الفكرالإسلامي

الهجرة النبوية وتجديد الخطاب الديني

 

بقلم : فضيلة الشيخ محمد عبد المجيد زيدان

 

       * التاريخ الإسلامي لايبدأ من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن ميلاده كان ميلاد الحق الكامل ومشرق النور الشامل، ولا يبدأ من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن مبعثه كان بعثًا للتوحيد الصحيح ومنبعًا للحق الصريح، ولم يؤرخ المسلمون من وفاته صلى الله عليه وسلم رغم أن وفاته كانت عبرةً وعظةً وذكرى للمؤمنين .

       ولكن مع عظم هذه الأيام وجليل خطرها، أرخ المسلمون بيوم هجرته صلى الله عليه وسلم؛ لأن هجرته كانت ثورةً على الفساد في العقائد والضلال في الأفكار، والطغيان في الحكم، والاستبداد في الاقتصاد، والإجحاف فيما يستوجب الإنصاف، فلا وثنية ولا إباحية ولا كسروية ولا قيصرية ولا عنجهية ولا همجية ولا عصبية ولا حمية، ولكن أخوة إيمانية  وسنة محمدية وعدالة إسلامية ومودة إنسانية: ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ* قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيْدُ﴾ سبأ: الآيتان 48، 49.

       * إن الداعية المجدد هو الذي يتخذ من هذه المتناسبة سبيلاً لبيان أن العظائم تهون في سبيل المثل العليا والمبادئ السامية، وأن من سنن الله تعالى أن الحق لابد أن ينتصر في النهاية، وإن غلب على أمره في البداية مع بيان أثر الهجرة النبوية في نشر الدعوة الإسلامية .

       * فيوم الهجرة هو يوم التحول في تاريخ الإسلام، بل تاريخ الأنام العام، إنه يوم الامتحان الكبر والابتلاء الأعظم لأشرف مخلوق؛ يوم أن ضحى بوطن عزيز عليه حبيب إليه؛ يوم أن ترك أرضاً وُلد بها وعاش فيها وبُعث منها رسولاً؛ يوم أن نظر إلى وطنه الذي أخرجه منه قومه وقال: "والله لأنت احب بقاع الأرض إليَّ ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".

       * إنه يوم تدارك فيه المولى الرحيم رسوله الكريم فأنزل عليه في هجرته: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِيْ أَخْرَجَتْكَ أهْلَكْنـٰـهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُم﴾ محمد: آية 13.

       * إنها هجرة خالصة لله والحق، لاحظ فيها؛ ولا غرض؛ ولا دنيا؛ ولا متاع؛ إذ فيها ترى الحق الأعزل يخلص كريمًا من بين مخالب الباطل، وفيها ترى النبوة الراشدة تعلو على السفاهة الكافرة وترى القلة المستضعفة تفوز على الكثرة المستبدة الطاغية، وليس ذلك كله بالطبع من عمل الإنسان ؛ ولكنه في بدئه ونهايته بتدبير العزيز الرحمن .

       * إن القرآن الكريم لا يسجل من الحوادث إلا حادثـًا عظم أمره وظهر أثره وتجلى قدره وخطره ودل على يقين قوي وإيمان راسخ وخلق متين، وقد سجل الهجرة النبوية بقوله تعالى: ﴿إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة: آية 40.

       * ويذكر السبب في الهجرة بقوله جل شأنه:

﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ الأنفال: آية 30.

       * ويسجل رضاه سبحانه عن قوم أُخْرِجُوا من ديارهم، وأُخْبِرُوا على ترك أموالهم، وتحملوا الاغتراب والمشقة والعذاب في سبيل العقيدة التي خالطت قلوبهم وامتزجت بنفوسهم، ويشهد لهم بصدق هجرتهم حين أسماهم "المهاجرين" ويسجل رضاه أيضًا عن قوم بالمدينة المنورة فتحوا قلوبهم للدين الجديد، وفتحوا ديارهم للمهاجرين من أهل هذا الدين، وأعانوهم وقاسموهم ما يملكون فقال سبحانه: ﴿وَالسّـٰـبـِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة: آية 100، ويقول جل ذكره: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهـٰـجـِرِيْنَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ التوبة: آية 117.

       * إن العبرة المتجددة من الهجرة هي التنظيم الدقيق والإيمان العميق الذي تجلى في هجرة الصحابة من موطنهم؛ فهذا التنظيم لم يترك أي شيء للصدفة وإنما بذل النبي صلى الله عليه وسلم غاية الجهد، ورتب التفاصيل الدقيقة ثم من وراء ذلك كله تأييد الله ورعايته .

       * فالهجرة إيمان بالله يزن الجبال، وإرادة قوية وعزم أكيد وتصميم وتخطيط؛ فإن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة الإسلامية .

       * فكانت الهجرة تعاونًا عامًا على إقامة مجتمع جديد في بلد جديد، فالمهاجرون رجال أخلصوا لله طواياهم وترفعت عن المآرب هممهم، وزهدوا في المتاع المبذول والأمان المتاح، واستهوتهم المثل العليا وحدها وربطوا مستقبلهم بمستقبل هذه الرسالة المبرأة التي اعتنقوها وتبعوا صاحبها المتجرد المكافح .

       * لذا .. فقد حققوا في هجرتهم كل معاني التسليم لله والثقة به والاعتماد عليه والعبودية له وحده فنصرهم وثبت أقدامهم وجعلهم على أعدائهم ظاهرين ووعد كل من سلك سبيلهم بنصره .

       * لقد كانوا رجالاً أينما لمحتهم وحيثما وجدتهم، هم في الحرب رجال كما قال ربهم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ﴾ الأحزاب: آية 23، وهم في السلم رجال كما ذكر ربهم: ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيْهِمْ تِجَارَةٌ وَّلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وإِقَامَ الصَّلـٰـوة وَإيْتَاءَ الزَّكـٰـوة﴾ النور: آية 37، لقد كانوا رواد مساجد يلتقون في رحابها السمح برسولهم العظيم وقائدهم الكبير، كما حدث عنه وعنهم القرآن الكريم: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلىٰ التَّقْوٰى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُوْمَ فِيْهِ فِيْهِ رِجَال يُحِبُّوْنَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِيْنَ﴾ التوبة: آية 108.

       * لقد كانوا بحق في القيادة رجالاً وفي العبادة رجالاً أينما التقيت بهم التقيت بالرجولة في ذروتها السامقة وقمتها العصماء، رسالتهم رسالة الجهاد في سبيل الله دفاعًا عن الحق وردًا للعدوان وحمايةً للمستضعفين في الأرض من الرجال والنساء والولدان .

       * إن الهجرة النبوية الشريفة ليست نقطةً مضيئةً في تاريخ الإسلام فحسب؛ ولكنها تمثل أيضًا نقطةً مضيئةً لعبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلاً وفكرًا وتخطيطاً وتجويدًا .

       * وكانت بداية عهد جديد حرر الإنسانية من رق العبودية، وأطلق العقول من عقال الهمجية، وأنقذ البشرية من حياة الذلة والضعة والهوان؛ فكانت الهجرة بحق بداية غيث مدرار هطل على البشرية كلها.

       * لذا .. فإن الاحتفال بها يوجب على المسلمين العمل على إعادة أمجاد أصحابها؛ وأن يضيفوا إليها من أمجادهم بالأخذ بالعلم النافع والتكنولوجيا الحديثة والتقديم الاقتصادي والإنتاجي كدرع واق من التخلف؛ وأن يضعوا نصب أعينهم تقدم أمتهم ونهضتها؛ حتى تتمكن من مواجهة الأخطار العديدة التي تفرض عليها من عولمة وحرية تجارة وتكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية وغيرها.

       * فالحمد لله أننا نمتلك كل أسباب القوة الاقتصادية من أرض صالحة للزراعة ومعادن وبترول وأيد عاملة مدربة وعلماء جادين نابهين مخلصين لأمتهم .

       * ولا يبقى لهذه الأمة إلا حسن استغلال مواردها كي تصبح قوةً عالميةً تعطي ولا تأخذ، تملك ولا تحتاج، تنتصر في كل معاركها باعتمادها على ربها ثم على نفسها: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُوْنَ بِنصْرِ اللهِ * يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيْزُ الرَّحِيْمُ﴾ الروم: الآيتان: 4، 5. والله من وراء القصد .

 

 

محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر  2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34