الفكرالإسلامي

القصص القرآني حقائق وأحداث واقعية

 

بقلم : د. محمد حسين الدالي

 

       كل ما ورد في القصص القرآني – من أشخاص وأحداث ومجتمعات وأقوام وأمصار وقرى حقائق قد وقعت فعلاً – مافي ذلك شك!!

       وإن المتقولين بأن القصص القرآني لم يحمل في أطوائه الأحداث التي جاء بها – على مدى الزمان والمكان، وأنه قد بعد عن الواقع – هؤلاء المتقولون وأمثالهم هم أعداء الله.. وما من مسلم في قلبه ذرة من إيمان يتقول على الله، ذلك لأن الحياة كلها بأزمنتها وأمكنتها وأشخاصها وأحداثها حاضرة بين يدي الله الحكيم العليم، بين يدي من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء "فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمـٰـوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعـٰـلَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِيْ السَّمـٰـواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" الجاثية: الآيتان:36، 37.

       وإذا كنا نحن البشر نلجأ إلى الخيال والوهم لننسج منهما قصصًا حينما يعجزنا الواقع، أو لم يسعفنا بما نتصوره؛ فإن قدرة الخالق جل وعلا – لا يعجزها شيء تريد فيقع ما تريد كما أرادته دون قصور أو مهل، إنها إرادة لا يخالطها وهم، ولا يطوف بها خيال، ولا تعللها الأماني، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

       فإذا كان المستشرقون المتعصِّبون ومن خالطهم من أنصاف المثقفين السوفسطائيين يفترون هذه الفرية، فقد جاءوا ظلمًا وزورًا.. إنهم يتهمون قدرة الله، وينسبون إليه ما ينسب إلى البشر من عجز وقصور ولجوء إلى الخيال حينما يعجزهم الواقع وتعمى عليهم الحقائق.

 

الحقيقة والواقع

       ولاشك أن الأحداث التي يقتطعها القصص القرآني من شريط الحياة هي الحقيقة الواقعة والصدق الخالص ﴿وَبِالْحَقِّ أنْزَلْنـٰـهُ * وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ الإسراء: آية 105، ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ الحديد: آية 16، ﴿ذٰلِكَ بأنَّ اللهَ نَزَّلَ الكِتـٰـبَ بِالْحَقِّ﴾ البقرة: آية 176، ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكْتـٰـبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ آل عمران: آية3، ﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ﴾ الحجر: آية9. ﴿لاَ يَأتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ﴾ فصلت: آية 42.

       وإذا كان القصص القرآني قد نقى هذه الأحداث وغربلها، وحسن عرضها، وخلصها من الزوائد والحواشي التي لا تفيد شيئًا في تصوير هذه الأحداث، إذا كان ذلك هو الشأن؛ فلا يصح أن يكون مسوغًا لأن يتهم بأنه ليس من صميم الواقع، أو أنه غيّر في معالم الواقع، وبدل من الحقائق التي وقعت.

       وإذا كانت – الآن قد ازدهرت الترجمة، وتعلم الناس كيف ينقلون ويترجمون ما يحيك في صدور المتكلّمين بالأوروبية إلى العربية وبالعكس، وإذا كان الأمر كذلك أفلا يكون ذلك أيسر وأقدر على من جعل الألسنة في خلقتها مختلفةً ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمـٰـوٰت وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِيْ ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعـٰـلِمِيْنَ﴾ الروم: آية 22، أفلا يكون ذلك أيسر وأقدر على من خلق الخلق وهو أعلم بهم ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيْفُ الْخَبِيْرُ﴾ الملك: آية 14.

       فالذين يتقولون بأن القرآن قد تحدث بلسان عربي عن ألسنة غير عربية فهذا ادعاء باطل أيضًا؛ إن القرآن لم يتقول على قوم نوح حين ترجم ما نطقوا به، ولم يتقول على أقوام عاد وثمود وصالح وموسى وعيسى، إنما نطق بما نطق به هؤلاء الأقوام، إنه المضمون الحق، والمحتوى الصادق الأمين لما تكن صدورهم وتجمجم به أفئدتهم؛ فإذا كانت حكمته وقدرته أنطقت السموات والأرض، أليس ذلك بقادر على أن ينطق من خلق لهم الألسنة؟ ينطقهم بالعربية، ويترجم ما نطقت به دلالة حالهم، فإذا جاءت كلمات الله ناطقةً بما نطقت به ألسنة الحال أوالمقال؛ فهو الصورة الكاملة – روحًا وشكلاً ومضمونًا ومحتوىً – لما نطق به الناطقون، وأعجزهم العجز عن البيان به أو التعبير بلسان عربي مبين .

       ولنعرض – الآن بعض القصص القرآني، لندلل بها على أن القرآن حينما عرض هذه القصص، إنما استقاها من مصدرها الواقعي، بأحداثها وخلجاتها ومواقفها وتعبيراتها وحركاتها وسكناتها على مسرح حياتها الغابرة.

       هل كان الذي حدث لإصحاب الكهف موتًا حقيقيًا أم كان سباتًا ونومًا طويلاً؟ كلا الأمرين يمكن أن يكون مادام ذلك متعلقًا بقدرة الله، وكذلك الشأن في ذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ فهو رجل يؤمن بالله، وكان يريد أن يستوثق لإيمانه، ويطلب له المزيد من الأدلة والشواهد، فالرجل حينما مر على هذه القرية التي اندثرت معالمها، وخمدت حياتها، وصار كل شيء فيها إلى تباب ويباب، فتساءل: هل تعود هذه المعالم التي بلاها البلى، وأكلها التراب، مرةً أخرى إلى الحياة؟ أذلك ممكن؟ فعلم الله – تعالى – ما يدور بخلده، وما يتجمجم في صدره، فأعاشه التجربة الحية، وأماته مائة عام، ثم أحياه، ووجد الرجل هاتفًا من قبل الله يسأله عن الزمن الذي لبثه؛ فوضع في تقديره أن ما لبثه يومًا أو بعض يوم، ولم يدر بخاطره أنه لبث مائة عام، وأخبره الهاتف بالحقيقة وطلب منه أن ينظر إلى طعامه وشرابه اللذين لم يدخلهما فساد، وإلى حماره مازال قائمًا إلى جواره كما تركه ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة: آية 259.

 

فهاتان القصتان قد وقعتا بالفعل:

       الأولى: في قصة أصحاب الكهف والعبرة فيها، موقفهم من الضلال الذي كان مطبقًا على بيئتهم التي عاشوا فيها؛ وفي تخليص أنفسهم من هذا الضلال؛ وفي تضحيتهم بالأهل والمال والوطن، في سبيل عقيدتهم؛ والفرار بدينهم من هذه الفتنة المهلكة، وأخيرًا قدرة الله على بعث الموتى .

       والثانية: جعل هذا الرجل الذي أراد أدلةً على إحياء الله الموتى – آيةً لكل من يشك في قدرة الله تعالى – على البعث والنشور بعد الممات.

       وهاتان التجربتان المثيرتان ليستا إنشاءً أو خيالاً؛ فأحبار اليهود يعلمون تمامًا حقيقتيهما، وقد اختلفوا في عدد السنوات التي مكثها أبطال القصتين .

       ماذا ينتظر المستشرقون أو المنافقون؟ ومن سلكوا مسلكهم من الدارسين؟

       هل ينتظرون أن يجيء القرآن الكريم بالأشخاص والأحداث، فيبعثها من مرقدها، ويحركها من جديد لتنطق بما نطقت به، أو لتشير بما كانت قد أشارت إليه؟

       إن القصص القرآني لم يخرج عن المألوف، أو سنة الحياة التي يحياها الناس في رواية أخبار الأمم السابقة، ويتناقلونها – على اختلافهم – فالمعيار الأول والأخير هو الصدق في الرواية والأمانة في النقل، والدقة في التصوير والتعبير، ولن يكون ذلك على أتم تمامه، وأكمل كماله إلا في القرآن. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيْثًا﴾ النساء: آية 87.

       وتجربة سيدنا إبرايهم عليه السلام صورة أخرى وتمثل المؤمن الذي يطلب المزيد من الإيمان؛ ليقتل في نفسه كل وسواس، وليخمد في صدره كل همسة من همسات الشيطان ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِيْ أُمنِيَّتِه فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلقِيْ الشَّيْطَانُ ثـُمّ يُحْكِمُ اللهُ آيـٰـتِه وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ﴾ الحج: آية 52، فالحكم في الآية صريح لا انفكاك منه، يقع على رسل الله وأنبيائه جميعًا؛ فالشيطان راصد لكل نبي وكل رسول وهذا الموقف موقف أبي الأنبياء جميعًا لا ينتقص من إيمانه، إذ كانت غايته طلب المزيد من النور، والجديد من العلم، وقضية الموت والبعث هي الثغرة التي تنفذ منها رميات الشيطان إلى قلوب المؤمنين .

       وجد إبراهيم عليه السلام أن ألطاف الله تحف به، ونفحاته ورحماته لا تنقطع عنه؛ فهفت نفسه إلى أن يسأل ربه – بدافع غريزة حب الاستطلاع – السؤال الذي يتضمن معنى الآيات الحوارية التالية:

       ﴿وَإذَا قَالَ إِبْرَاهِيْمُ﴾ :

-   رَبِّ أَرِنِيْ كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتـٰـى؟

       ومن ثم جاء الجواب متخذًَا اتجاهًا آخر غير متجه السؤال (قَالَ):

-   أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ ؟

       إثارةً لمشاعر إبراهيم واستحضارًا للإيمان الذي يعقد عليه قلبه، ولهذا كان جواب إبراهيم (قال) :

       ﴿بَلىٰ وَلـٰـكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِيْ﴾.

       فكشف الله له عن تجربة يجريها إبراهيم بنفسه، ويصنعها بيده، ويشهد على آثارها بعينه (قال):

       - ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثـُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ البقرة: آية 260.

       ويقوم إبراهيم عليه السلام بالتجربة؛ فيأخذ من الطيور أربعةً مختلفةً ويضمها إليه، ويتعرف عليها حتى تألفه ويألفها، ثم يقطعهن أجزاءً وأشلاءً، ويجعل كل شلو على رأس جبل، ثم يدعوها إليه بأسمائها التي أطلقها عليها، كما يدعو أهله ومعارفه بأسمائهم، وتتم التجربة وتجيء الطيور الأربعة بسرعة؛ فليس في هذا خيال أو افتعال، وإنما هي أمثلة لقدرة الله وحكمته عن طريق التجربة الحسية، والإعاشة الحية، التي اهتاجت لها المشاعر، وخفقت لها الأفئدة .

       والحقيقة التالية التي لا يتطرق إليها الشك تتجلى في هذه الدعوة إلى البر والإحسان، وكما يربو الإيمان وينمو في طريق الهداية والعلم يربو أيضًا غرس الحق والخير؛ فالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، إنما يجنون ثمرة هذا الغرس الذي غرسوه في سبيل الله أضعافًا مضاعفةً، كما يزرع الزارع حبةً في أرض طيبة فتنبت سبع سنابل، تحمل كل سنبلة مائة حبة، هكذا الحبة تعطي سبعمائة حبة، والحسنة تجازى بسبعمائة حسنة يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضـٰـعِفُ لِمَنْ يَّشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة: آية 261.

 

*  *  *

 

 

محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر  2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34