دراسات إسلامية

اليهود والظواهر الغريبة

(3/3)

 

بقلم : الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي

 

4- الارتباط بـ"فلسطين"

       تتحدث التوراة عن وعود قطعها الله لإبراهيم عليه السلام، أن يعطيه ونسله أرض فلسطين، ويكثر نسله، ويجعل الشعوب تهرب من أمامه، من ذلك ما جاء في سفر التثنية، "... كل موضع قدم تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته، كما كلمت موسى، من البرية ولبنان إلى النهر الكبير، نهر الفرات". وفي التثنية أيضًا "... ويطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم فترثون شعوبًا أكبر وأعظم منكم...".

       وسأناقش هذه الوعود في مكان آخر.

       وقد أضفى اليهود على أرض فلسطين صفات غريبةً، فمن دفن فيها فإنه يقوم يوم القيامة، كما ينبت النبات حين ينزل المطر، أما من دفن خارجها، فيُبعث يزحف على بطنه، ويتسلل في شقوق الأرض . أما الخبز فيها فيجمع كافة النكهات الطيبة لكل ما على الأرض من طعام(1) والذي يذكرهم بفلسطين ذلك "الاجترار للأحزان" الذي لا يتوقف ولا ينقطع، جاء في المزامير(2) (على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا؛ لأنه هناك سألنا الذين سبونا أن نعطيهم أغنيةً، سألنا معذبونا بفرح قائلين، رنموا لنا ترنيمةً من ترنيمات صهيون، كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم فلتنس يميني مهارتها. ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، ولم أفضلك يا أورشليم على أعظم أفراحي) حقًا لم ينس اليهودي "فلسطين" ولا أورشليم، إلا أنه حين جاءت الفرصة ليهاجر فضل نيويورك ولندن وجنوبي أفريقيا، حيث بيوت المال، ومناجم الذهب والماس .

       وفي التوراة وعد من الله، جاء على لسان آرميا النبي، بأن مدينة القدس، بحدود ذكرها، لا تهدم إلى الأبد (... يقول الرب: وتبنى المدينة للرب من برج حنئيل إلى باب الزاوية ... إلى زاوية باب الخيل شرقًا، قدسًا للرب لا تقلع ولا تهدم إلى الأبد) آرميا الأصحاح 31/28.

       ومعلوم ما فعله جيش بخت نصر من هدم كامل لها، ثم ما فعله الرومان بعد ذلك من هدم وتخريب(3)، فكيف يمكن تفسير هذا العهد؟؟.

       ويحاول "وايزمن" تعليل هذا "الهيام الصوفي" فيقول(4): (أعتقد أن السبب الرئيس، الذي أدى إلى ظهور هذه الحالة من الطائفة اليهودية في العالم، يعود إلى تعلقها بفلسطين. إننا شعب نعتز بأنفسنا، ولنا ذاكرة طويلة، إننا لا ننسى مطلقًا، وسواء أكان هذا من سوء حظنا أو حسن حظنا، فإننا لم ننس فلسطين... ويرجع بصورة أولية إلى ترابط فزيولوجي أو سايكولوجي بفلسطين).

       وما أراه أن الدين اليهودي ربط أتباعه بالأرض، ثم قام اليهود فنظموا كل ما حل بهم من أحزان شعرًا، وراحوا يلقونه في كل مناسبة، فظل التذكير بفلطسين وغيرها حيًا في النفوس، بل هناك جملة أدعية يرددها اليهود في كل مكان بأن ينزل الله المطر في فلسطين وينبت النبات ويكون حصادًا جيدًا... الخ. وكل هذا يفعل فعله في النفوس .

       وقد كتب شاعر من يهود الأندلس(5) (آه من يعرني أجنحةً، عسى أن أحلق بعيدًا، مستريحًا من كل تشردي، ولأضع حطام قلبي بين حطامك) ويذكر "سيد ياسين" محاولة الصهيونية لفلسفة العودة لفلسطين قائلاً:(6) (... وقد رفعت الجماعات الصهيونية شعارًا مؤداه "لا يمكن ممارسة حياة يهودية صحيحة في أي مجتمع حديث خارج فلسطين".

       وزعمت الصهيونية أن الحياة في ظل المجتمعات الأوروبية الحديثة من شأنها أن تجعل اليهود يتمزقون، بين السحق الروحي والحضاري، الذي سيترتب على نسف حياتهم التقليدية والمجتمية، تحت وطأة التنظيمات الاقتصادية والسياسية الحديثة، والغناء المادي عن طريق "الاندماج التام" في المجتمع. من هنا زعمت الصهيونية أنه في فلسطين فقط، يمكن أن ينشأ مجتمع يهودي حديث، حيث يمكن التأليف بين اليهودية والحضارة الإِنسانية العامة، أو بعبارة أخرى، بين الأصالة والمعاصرة...).

       وقد عرضت على اليهود أكثر من منطقة في العالم، لاتخاذها وطنًا، مثل الأرجنتين وأوغندا ووسط روسيا، ولكنهم رفضوا هذه البلاد كليًا، وحين عرضت إنكلترا على "هرتزل" الاستيطان في "أوغندا" ثار الصهاينة وأوشكت حركتهم على التمزق، وقد وصف بعض المؤرخين هلع يهود أوروبا الشرقية وبكاهم، عندما قبل المؤتمر الصهيوني عام 1903م تحت تأثير من هرتزل، ذلك العرض، ولكنهم سرعان ما تقضوا القرار بعد سنتين، وقرروا تكريس كافة الجهود للعودة إلى فلسطين .

       وتأتي المفارقة الكبرى حين يطلب إليهم الهجرة إلى فلسطين، فإذا بهم يفضلون نيويورك ولندن عليها.

       وقد وصفهم "هتلر" بالكذب والنفاق فقال: يبكون على فلسطين ولا يهاجرون إليها.

       يقول ج. جانسن: عندما غادر اليهود شرقي أوروبا(7) (والأرض المقدسة على شفاههم، وكانت أقدامهم تسير ثابتةً في الاتجاه الآخر: إلى ألمانيا أو إنكلترا أو أمريكا. وكان من المفارقات أنهم عندما ذهبوا إلى الإمبراطورية التركية المتسامحة والمضيافة... فإن القليل جدًا منهم ذهب إلى فلسطين، مع أنها كانت جزءًا من الإمبراطورية، يسهل الوصول إليها، وعدد سكانها قليل). وهنا يمكن طرح سؤال: لماذا يهاجر اليهود من روسيا وشرقي أوروبا؟؟ وفي الجواب يمكن القول: بأن اليهودي تاجر ومرابي، وفي مجتمع يحترف الاشتراكية، لم يستطع اليهودي إشباع رغباته، رغم وجود سوق سوداء – لذا فهو متطلع دومًا إلى الدول الرأسمالية؛ ولكنه يغطي هذه الرغبة، بإظهار التوجه إلى فلسطين، وبذلك يجند الصهيونية والحكومة في فلسطين لخدمته ومعاونته، فإذا تمكن من السفر والهجرة، توجه للغرب، وأدار ظهره لفلسطين، لممارسة عمله المفضّل على مدى الزمن .

       وقد كشفت الجمعيات المعنية بهجرة اليهود أن روسيا سمحت لهجرة ما يقارب ألف يهودي، فلما وصلوا إلى أوروبا الغربية، توجّه ربعهم إلى فلسطين، وثلاثة أرباعهم إلى الدول الرأسمالية. ومن هنا يمكن فهم المرارة التي تحدث بها بن غوربون(8) (في يوم تأسيس الدولة، لم يقطع زعيم صهيوني واحد – في أمريكا وأوروبا – علاقته بدون المنفي، ويربط مصيره بمصير دولة إسرائيل).

       كما وصف أكثر من مرة اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل، بأنهم لا يؤمنون بالله .

       وقد وصف الصحافي اليهودي "ويليام زوكرمان" هذه الظاهرة أحسن وصف فقال(9): (لم يستطع أي قدر من الإِثارة قام به القوميون اليهود، ولاسيما ابن غوريون، أن يحدث أدنى تغيير في قرار الأمريكيين اليهود، بأن يبقوا في بلدهم أمريكا.

       إن إسرائيل بالنسبة للهيودي الأمريكي شيء يفخر به ويعتزّ، بل هي جزء من معتقده الديني، ومن ثم فهو على استعداد؛ لأن يقدم لها التبرعات المالية بسخاء؛ ولكنه لا يفكر بجعلها موطنًا له في الوقت الحاضر، ولا موطنًا لأبنائه في المستقبل، ذلك هو التحدي الكبير لليهود الغربيين في مواجهة إسرائيل، الأمر الذي يجعل مآل "التجمع اليهودي" في إسرائيل إلى الإِفلاس العقائدي، والفشل الذريع).

       وقد قدم الحاخام (كلوزنر) تقريرًا للمؤتمر اليهودي الأمريكي عام 1948م بعد أن أجرى مشاورات واسعةً مع كبار اليهود جاء فيه(10): (إنني مقتنع بأنه يجب إرغام الشعب اليهودي على التوجه إلى فلسطين، فهم ليسوا مستعدين لتفهم حالتهم، أو فهم الوعود المقطوعة للمستقبل. فالدولار الأمريكي بالنسبة إليهم هو أهم المغريات والحوافز).

       أليس هذا من أكبر المفارقات .

       ولعل الأغرب أن اللاجئين اليهود في معسكراتهم، يرفضون كذلك الهجرة إلى فلسطين، ويفضلون الهجرة إلى أمريكا، وهذا ما جعل "كلوزنر" يفقد أعصابه ويستشيط غضبًا، ويقترح إبعادهم عن المجتمع اليهودي، وأن يظلوا في معسكراتهم، مع عدم السماح لهم بأي عمل يكسبون منه، بل وضعهم في حالة غير مريحة جهد الإِمكان، وحرمانهم من الإِمدادات، وأخيرًا أن تقوم منظمة مثل الهاغانة بمضايقتهم، فإذا لم تتم الموافقة على برنامجه هذا فهو يقترح بالحرف(11) (... فإن من الممكن اصطناع حدث ما، بحيث يكره الطائفة اليهودية الأمريكية على إعادة النظر في سياستها، وإحداث التغييرات المقترحة، وفي نفس الوقت يزداد تعرض الشعب اليهودي للآلام، وتتسع الموجة اللاسامية(12)، ويزداد الكفاح في سبيل إنجاز الهدف المطلوب)1هـ هذا الكلام الغريب، يلقى في مؤتمر عام، وهو يعني التهديد، كما يعني أنه من سياسة الصهاينة افتعال حوادث بهدف إخافة اليهود، وحملهم على الهجرة، ولو كان عن طريق التضحية ببعض اليهود.

       كيف يسفر الإِنسان ذلك "الهيام الصوفي" بفلسطين، ورفض قبول أي وطن سواها، فإذا صارت في متناول اليد، فضل عليها أمريكا، وأوروبا الغربية؟؟ من هنا يمكن فهم قانون "العودة" الذي سنّته إسرائيل عام 1950م والذي يخالف سائر القوانين في العالم .

 

قانون العودة :

       بتايخ 5/6/1950م أصدر البرلمان الإِسرائيلي "قانون العودة" وقد جاء فيه(13) (كل يهودي يحق له أن يجيء إلى هذه الدولة بوصفه مهاجرًا...) وهذا الحق جاء لمجرد كونه يهوديًا، كما قال ابن غوريون؛ فكل يهودي يحل في فلسطين، فقد كفل له القانون فورًا وتلقائيًا "صفة مواطن" فإذا كان لا يرغب بذلك فعليه أن يخبر أقرب موظف بذلك .

       فاليهودي الذي يمر بإسرائيل يكسب الجنسية دون علمه، وبدون طلب منه. أما الفلسطيني الذي عاش هو وأجداده، ولعدة قرون فلا يكسب الجنسية إلا إذا جاء بألف وثيقة ومستند.

       ومن غرائب هذا القانون أن كل طلف يهودي يولد في إسرائيل، يصبح مواطنًا فورًا، مع غض النظر عن جنسية والديه، وإقامتهما .

       والأغرب من كل ذلك أن الأبوين إذا تخلّيا عن الجنسية الإِسرائيلية، فالتخلي لا يشمل الطفل الصغير، إلا إذا جرى ضمه صراحةً في إعلان التخلي عن الجنسية، مع أن القاعدة بأن التابع لا يفرد في الحكم. وكل هذا يعني أن الجنسية الإِسرائيلية مفروضة على اليهود، أكثر من أن تكون حقًا مكتسبًا، وفي نفس الوقت هي ممنوعة عن الفلسطيني حتى يكسبها بالطلب. فهل هناك دولة في القرن العشرين تشرع لكل فئة من مواطنيها قانونًا، يختلف عن فئة أخرى؟؟.

       وأختم ما تقدم بتعريف طريف للصهيوني(14) (بأنه اليهودي الذي يقدم تبرعًا ماليًا ليهودي ثان، بهدف إرسال يهودي ثالث إلى إسرائيل).

*  *  *

الهوامش :

(1)    تكوين الصهيونية ص61.

(2)    الرموز 137/1-5 .

(3)  هدم بختنصر بيت المقدس عام 586 ق.م وأحرقه، وفي عام (70)م قام تيطوس الامبراطور الروماني بحرقه ثانية كما أحرق الهيكل ودمر المدينة ونفى اليهود .

(4)    تكوين الصهيونية ص 70.

(5)    تكوين الصهيونية ص 62.

(6)    الصهيونية والعنصرية ص 1/88.

(7)    الصهيونية وإسرائيل وآسيا/ج. جانسن ص 25.

(8)    الصهيونية حركة عنصرية ص 54.

(9)    الصهيونية حركة عنصرية ص 54.

(10)المرجع السابق ص 55.

(11)المرجع السابق ص 55.

(12)هنا يمكن فهم انضمام أكثر من ألف صهيوني إلى الحزب النازي الأمريكي، لإِستعمالهم في الوقت المناسب مثل هذه الأهداف (كلوزنر) بكل صراحة .

(13)الصهيونية والعنصرية ص 1/328.

(14)   الصهيونية حركة عنصرية ص 62.

 

 

محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر  2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34