دراسات إسلامية

حكم الجماعة في الصلاة

(2/2)

 

بقلم : د. عبد اللّه محمد سعيد

 

أدلة الحنابلة :

     استدل الحنابلة على ما ذهبوا إليه من وجوب الجماعة بما يأتي:

     أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:

     1 – قول الله تعالى: ﴿وَارْكَعُوْا مَعَ الرَّاكِعِيْنَ﴾(1).

     ووجه استدلال الحنابلة بتلك الآية: أن الله تعالى أمر بإقامة الصلاة والمحافظة عليها وإقامتها، ثم أمر سبحانه في نفس الآية في الأمر الثاني منها بفعل الصلاة في جماعة؛ حيث إن الآية تحتوي على أمرين: الأمر الأول: المحافظة على الصلاة.

     والأمر الثاني: هو قوله سبحانه: ﴿وَارْكَعُوْا مَعَ الرَّاكِعِيْنَ﴾ فقد عبّر عن الصلاة بالركوع، والمراد به المحافظة عليها(2) يقول ابن القيم: ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه أمرهم بالركوع وهو الصلاة وعبّر عنها بالركوع لأنه من أركانها، والصلاة يعبّر عنها بأركانها وواجباتها، كما سمّاها الله سبحانه سجودًا وقرآنًا وتسبيحًا؛ فلابد لقوله مع الراكعين من فائدة أخرى وليست إلا فعلها مع جماعة المصلّين(3).

     ويقول الحنابلة: إن الآية هنا تفيد الأمر؛ فلابد من الامتثال بفعل الصلاة في جماعة.

     2 – قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلـٰـوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ...﴾(4) الآية.

     ووجه استدلال الحنابلة بهذه الآية على وجوب الجماعة أن الله تعالى أمر بالجماعة في حال الخوف ولم يرخص في تركها؛ ففي حال الأمن وعدم الخوف يكون وجوب الجماعة أولى.

     ويقول الحنابلة: ومما يدل على ذلك أيضًا من الآية أن الله تعالى قد أمر الطائفة الأولى والثانية بأداء الصلاة في جماعة ولم يسقطها عن الطائفة الثانية بفعل الطائفة الأولى، ثم يقول الحنابلة: فلو كانت الجماعة سنّةً لما أمر الله تعالى بها في حال الخوف، ولو كانت فرض كفاية لسقطت فريضتها عن الطائفة الثانية بفعل الطائفة الأولى، يقول ابن قدامة: ولو لم تكن واجبةً لرخص فيها حال الخوف ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها(5).

     3 – قوله تعالى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾(6).

     قال الطبري في تفسيره: عن سعيد بن جبير قال: يسمع المنادي إلى الصلاة المكتوبة فلا يجيبه(7).

     وقال القرطبي: عن كعب الأحبار، قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات(8).

     ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى عاقب الذين أعرضوا عن دينه بأن حال بينهم وبين السجود في يوم القيامة وذلك لأنه لما دعاهم الله تعالى إلى السجود في الدنيا فأبوا أن يجيبوا داعي الله للصلاة، وإذا ثبت هذا فإن إجابة الداعي هي إتيان المسجد وحضور الجماعة لا فعل الصلاة في بيته، فهكذا فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الإجابة.

     فهذا الدليل مبني على مقدمتين.

     الأولى: أن الإجابة واجبة. والثانية أن تلك الإجابة الواجبة لا تحصل إلا بحضور الصلاة في الجماعة.

     ثانيًا: أدلة الحنابلة على وجوب الجماعة من السنة:

     1 – عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مر ماتين حسنتين لشهد العشاء).

     وفي رواية أخرى: (ليس أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا؛ لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد)(9).

     ووجه استدلال الحنابلة على وجوب الجماعة قالوا: إن الحديث ظاهر الدلالة على أن الجماعة فرض عين؛ لأنها لو كانت سنةً لم يهدد، صلى الله عليه وسلم تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية فهي قائمة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه.

     ثم يقول الحنابلة: وقد يقول قائل: إن التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية.

     نقول: إن التحريق الذي يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة؛ لأن المقاتلة إنما تشرع إذا تمالأ الجميع على الترك.

     وقال ابن دقيق العيد: من قال بأنها واجبة على الأعيان قد يحتج بهذا الحديث، فإنه إن قيل بأنها فرض كفاية فقد كان هذا الفرض قائمًا بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وإن قيل إنها سنة فلا يقتل تارك السنة؛ فيتعين أن تكون فرضًا على الأعيان(10). اهـ.

     2 – وعن ابن أم مكتوم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: (هل تسمع النداء؟ قال نعم، قال: لا أجد لك رخصةً)(11).

     قال الخطابي: في هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب، ولو كان ذلك ندبًا لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل العذر والضعف ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم. اهـ.

     وقال ابن رشد: هو كالنص في وجوبها مع عدم العذر(12). اهـ.

     3 – وعن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له.

     فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم، قال: فأجب.

     ووجه استدلال الحنابلة بحديثي ابن أم مكتوم وحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للرجل الأعمى سواء كان في حديث ابن أم مكتوم أو في حديث أبي هريرة، والذي اشتكى له عذره؛ فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: لا أجد لك رخصةً، فيه دليل على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وقوله صلى الله عليه وسلم للأعمى في الحديث الثاني: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب، فيه دليل أيضًا على وجوب الجماعة على الأعيان ويؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى في تركها فالمبصر ومن لا عذر له أولى في عدم تركها.

     وقال ابن قدامة: وإذا لم يرخص للأعمى الذي لم يجد قائدًا فغيره أولى(13). اهـ.

     4 – وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)(14).

 

أدلة أهل الظاهر:

     واستدل أهل الظاهر على ماذهبوا إليه من وجوب الجماعة وعدم صحة الصلاة بدونها، بما استدل به الحنابلة، وقد أخذ أهل الظاهر بظاهر النصوص التي استدل بها الحنابلة، وقالوا إن الجماعة واجبة وإن الصلاة لا تصح بدونها.

 

رد الحنابلة على أدلة الجمهور:

     وقد رد الحنابلة على أدلة الجمهور وهي حديثا أبي هريرة وابن عمر اللذان استدل بهما الجمهور على أن الجماعة سنة مؤكدة وأنها تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجةً، فقال الحنابلة: إن ما استدل به الجمهور لايفيد عدم وجوب الجماعة، وإنه لا يستلزم أكثر من ثبوت صحة الصلاة في البيت والسوق، وفوق ذلك فإن الوجوب لا ينافي صحة الصلاة بدون جماعة.

     فالحديث بذلك لا يستقيم دليلاً على أن الجماعة سنة وليست واجبةً، وهذان الحديثان غاية ما يستفاد منهما أن صلاة الجماعة تزيد في الفضل والثواب، وهذا أمر لم ننكره ونوافق عليه، غاية ما هناك أنه لا يفيد عدم وجوب الجماعة، وأن صلاة الجماعة واجبة وهي ليست شرطاً لصحة الصلاة؛ فتاركها لغير عذر آثم.

     وقد أشار الكمال بن همام في فتح القدير، إلى مثل ذلك، فقال: قال المردوي في الإِنصاف (فائدة) فعلى المذهب في أصل المسألة، لو صلى منفردًا صحت صلاته ولكن إن كان لعذر لم ينقص أجره وإن كان لغير عذر فإنه يأثم وفيه صلاته أفضل(15) اهـ.

 

رد الجمهور على أدلة الحنابلة :

     وقد رد الجمهور على أدلة الحنابلة بما يأتي:

     أولاً: بالنسبة للآية الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿وإذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلـٰـوةَ..﴾.

     فإنها تشريع من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كيف يصلون في الحرب وإن هذا التشريع لصلاة الخوف هو في حالة واحدة من حالات الخوف. وهي ما إذا كان جيش المسلمين ينتظر المعركة وإلا، فهناك صلاة الخوف عند التحام الجيوش حيث لانستطيع أن نقول إن جنود المسلمين يمكنهم أن يصلوا في صفوف أو جماعات؛ بل يباح لهم أن يصلوا كيفما اتفق لهم، قيامًا أو قعودًا متوجهين للقبلة أو غير ذلك؛ إذاً فبيان حالة من حالات صلاة الخوف لا يعني أن الجماعة واجبة في غير صلاة الخوف؛ بل إنما يفيد كغيره من أدلة صلاة الجماعة زيادة الأجر والثواب لمن يصلي في جماعة خصوصًا وأنه لابد وأن يكون في جنود المسلمين من لم يتمكن من الصلاة في جماعة بعد أن نزل هذا التشريع وهم الذين منعهم من حضور الجماعة طبيعة عملهم في الجيش مثل حراسة المؤن والأسلحة مثلاً وما إلى ذلك؛ فهؤلاء لايتمكنون من الصلاة في جماعة.

     ثانيًا: وأما بالنسبة للأحاديث التي استدل بها الحنابلة، فالحديث الأول بروايتين، وهو حديث التهديد والوعيد بالتحريق لمن ترك الجماعة، فنقول:

     1 – إن الجماعة لو كانت شرطاً أو فرضًا لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عند الوعيد والتهديد.

     2 – إن الحديث يمكن أن يكون دليلاً على خلاف ما يقول به الحنابلة من الوجوب؛ إذ كيف تكون الجماعة واجبةً أو هي فرض ويتركها النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب ليحرق البيوت على المتخلفين، ولو كانت الجماعة واجبةً ما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو همّ بتركها.

     3 – إن هذا الحديث قد ورد مورد الزجر فقط، وحقيقته غير مرادة وإنما المراد المبالغة، ويدل على ذلك وعيد من تخلف عن الجماعة بعقوبة لا يُعَاقَب عليها إلا الكفار، وهي التحريق بالنار؛ إذ كيف يُعَاقَب مسلم بالنار مهما كان ذنبه، والإجماع قد انعقد على منع عقوبة المسلم بالنار.

     4 – ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفذ ما هدد به من تخلف عن الجماعة(16)، ولم يحرقهم ولو كان ذلك واجبًا ما تركه صلى الله عليه وسلم، ولو كانت الجماعة بالتالي واجبةً ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم عقاب من تركها؛ بل قال بعض من فسر هذا الحديث: ليس في الحديث حجة على وجوب الجماعة؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – قد همّ ولم يفعل.

     وقد رد ابن دقيق العيد على ذلك، بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يهمّ إلا بما يجوز له فعله، وتركه – صلى الله عليه وسلم – معاقبتهم لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا قد انزجروا.

     5 – الحديث بجملته وبما تدل بدايته قد ورد في الحثّ على مخالفة أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، وبذا تكون الجماعة سنةً مؤكدةً.

     6 – قال بعض الفقهاء: إن الجماعة كانت أول تشريعها فريضةً ثم نسخ ذلك، وينسب هذا الرأي للقاضي عياض .

     قال الحافظ: يمكن أن يتقوى هذا الرأي للقاضي عياض والذي يقول فيه: إن الجماعة كانت واحبةً في أول الأمر ثم نسخ ذلك بأن الوعيد بالتحريق بالنار على ترك الجماعة أولاً ثم نسخ أيضًا، ثم قال الحافظ: ومما يدل على نسخ الوعيد بالتحريق بالنار الأحاديث التي وردت في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ(17).

     7 – قال النووي والمحب الطبري: إن المراد والمقصود بالتهديد هو تارك الجمعة؛ حيث إنها فرض والجماعة فيها فرض أيضًا، لامجرد الجماعة.

     وأما الحديث الثاني بروايتين وهو الذي يطلب فيه الأعمى من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يرخص له في عدم حضور الجماعة، فقد أجاب عنه الجمهور بأن السائل قد سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – هل له رخصة في أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعــة بسبب عذره؛ فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم– : لا.

     وهذا بدوره لا يدل على وجوب الجماعة؛ إذ أن السائل لم يأت ليسأل عن الجماعة، وإنما جاء ليسأل: هل له فضل وأجر إن هو صلى في بيته؟ فكان الجواب من النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن زيادة الأجر والثواب إنما تكون لمن صلى في المسجد، وبالتالي فلا دليل في هذا الحديث على وجوب الجماعة في الصلاة، ومما يدل على هذا البيان والفهم الذي أشار إليه الجمهور، أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين ومن جملة العذر العمى.

     إذًا فالذي سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – قد سأل عن زيادة الفضل والثواب، وهو بدوره لا يقوى دليلاً على وجوب الجماعة.

     ومما يؤيد ذلك أيضًا ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجة والدارقطني وابن حبان والحاكم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : "من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر". ثم إن تأويل حديث الأعمى الذي جاء يسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرخص له في عدم حضور الجماعة لابد وأن يكون على ما أوله إليه الجمهور، وذلك لعدة أسباب، منها:

     أولاً: شدة الحرج والتعب اللذين يلاقيهما الأعمى في الحضور للمسجد خصوصًا إذا لم يكن له قائد أو كان له قائد لا يلائمه، أو لم يكن على دراية بالطريق وكان بيته بعيدًا عن المسجد.

     ثانيًا: إذا ما أخذنا بما أخذ به الحنابلة واستدلالهم بهذا الحديث وترك تأويل الجمهور فلسوف يتعارض الحديث مع قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمـٰـى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيْضِ حَرَجٌ﴾(18).

     ولا يمكن أن يقال إن الآية قد نزلت في الجهاد؛ لأنا نقول إن ذلك من باب القصر على السبب، وقد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب(19).

 

المقارنة والترجيح :

     إن المتأمل فيما ذهب إليه الجمهور والحنابلة وما استدل به كل منهما يجد أن ما ذهب إليه الجمهور من أن الجماعة سنة مؤكدة هو أكثر قبولاً وذلك لما يأتي:

     أولاً: سقوط الجماعة بالعذر، وهو أمر مجمع عليه؛ فهذا يعني أن الجماعة ليست واجبةً؛ إذ لو كانت واجبةً لما سقطت بالأعذار.

     ثانيًا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رخص لقوم أن يصلوا في رحالهم، ولو كانت الجماعة واجبةً لما رخص النبي – صلى الله عليه وسلم – .

     ثالثًا: إن الوجوب الذي ورد في التهديد والوعيد على ترك الجماعة يمكن أن يكون تهديدًا لتارك الجمعة؛ إذ الجماعة فيها فرض باتفاق الجميع. وعلى كل حال فإن من ذهب إلى أن الجماعة واجبة له دليله، ومن قال: إن الجماعة سنة مؤكدة له دليله أيضًا، وكلا الفريقين قد استدل بأدلة صحيحة ثابتة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم –.

     وكلا الفريقين يبحث ويجتهد ليحافظ على أن يؤدي المسلمون الصلاة في جماعة؛ ولكن طريقة الاجتهاد والبحث لكل فريق اتخذت مسلكاً مخالفًا للفريق الآخر؛ ولكن النتيجة تكاد تكون واحدةً؛ حيث إن ثبوت صلاة الجماعة والمحافظة عليها هو هدف كلا الفريقين.

     وإذا تركنا أدلة كل فريق هكذا، وهي تبدو لمن لم يتأملها وكأن أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعارض بعضها البعض الآخر؛ ولكن الحقيقة أنه لا تعارض فيها؛ لأن التوفيق بين النصوص التي وردت في صلاة الجماعة والتي أخذ كل فريق من الفقهاء بما دل على مذهبه هو أفضل السبل وذلك لكي لا تبدو النصوص وكأنها متعارضة.

     يقول الشوكاني: وهذه الأدلة توجب تأويل الأدلة القاضية بالوجوب بما أسلفنا ذكره.. وقال: وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب وتبقيه الأحاديث المشعرة بالوجوب على ظاهرها من دون تأويل، والتمسك بما يقضي به الظاهر إهدار للأدلة القاضية بعدم الوجوب، وهو لا يجوز... ثم يقول الشوكاني: فأعدل الأقوال وأقربها إلى الصواب أن الجماعة من السنن المؤكدة التي لا يخل بملازمتها ما أمكن إلا محروم مشؤوم، أما أنها فرض عين مشؤوم أو كفاية أو شرط لصحة الصلاة فلا(20)... اهـ.

     وعلى ذلك فإن التوفيق بين النصوص التي وردت في صلاة الجماعــة هو الأفضل حتى لاتبدو النصوص كأنها متعارضة.

     فأدلة الفريق الذي يقول بوجوب الجماعة إنما تعني الحدث على الجماعة والمواظبة عليها، وهذا أمر اتفق الجميعُ على أهميته والحفاظ عليه.

     وأدلة الجمهور إنما تعني المحافظة على الجماعة والحث عليها وأنها تزيد في الفضل والأجر عن صلاة المنفرد.

     وبهذا تكون غاية ما يريد الفريقان الوصول إليه هو حث الناس على حضور الجماعة والمحافظة عليها.

     بدليل أن جمهور الفقهاء قد قالوا: إن الجماعة سنة مؤكدة وحرصوا في نفس الوقت على تأثيم تاركها وسقوط عدالته وتقديره.

     ويمكن أيضًا أن يقال: إن الأصل في الجماعة أنها واجبة وأنها تزيد في الأجر والثواب عن صلاة المنفرد وأنه لايصرح لأحد بتركها إلا لعذر شديد.

     فالجمهور بذلك يكون قد وافق الإِمام أحمد معنىً.

     يقول ابن القيم: ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر.

     وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار(21)..اهـ

     فمن يتأمل فعلاً في الأحاديث والآثار في صلاة الجماعة يجد أنه لا تعارض بينها؛ إذ جميعها يدعو ويحث على المحافظة على الجماعة وعدم تركها إلا لعذر، وأنها أفضل من صلاة المنفرد في الثواب والأجر.

     والله أعلم.

*  *  *

الهوامش :

(1) سورة البقرة : آية 43.

(2) تفسير الفخر الرازي ج2 ص47.

(3) كتاب الصلاة لابن القيم ص 66.

(4) سورة النساء: آية 102.

(5) المغني لابن قدامة والشرح الكبير – ج2 ص2.

(6) سورة القلم، الآيتان : 42، 43.

(7) تفسير الطبري ج29 ص 43.

(8) تفسير القرطبي ج18 ص 251.

(9) الحديث أخرجه البخاري في الفتح ج2 – ص 269، 270 ومسلم ص 651، وأبوداؤود ص 548، والترمذي ص 217، وابن ماجه ص 751، وأخرجه أحمد ج2 ص376، والدارمي ص 276.

(10)يراجع العدة على إحكام الأحكام، ج2 ص 145.

(11)معالم السنن ج1 – ص 374.

(12)بداية المجتهد ج1 – ص 144.

(13)المغني لابن قدامة : الشرح الكبير، ج2، ص 4.

(14)أخرجه ابن ماجه/ 793 – وابن حبان/ 426 والحاكم، ج1، ص 245، والدارقطني والطبري والبيهقي.

(15)شرح فتح القدير مع العناية على الهداية: ج1 ص 347.

(16)نيل الأوطار للشوكاني : ج3 ص 141.

(17)نيل الأوطار للشوكاني : ج3 ص 142.

(18)سورة الفتح : آية 17.

(19)بداية المجتهد ج1 ص 102، 103 – شرح فتح القدير مع العناية على الهداية ج1 ص 146، 147 – المجموع للنووي ج4 ص 183، 184، 185 – نيل الأوطار ج3 ص 141، 142.

(20)نيل الأوطار للشوكاني ج3 ص 146.

(21)حاشية الروض المريع للشيخ عبد الرحمن النجدي ج2 ص262.

*  *  *

 

رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر - أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33