الأرض تكاد تتفجر من هول الأحداث المتعاقبة على مسرحها. ولو عدنا بالذاكرة لرمضان الماضي لوجدنا السيناريو السياسي نفسه مع اختلاف في الشدة هنا..

     وتباين في بعض التفاصيل هناك؛ فالعنف الأعمى لايزال يجز أعناق الأبرياء في العراق، والإنسان العراقي يفطر على مدافع الإرهاب وولائم الدم.. يغادر الناس بيوتهم على أمل العودة لمشاركة أهلهم طعام الإفطار فيعودون إما جثثًا متفحمةً أو أجسادًا هامدةً أقرب للموت منها للحياة، بينما تقف العنجهية الأمريكية تشمر عن ساعديها وتكشر عن أنيابها رغم أنوف آلاف المتظاهرين على حواف البيت الأبيض ورغم أصداء فشلها الذي ملأ الآفاق. كما اشتدت حدة الصراع بين فتح وحماس بينما يعاني المواطن الفلسطيني من الحصار والجوع وانتفاء الأمن، ولبنان لايزال يرزح هو الآخر تحت وطأة صراعات الإخوة الأعداء وانشقاقات الأحزاب السياسية، إلى آخر ما يجري في عالمنا العربي السعيد من أحداث جلل. ناهيك بالطبع عن معاناة المواطن العربي المستنزف ليحصل على قوت يومه وسط أرتال البطالة وموجات الغلاء التي طالت يدها الغاشمة أخيرًا حتى الأسواق السعودية!! لتقضي على البقية الباقية في جيوب العباد بعد كارثة الأسهم، خصوصًا وقد تزامن دخول رمضان مع بداية العودة للمدارس وما تحتاجه من مستلزمات.

     وانطلاقًا من هذه الشجون الرمضانية لابد أن يتساءل المرء عن الهوة الكبيرة بين الإسلام وجوهره وبين المسلمين وممارساتهم!! ولنا في شهر رمضان المبارك خير مثال؛ فما أن تلوح في الأفق تباشير قدوم شهر الصوم الكريم حتى تستنفر الجهود لحملات التسوق الغذائي الكافي الوافي لكل أنواع الطعام وشتى صنوف الحلويات ومختلف أنواع المعجنات!! ناهيك عن الفواكه والتمور والنقل وكل ما لذ وطاب من الأطعمة والمشروبات ليقوم الصائم بهجوم ساحق ماحق ليقضي على كل ما هو موجود على مائدة الإفطار! وهو ما يتنافى تمامًا مع جوهر الصيام وأهدافه القائمة على تهذيب الغرائز وقسر النفس ومجاهدتها، والإحساس بمعاناة الفقراء والمحتاجين! وتلك الوحدة التي يشعر بها المسلمون كافةً وهم يفطرون ويمسكون في وقت واحد، إلى سلسلة طويلة من الأهداف والقيم التي يفترض أن يرسخ لها شهر الصوم!

     فيتم تفريغ شهر الصوم من معناه واختطافه من الأهداف التي شرع لأجلها فيتحول إلى طقس سنوي لممارسة تقاليد وعادات معيّنة، وإلى شهر للشراهة وإتخام المعدة والأمعاء ولتعزيز العقلية الاستهلاكية التي صارت سمةً من سمات مجتمعاتنا! وبينما تؤكد تعاليم الإسلام وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن خلق الصائم قائم على دماثة الخلق والتسامح والحلم والترفّع عن الصغائر، نجد جميع أفراد الأسرة يشحذون أسلحتهم لمواجهة بعضهم بعضًا؛ فالزوج يغضب وينفعل إذا لم يحز الطعام على إعجابه، وتنفس الزوجة عن غضبها في الأطفال أو الخادمة والكل يحتج أنه صائم وتعب وأن الصيام يستنفذ طاقاته على الصبر والاحتمال! وفي الصيام والجوع والعطش حجة لتبرير سوء الأخلاق ونفاذ الصبر و(فشة) الخلق في عباد الله.

     وفي دوائر العمل والمؤسسات الحكومية والخاصة لابد أن تقابل بتجهم الموظفين الصائمين وتثاؤبهم وكسلهم وتأجيلهم وتسويفهم لقضاء مصالح الناس؛ فهم صائمون مستنزفو الجهد ولايحق لك مطالبتهم بأداء متقن لأعمالهم!! وما عليك إلا التغاضي عن ضعف الأداء وهبوط المستوى وسوء التعامل إكرامًا لشهر الصيام والصبر والاحتساب! وفي المعاقل التعليمية والمدارس لاتستغرب من تهرب الطلبة والطالبات من المداومة على الحضور ومن غيابهم المتكرر أو من تأخرهم عن مواعيد بداية الحصص الدراسية! ولا تتعجب من مطالبة المعلمين والمعلمات والطلاب بالإسراع في الإجازة والاعتراض على استمرارية الدراسة في رمضان! فالجميع مرهقون فقد اعتادوا على قلب الساعة في رمضان ليتحول الليل إلى نهار وليقضي المتفرغون نهارهم في النوم وأصحاب العمل في تثاؤب وتبرم وضيق بساعات العمل وما أحلى السهر في رمضان وما أبهى الليالي الرمضانية!!

     وليس لك أن تفتح فمك بنبرة اعتراض إذا ما قوبلت بأجفانهم المتورمة أو عيونهم المحمرة فالجميع صائمون، وعلى السهر قائمون، وعلى متابعة ما يبثه المد الفضائي الكاسح من مسلسلات وبرامج ولقاءات وسهرات وخلافه مداومون!! فالشره الرمضاني يمتد لحقل الفرجة والتفرج على أكبر عدد ممكن من المسلسلات الرمضانية التي تتسابق الفضائيات على عرضها على حساب الجودة وقوة الطرح، وليس لك أن تطرح تساؤلاً بريئًا عن الحبكة الدرامية أو معقولية الأحداث أو سذاجة الطرح أو فجاجة تقديمه المسطح لمفهومي الخير والشرّ أو عن مناسبة أعمار الممثلين والممثلات للأدوار التي يقومون بها!! وما عليك إلا أن تصدق أن يسرا حبيبة أحد الممثلين الشبان وليست في أفضل الأحوال أمه!! ثم عليك أن تبتلع على سبيل المثال أن بيتًا مصريًّا تقليديًّا لم يتلق ثقافةً سافيةً لايحتفظ بصورة فوتوغرافية معلقة على الحائط في غرفة معيشته للأب الغائب في العراق!! فيتمكن يحيى الفخراني بكل يسر وسهولة من احتلال مكانه ولعب دوره كما شاهدنا في مسلسل رمضاني سابق، وكله في شهر الصيام مقبول بما فيه الضحك على عقول المشاهدين والاستخفاف بوعيهم!! وحمى الاستهلاك تمتد لتجعل من الفسيخ شربات ومن العصير شهدًا!!

 

 

رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر - أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33