الأدب الإسلامي

طحن الأضراس

(2/1)

 

بقلم : معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر / الرياض

وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي

 

       خلق الله الإِنسان فسوّاه فعدلهُ، وفي أي صورة ما شاءَ رَكَّبَهُ، وجعل من أسباب بقائه أكَلهُ الطعام، وشربهُ الماء، وجعل الطّعام له أنواعًا وأصنافًا، وهداه إلى ما ينفعه منها، وينمي جسمه، ويَبْني قوته، فَتَفَنَّنَتْ الأمم في زرع هذا، وغرس ذاك، والاستفادة من الحيوان والطير والأسماك من أجل الطعام.

       ولأجل أهمية الطعام لغذاء الإِنسان أصبح من الأمور التي تشغل الناس، وتأخذ حيزًا واسعًا من تفكيرهم، وجهدًا متواصلاً من وقتهم وعملهم؛ فمن عمل لذلك وثابر عدّ من الممدوحين، ومن تهاون أوتوانى أو أهمل أو تكاسل، وُصِف بأنه من المذمومين المنتقدين، وتتفاوت درجة المدح أو الذم، حسب ما يبذل المرء من جهد، وما يصل إليه من نتيجة؛ أو بقدر ما يتراخى أو يهمل؛ فيقصر عن الهدف، ويصبح عالةً على مجتمعه.

       لهذا فلا عجب أن أصبح الطعام حديث الناس، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، لا يغفلونه في سفر أو حضر، صيفًا أو شتاءً، صحيحين أو مرضى؛ لا يملون الخوض في أحاديث الطعام؛ والتراث مليء بما قيل عنه نثرًا وشعرًا، طعمًا ورائحةً؛ وما يواكب تقديمه كرمًا أو بخلاً .

       وسوف نختار بعض النصوص التي تمثل رأيًا من الآراء في الطعام، أو ملاحظةً من الملاحظات، وسنجد أن كل نص يَمُرُّ بِنَا يحتاج إلى مقدمة تسبقه، أو تعليقٍ يتبعه، وسنجد أن هذا سوف يلمس جانبًا نفسيًا عند الإنسان؛ والطعام له صلة بالنفس، فتوفره يرفعها إلى أعلى درجات الغبطة والفرح، وشُحُّه قد ينزل بها إلى درجات متدنية من البؤس، قد تصل إلى زلفة من زلف الإِجرام؛ لأن الجوع، كما قيل: كافر!

       تحدَّث الدين الإِسلامي المجيد عن النهج المفيد في تناول الطعام، فوضع أسسًا متينةً، بقيت حيةً على مدى العصور، ومنها: أن المسلمين لا يأكلون حتى يجوعوا، وإذا أكلوا لا يشبعون. وأوجب، طلبًا للصحة والعافية، أن يُقسم حيّز المعدة إلى ثلاثة أقسام: قسم للطعام، وقسم للماء، وقسم للهواء.

       وهذه القواعد لاتزال ثابتةَ الأركان إلى يومنا هذا، والطب الحديث اعترف بها، وردّ كثيرًا من أسباب المرض إلى مخالفتها؛ وأجدادنا أدركوا قيمتها، واتخذوها نبراسًا، يرددون مؤدى معانيها، بأساليب مختلفة، ومما قالوه عن تحصين العافية، والبعد عن السقام، القول الحكيم الآتي:

       "هو أن يُقدَّم الطعام إليك، وأنت تشتهيه، ويرفع عنك وأنت تشتهيه"(1).

       ونستدل من بعض النصوص على أن الناس تصبح لهم عادات للأكل ثابتة، تستقر تدريجاً، ويتفق عليها؛ فالإوقات تكون محددةً، والأصناف معينةً، وآداب الأكل معروفة ومراعاة، وهذا أمر يبدو أنه يتماشى مع طبيعة العادات الاجتماعية؛ ويأتي التغيير تدريجاً لا يشعر به، ولا يدركه إلا من قرأ ما دُوِّن عنه، في العصور المتعاقبة.

       ويبدو أن هناك في زمن الحجاج وقتًا لتناول الغداء والعشاء، نَظَّمه أهل ذاك الزمن، واتخذوه قاعدةً ثابتةً، لا يخرجون عنها إلا لضرورة تطرأ، أو ظرف يجد، بدليل ما دار من حوار بين الحجاج ورجل تناول الطعام في وقت مختلف عن المعتاد، والنص كالآتي:

       "دعا الحجاج رجلاً إلى غدائه، فقال:

       قد تغديت .

       قال: إنك لتباكر الغداء.

       قال: لخلال ثلاث: إن ناجيت رجلاً لم يجد فيّ خلوفًا، وإن شربت ماءً شربته على ثقل، وإن حضرت قومًا على طعام، حضرتهم ومعي بقية من غرض"(2).

       إن الفعل لَيكون نبيلاً إذا ما بُنِي على فكر سليم، وجاء عن تدبر وتبصر؛ ويزيد شرفًا إذا جاء مشتملاً على تقدير الآخرين، ومراعيًا شعورهم، مبتعدًا عن الأثرة، وحب النفس؛ فهناك عنصران راعاهما ضيف الحجاج في حق الآخرين: الأول: جنبهم رائحة الفم التي قد تصاحب من تناول طعامه حديثًا، خاصةً إذا كان الطعام مما يكون له عادة رائحة منفِّرة؛ والثاني: سايرهم في مشاركتهم طعامهم مجاملة دون جشع قد يؤدي إليه الجوع الحاد.

       وهناك أقوال عن الطعام تتحدث عن النوع، وما يجب أن يقبل منه أو يرفض، وتأتي هذه الأقوال ممن يؤخذ كلامهم ولا يترك؛ لأن لهم في الأمر علمًا وتجربةً، وهم يقدمون النصح دون أن يُطلب، أو يبدونه لمن يطلبه.

       والإِنسان مغرم بمعرفة المفيد في الطعام، وإن كان لا يستفيد أحيانًا من ذلك؛ لأنه يضعف أمام الشهي غير المفيد؛ ولهذا فالطعام مجال اختبار دقيق لقوة الإِرادة أو ضعفها.

       ونبقى مع الحجاج في النص الآتي عن الطعام أيضًا:

       "قال الحجاج لتيادق مطببهُ.

       صف لي صفةً آخذ بها نفسي، ولا أعدوها.

       قال تيادق: لا تتزوج من النساء إلا شابةً، ولا تأكل من اللحم إلا فتيًا، ولا تأكله حتى ينعم طبخه، ولا تشربن دواءً إلا من علة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعامًا إلا أجدت مضغهُ، وكل ما أحببت من الطعام، وأشرب عليه، وإذا شربت فلا تأكل عليه شيئًا، ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فتمشّى، ولو مئة خطوة"(3).

       هذه نصائح للصحة عمومًا، أما أسس الطعام في النص، فهي اللحم الفتي، والفاكهة الناضجة، ومضغ الطعام، وهي أمور معتبرة في كل زمان مستنير؛ فزمننا يراعيها، وطِبّنا اليوم يحث على اتباعها، وقد تغير الناس منذ أيام أبائنا، وما اختلفت الآراء في هذا المجال.

       واللحم عند العرب في باديتهم مهم؛ لأنه العدو الأول للجوع؛ والجوع يرعبهم في صحرائهم، ويخيفهم في باديتهم، رغم كثرة ملازمته لهم، وتعودهم عليه. واللحم لهذا هو الملجأ الذي إذا ضاقت عليهم الأرض لجؤا إليه، والمدخر الذي إذا سدت أمامهم المنافذ وجدوا فيه متنفّسهم؛ فهو المخرج إن حل ضيف، أو قام عرس، أو حان ختان، أو وجب حق، أو أبرم صلح.

       والنصوص المدونة عن اللحم في التراث لا تكاد تحصى، وقصصها متنوعة وممتعة، تبدأ واللحمة جَمَلٌ يرعى، أو نعجة في الروض تثغو، ثم لحمة على وضم، ثم متراقصة في قدر، أو شياً على سفود، وعلى هذا فلتربيتها حديث، ولذبحها حديث، ولشيها، أو طبخها حديث، والحديث أيضًا يأتي عن سمنها وهزالها وعن حملها وولادتها، وعن صحتها ومرضها، وعن صوفها ووبرها وجلدها، وعن رعيها وسقيها.

       والقمح والتمر قد يكونان غذاءً مهمًّا في حياة ابن البادية؛ ولكنهما يُجْلَبَان، وكثيرًا ما يشحان وينعدمان؛ أما اللحم فهو الذي عليه المتكأ، والقصة الآتية تري ذلك:

       "قال زياد لغيلان بن خرشة (الصبي):

       أحب أن تحدثني عن العرب وجهدها، وضنك عيشها، لنحمد الله على النعمة التي أصبحنا بها.

       فقال غيلان: حدثني عمي قال:

       توالت على العرب سنون تسع في الجاهلية، حطمت كل شيء؛ فخرجت على بكرٍ لي في العرب، فمكثت سبعًا، لا أطعم شيئًا، إلا ما ينال منه بعيري، أو من حشرات الأرض؛ حتى دفعت في اليوم السابق إلى حواء عظيم، فإذا بيت جَحِش (بَعُدَ) عن الحي، فملت إليه، فخرجت إليّ امرأة طوالة حُسّانة (مستطلعة)، فقالت من؟

       قلت طارق ليل، يلتمس القِرَى.

       فقالت: لو كان عندنا شيء لآثرناك، والدال على الخير كفاعله، حِسَّ هذه البيوت ثم انظر إلى أعظمها، فإن بك في شيء منهاخير ففيه.

       ففعلت، حتى دفعت إليه، فرحب بي صاحبه، وقال: من؟

       قلت: طارق ليل، يلتمس القرى.

       فقال: يافلان؛ فأجابه؛ فقال:

       هل عندك طعام؟

       فقال: لا.

       فوالله ما وقر في أذني شيء كان أشد منه.

       قال: فهل عندك شراب؟

       قال: لا. ثم تأوّه، فقال:

       بلى، قد بقّينا في ضرع الفلانة شيئًا لطارق، إن طرقك.

       قال: فأت به.

       فأتى العطن، فابتعثها، فحدثني عمي أنه شهد فتح أصبهان، وتُسْترَ، ومهرجان، وكور الأهواز وفارس، وجاهه عند السلطان، وكثرة ماله وولده؛ قال: فما سمعت شيئًا قط كان أشد من شخب تيك الناقة، في تلك العلبة. حتى إذا ملأها، وفاضت من جوانبها، وارتفعت عليها شكرة (رغوة) كجُمَّة الشيخ، أقبل بها، يهوي نحوي، فعثر بعود أو حجر، فسقطت العلبة من يده. فحدثني (عمي) أنه أصيب بأبيه وأمه، وولده، وأهل بيته، فما أصيب بمصيبة أعظم من ذهاب العلبة.

       فلما رأى ذلك رب البيت خرج شاهرًا سيفه، فبعث الإِبل،ثم نظر إلى أعظمها سنامًا، ودفع إليه(4) مديةً. وقال: يا عبد الله، اصطل واحتمل. (اي أشو اللحم).

       قال فجعلت أهوي بالبَضْعة إلى النار، فإذا بلغت إناها (نضجها) أكلتُها؛ ثم مسحت ما في يدي من إهالتها (أثرها) على جلدي. وقد كان قَحل (يبس) على عظمي، حتى كأنه شن، ثم شربت شربة ماء، وخررت مغشيًا عليّ، فما أفقت إلى السحر.

       وقطع زياد الحديث. وقال:

       لا عليك ألا تخبرنا بأكثر من هذا، فمن المنزول به؟ قلت: أبو علي عامر بن الطفيل"(5).

       لقد كان اللحم في هذه القصة هو المسعف، ولم يكن على غيره المعوَّل؛ لقد بدئ بالحليب، وكان حُسِب حساب الضيف فيه قبل أن يصل؛ لأن الضيف منتظر، وطارق الليل ليس بمستبعد؛ ولكن الحليب قصر عن الوفاء باللازم، فلم يكن بُدٌّ مِنَ اللجوء إلى المُسعِف في نهاية الأمر: اللحم.

       لهذا و أمثاله كان اللحم عندهم في أعلى درجات الطعام؛ ففيه الشبع، وفيه قمة إكرام الضيف، وتبقى آثار الشبع منه أيامًا. ومن اللحم وكثرة تقديمه، تأتي السمعة والصيت، مثل ما كان من عبد الله بن جدعان في الجاهلية، وجفنته العظيمة، وإليك بعض ما قيل عنها:

       "قال أبو عبيدة:

       كان لعبد الله بن جدعان جفنة يأكل منها القائم والراكب.

       وذكر غيره أنه وقع فيها صبي فغرق"(6).

       ولعل خير من يصف شعورهم عن اللحم، ويُحسن المقارنة بينه والمصنوع من القمح، أحدهم في قوله وقد سُئِلَ عن اللحم والثريد، فأجاب، كما في القصة التالية:

       "قيل لأعرابي: ما لكم تأكلون اللحم، وتدعون الثريد؟

       فقال: لأن اللحم ظاعن، والثريد باق"(7).

       واللحم ليس متيسرًا دائمًا؛ ولهذا عندما يوجد فله المقام الأول، ويأخذ الآكل منه حتى يشبع، وتشترك العشيرة في الجزور إذا ذبحت، ويسر عون في الأكل حينئذ، والفائز هو من يسبق الآخرين، فهم لا ينتظرونه يبرد، أو يعطونه حقه من المضغ، وقد صدق أحدهم في وصف صورة سرعة الأكل عندما سُئل عن اسم المرق عند العرب في صحرائهم، والقول الآتي يشرحه:

       "قيل لأعرابي:

       ما تمسون المرق.

       قال: السخين.

       قال: فإذا برد؟

       قال: لا ندعه يبرد"(8).

       ويأتي منهم أفعال تجاه اللحم، وقيمته في نفوسهم، مما لايكاد يصدق، لغرابته، ومخالفته لما تعارف عليه الناس كما جاء في القصة الآتية:

       "قال رجل من الأعراب لولده: اشتروا لي لحمًا.

       فاشتروه وطبخوه حتى تهرّى، وأكل منه، حتى انتهت منه نفسه، وشرعت إليه عيون ولده، فقال:

       ما أنا بمطعمه أحدًا منكم إلا من أحسن وصف أكله.

       فقال الأكبر منهم: آكله، يا أبت! حتى لا أدع لذرة فيه مقيلاً.

       قال: لست بصاحبه.

       فقال الآخر: آكله حتى لا يدري ألِعَامِه هو أم لعام أول.

       قال: لست بصاحبه.

       فقال الأصغر: أدقه، يا أبت، دقًا، وأجعل إدامه المخ.

       قال: أنت صاحبه هو لك"(9).

       النحل في هذه القصة بيِّن، والإِختلاق واضح، والخيال مجنّح، والقاصّ متدرِّب؛ فقد اختار المادة التي يحبها ابن الصحراء، وجعلها مرتكز قصته، وجاء بالأشخاص مختارين، وسلك النهج المعتاد، وهو أن لا يأتي بالحل الصحيح للمنافسة إلا آخر المتسابقين، وأن يكون بالطبع الأصغر.

       ولكن يهمنا فيما نحن بصدده أنه عمد إلى اللحم فاعترف أهميته، وجعل قصته تؤكد هذه الأهمية في كل جزء منها، وفي كل خطوة من خطواته: رغبة الأب، وقَرَم الأولاد، واحدًا بعد الآخر، بصور متباينة، إلى أن وصل الأمر إلى الأصغر، فوقع على الصورة المسكتة لأظهار مقام اللحم عندهم.

       والجمل في حياة الأعرابي يحتل مكانًا متمكنًا، وينتشر حبه في نفسه انتشارًا واسعًا، ولا يعتبر موسرًا من لا يملك جملاً، ولا يكون آمنًا من لا يملك جملاً، ومن لا يملك جملاً فهو عالة على قومه في حله وترحاله، وفي غارته ورد الغارة. فإذا كانت الخيمة مأمنه وهو مقيم؛ فالجمل مصدر راحته وهو راحل. والقصة الآتية تبين هذا، ولا يهم في هذا المجال أن يُظن أنها موضوعة؛ فنحن نستشهد هنا بفكر واضعها، والصورة الراسخة في ذهنه عن الأعراب، وما أظهره في القصة عنهم:

       "أُدخل أعرابي على كسرى ليتعجب من جفائه وجهله . فقال له: أي شيء أطيب لحمًا؟

       قال: الجمل.

       قال: فأي شيء أبعد صوتًا؟

       قال: الجمل.

       قال: فأي شيء أنهض بالحِمْل الثقيل؟

       قال: الجمل.

       قال كسرى: كيف يكون لحم الجمل أطيب من البط، والدجاج والدراج والجِداء؟

       قال: يطبخ لحم الجمل بماء وملح، ويطبخ ما ذكرت بماء وملح، حتى يعرف فضلُ ما بين الطعمين.

       قال: كيف يكون الجمل أبعد صوتًا، ونحن نسمع الصوت من الكركي من كذا وكذا ميلاً؟

       قال الأعرابي: ضع الكركي في مكان الجمل، وضع الجمل في مكان الكركي، حتى تعرف أيهما أبعد صوتًا.

       قال كسرى: كيف تزعم أن الجمل أحمل للحمل الثقيل، والفيل يحمل كذا وكذا رطلاً؟

       قال: ليبرك الفيل، ويبرك الجمل، وليحمل على الفيل حمل الجمل، فإن نهض فهو أحمل للأثقال"(10).

       إن معرفة إن الفيل يُحَمَّلُ واقفًا، ويعجز عن النهوض بالحمل باركاً، أمر لا يعرفه إلا أهل الحاضرة، ممن اتصل بالفيل وبيئته، والذي يخصنا من النص بالدرجة الأولى هو ما قرره الأعرابي عن تفضيله لحم الجمل على كل لحم؛ لقد تغيرت النظرة إلى لحم الجمل اليوم بعد أن توطن ابن البادية، وقليلون من المعاصرين اليوم يشاركون الأعرابي رأيه؛ بل إن بعضًا من أبناء البادية اليوم يأنفون من أكل لحم الجمل!

       والطعام الذي تشترك فيه البادية والحاضرة في زمن مضى هو اللحم والتمر، وهما عرضة للمنافسة، ومجال للمفاضلة، والقصة التالية فيها هذه المفاضلة، وسوف تكون حلقةً بين ما ذكرناه عن اللحم في البادية، وعن التمر في الحاضرة، أو في البيئة التي بينهما.

       والقصة هي:

       روى الأصمعي عن أبيه قال:

       أَسَرَ رجل رجلين في الجاهلية، فخيّرهما بِمَ يُعشيهما؟ فأختار أحدهما اللحم، وأختار الآخر التمر.

       فعُشِّيا، وألقيا في الفناء، وذلك في شتاء شديد، فأصبح صاحب اللحم خامدًا، وأصبح صاحب التمر تزر عيناه!"(11).

       الأمر سهل في اختبار صحة القصة من كذبها، تعاد التجربة مع من شك، ولن نعدم اثنين، أحدهما يتعصب للحم، والآخر للتمر، ونخرج بالنتيجة، التي تقطع الشك باليقين!

       ولا أدري، لماذا لم يعط أحدهما نصف التمر ونصف اللحم، والثاني مثله، وبما أنهما أسيران، يخضعان لرغبة الآسر، فلن يقبل اعتراض من قد يعترض منهما، ولكن لو تم هذا لحرمنا من هذه القصة، فحينئذ لن تسجل، ولن نجد شاهدًا يعضد قولنا عن اللحم والتمر، وتنافسهما!

       وفي التمر أقوال، وتأتي عنه قصص، تصور مقامه عند القوم، ونظرتهم إليه، وأهميته في طعامهم، والتمر طَرْح النخلة، وثمرة العمه، كما سماها الرسول عليه الصلاة والسلام وزادت أقواله فيها من أهميتها في المجتمع الذي يغرسها، والمجتمع الذي يستفيد منها طعامًا، لما فيها من ميزات التغذية، وسهولة الحفظ، مع تهيؤها للنقل والحمل والخزن.

       والنخلة بقيت عزيزة في البلدان العربية التي تصلح لغرسها ونموها، ووصل عددها إلى ملايين، وقامت عليها صناعات في بعض البلدان، ونقلت إلى بلدان كثيرة وبعيدة.

       وكانت المملكة العربية السعودية من الدول العربية التي اهتمت بالنخل والتمور، وجاء وقت كان التمر لكثير من الناس غذاءً رئيسًا، وكان صاحب النخل ممن يغبط على الثروة عنده مهما قلت. ثم جاء وقت فتر إقبال الناس على التمر، وزحفت المدن على بساتين النخيل، وصارت الأرض أكثر واردًا من الغرس الذي عليها، فشهدت النخلة صدودًا، وعانت هجرًا، ولكن الله هيأ لها انتعاشًا عوضها عما فات، وعادت المياه إلى مجاريها في حياة النخلة؛ وأخذت الدولة تشجعها بإعطاء الإِعانة، وتسهيل السبل، والتغلب على المشاكل، فالقروض تمنح، والمكافحة معدة، والوعي يزداد.

       ولم يقتصر جهد الدولة لإِعزاز النخلة على هذا؛ بل تعداه إلى غرسها، في مدينة الرياض، وغيرها في الشوارع، حتى وصل عددها في شارع(12) واحد إلى أكثر من ألف نخلة، وساهم بعض نخل الشوارع في سهولة الحصول على اللقاح، وهو مهم للنخلة.

       وأقبل الناس على غرسها، واختيار الأصناف الجيدة منها، فغُرِسَت في البيوت، والاستراحات، والبساتين، ولقد بلغ عددها في إحدى المزارع ما يربو على عشرين ألفًا. وبلغت قيمة ثمرة إحدى المزارع في إحدى المناطق في "نجد" في سنة من السنوات ستة ملايين ريال.

       وكان الناس في "نجد" يتناولون التمر ومعه الزبد، ويصاحب هذين العنصرين اللبن؛ ويبدو أن هذه عادة قديمة إذ أننا نَجِدُ في العصر الأموي ما يدل على أنهم كان يتناولون التمر مع الزبد، ويفضلون ذلك على غيره من الطعام.

       ومن القصص في هذا القصة الآتية:

       "عن أبي عمروبن العلاء قال:

       قال الحجاج لجلسائه: ليكتب كل رجل في رقعة أحب الطعام إليه، ويجعلها تحت مصلاّي.

       فإذا في الرقاع كلها الزبد والتمر"(13).

       ولا يستغرب هذا ففي هذين العنصرين اللذة والغذاء، والتمر مما كان يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل إنه قال عنه:

       "بيت ليس فيه تمر جياع أهله"(14).

       والأحنف وقد سكن المدن والريف أصبح من أنصار التمر، والمدافعين عنه، وفي القصة التالية ما يدل على ذلك:

       "قال رجل في مجلس الأحنف ليس شيء أبغض إليّ من التمر والزبد .

       فقال الأحنف: رب ملوم لا ذنب له"(15).

       ويعدل قول هذا المبغض للتمر قول أعرابي يرد على من فضل العسل على التمر، لقد جاء الرد قويًّا، فذم العسل، ومدح التمر، وهذا ما قاله:

       "قال الأصمعي: قال أعرابي يفضل الرطب على العسل:

       أتجعل عسلة في أخثاء البقر كعسلة في جو السماء، لها محارس من جريد، وذوائب من زمرّد"(16).

       ويظهر حبهم للتمر، ومدحهم إياه، في بعض أقوالهم، وفي حسن وصفهم له، ويأتي هذا عرضًا عندما يستثارون، كما حدث في الحادثة الآتية:

       "قال رجل لشيخ بدوي:

       تمرنا أجود من تمركم .

       قال: تمرنا جُرد فطس، كأنها ألسن الطير، تضع التمرة في شدقك، فتجد حلاوتها في عنقك(17).

       ويبدو أن حب التمر زاد في قلب رجل البادية بعد أن سكن ريف العراق، وعرف فائدته، واختلاف أنواعه؛ أما ساكن المدن فكان يعرف فضله من قبل؛ ولهذا أكثر من غرسه، والعناية به، وتتبع نشر الأنواع الجيدة منه، وقد دخل التمر في العراق في تركيب عدد من الأطعمة .

       ولقد كان التمر وجبةً رئيسةً في المدينة المنورة، ولطالما فرح بها المهاجرون، وقد بات كثير منهم في بعض الليالي يعانون الجوع، فلا يجدون حتى حبات من التمر معدودةً. ولهذا كثر الحديث عن التمر والنخلة فيما دون عنهم، وهذا قول في التمر يتصل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه:

       "عن اسحاق بن عبد الله قال:

       سمعت أنس بن مالك يقول: رأيت عمر يُلقَى إليه الصاعُ من التمر، فيأكله حتى حشفه"(18).

       وعمر لابد وأنه كان سعيدًا بهذه الوجبة، ولابد أن التمر كان قليلاً، بدليل أن عمر رضي الله عنه لم يوفر الحَشَف، ولو قدر على أكل النوى لأكله. والإِنسان عادة عندما يبدأ الأكل يختار أفضل ما فيه، ويترك جانبًا، ما تتعداه العين، لعدم جودته، فإن لم يُشبِع ما اختير من الطعام، بدأ الزحف على ما هو أقل جودةً، وهكذا حتى يُنهي الآكل الوعاء، مع أسوأ ما فيه.

       ومن هذا جاء المثل عامي، فالناس عندما يرون شخصًا يعود إلى ما نبذ، ويُرغم على ما سبق أن اعتبره مما لايختار، قالوا في أول مرة: "فلا يقشر العنب"، بمعنى أنه تشرط، ويتدلل،وفي الذهن أنه في نهاية الأمر سوف يأكل من العنب حتى الحصرم.

       ومثل أولئك الأغنياء الذين يأنفون من أكل بعض الأطعمة، فإذا جار عليهم الزمن أكلوا ما هو أقل منها، ورأوها نعمةً فضلى. والأمثال هذه تمر بالإِنسان في حياته، وحدوثها ليس نادرًا.

       ولا عجب أن يزاحم العسلُ التمرَ في أذهان بعض الناس، فالعسل ممدوح في القرآن، وكثير من الأمم يَدخل العسلُ مدخلاً واسعًا في غذائها، وله قدر عند العرب في مدنهم وريفهم، وعند بعض مجاوري الجبال، حيث يكثر البَرِّيّ من النحل وعسله، ومثلما لهم اقوال في التمر لهم أقوال في العسل، بعضها عن فوائده، وبعضها عما فيه من لذة ومتعة.

       ومن أقوالهم في العسل القول الآتي؛ وهو يشير إلى فائدة العسل في الشفاء من الإِسهال:

       "كان الحسن يعجبه إذا استمشى الرجل أن يشرب اللبن والعسل"(19).

       والحسن البصري هنا استهدى بالرسول صلى الله عليه وسلم في معالجته إسهال أخي الذي جاء يشكو إليه من انطلاق بطنه؛ لإامر ثلاثاً أن يسقيه عسلاً، ثم شُفِيَ. وقد تبين، بعد أن تقدمت البحوث الطبية حديثًا، أن العسل خير مضادٍّ حيويّ، وقد استفاد منه "الروس" في الحرب العالمية الثانية، في حماية جراح جنودهم، من التلوث .

       والاستفادة منه فيما أراده الحسن، أنه سوف يطهر ما قد سببه المسهل من التهاب في الأمعاء، والمسهل أحيانًا يُخْطأ في مقداره؛ فيسبب أذىً أكثر من الفائدة التي قُصِد لها.

       والعسل اكتشف أثره في حفظ الأطعمة منذ قديم، وقد اراد أحد الخلفاء أن يهدي تُفَّاحًا إلى أحد ملوك الهند، فأهمه أمر إيصال إلى هناك طازجًا، لم يتأثر بالرحلة الطويلة، فنُصح بأن يضعه داخل أوانٍ مُلأِ بالعسل، يغمسه فيها، ففعل، وقد نجحت التجربة.

       ويقال إن فائدة العسل هي فيما في الزهرة التي يرعاها النحل من "خاصية" للشفاء؛ فإذا كان السدر يشفي من داء، فإن عسل النحل الذي يرعى السدر يشفي من ذلك الداء وهكذا.

       والنظرة العالية، والتقدير العتيد للعسل قديم لدى الأمم، خاصةً تلك التي يتوافر عندها، وتتعدد أنواعه، و"ديموقراطيس" من الذين أدلوا بدلوهم في الحديث عن العسل وفائدته العظمى، وقد سُئِل سؤالاً جاء جوابه عن العسل هكذا:

       "سُئِل ديموقراطيس العالم عما يزيد في العمر فقال:

       من أدام أكل العسل، ودهن جمسه به، زاد الله بذلك في عمره"(20).

       العسل مغذ جيد، ويعطي الجسم طاقةً، ومادام الأمر كذلك، ومادام فيه نوافع طبية؛ فإنه يساعد على العافية، والعافية هدف كل إنسان، وغاية يسعى إليها كل فرد.

       والناس في زمننا يتداوون به عن بعض الأدواء، ومن ذلك ما دأب عليه بعض أهل عسير، فهم إذا أحس أحدهم بألم في جفن عينه، أو لزوجة فيها، فهو يعمد إلى مِرْوَدٍ يضع على رأسه قطنًا، ثم يمرره على الجفن؛ وتحس العين لذعة حرارة سريعة، سرعان ما تتلاشى، ويتبعها دمع لفترةِ ثوانٍ، ويشعر الإنسان بعدها بالراحة التامة؛ وهو أمر مجرب ومحمود، ولا أدري ما رأي الطب الحديث في هذا؟

       ومن أنواع العسل الجيد المشهور ما يأتي من "حضرموت" أو من مناطق جبال السراة، بدءًا بمنطقة الطائف فجنوبًا، وسبب ذلك أن النحل يرعى من زهر الأشجار البرية، مثل السدر وغيره، وكثير من يضع خلاياه في أماكن منيعة في الجبال في الكهوف، ومشاكّ الصخور، فلا يوصل إلى جَنْيه إلا بمشقة وعناء، ويتعرض الجاني إلى مخاطر السقوط ولسع النحل؛ ولكن طيبه وجودته تستحق المجازفة.

       ويبدو أن جبال الحجاز شهرتها في جودة العسل قديمة، ولدينا نص من العهد الإِسلامي الأول يدل على ذلك، وقد جاء به ما يأتي:

       "قال الأصمعي:

       كتب بعض الخلفاء إلى عامله بالطائف أن أرسل إلي بعسل أخضر في سقاء، ابيض الإِناء، من عسل الندغ والسحاء، من حداب بني شبابة.

       (الندغ الصعتر البرّي، والسحاء نبت يرعاه النحل، وحداب بني شبابة في جبال السراه"(21).

       ويبدو أن الحكام في تلك الفترة، عندما تهفو نفوسهم إلى العسل؛ يرسلون إلى عمالهم بطلب ذلك، محددين النوع والمكان، كما جاء في النص السابق، ويبدو أيضًا أنهم يحرصون على السجع، والجمل البليغة في المخاطبة في ذلك؛ وللحجاج موقف مماثل للنص السابق، قيل عنه فيه ما يأتي:

       "كتب الحجاج إلى عامله بفارس:

       ابعث إليّ عسلاً من عسلا خُلاَّر (موضع بفارس) من النحل الأبكار، من الدَّسْتَفْشَار (أي مما عصرته الأيدي وعالجته) الذي لم تمسّه النار"(22).

       ونشك في صحة نسبة هذا القول للحجاج، فالسجع المتكلف، والكلمة الفارسية تشهد على النحل، ولعل السبب في نحت هذا النص هو غيرة أحد الفرس عندما سمع القول عن عسل جبال السراة، فصاغ نصًا على وزنه، لتتوازن الكفة بين العرب والفرس، وبين بلاد العرب وفارس؛ وكانت العصبية في ذلك الوقت على أشدها. ولقد حذا صاحب هذا النص ما قاله سابقه في كل جزء من أجزاء النص: فحداب بني شبابة قابله بلاد خُلاَّر، ووصف العسل قابله وصل عسل نحل فارس، وأنه من الأبكار، ولا ندري هل يقصد هنا البكر خلاف الثيّب، أو الجنى الأول! ولكن، على كل حال، الفارسي شعر بأهمية العسل في المجتمع، ولم يرد أن يذهب العرب بالفخر بالانفرادِ بِهِ !

       وننتقل إلى البُرِّ، وما يعمل منه، والبُرّ طعام مشاع بين كل الأمم، متحضرها وباديها، قاصيها ودانيها، لفائدته، ولسهولة تحضيره، ونقله وخزنه، ولإِمكان الاكتفاء به غذاءً رئيسًا، لاحتوائه على العناصر المهمة، ولسهولة تنويع طعام منه، متعدد الأشكال والهيئة. ولن ندخل في حديث في أهميته لدى الأمم، ولا في دوره أيام "يوسف" – عليه السلام – ، والسنوات العجاف التي مرت، أو العلاج الذي قوبلت به، ولكننا سوف نكتفي بمختارات مما ورد في كتب التراث، تلميحًا أو تصريحاً عن بعض جوانب القمح .

       ونبدأ بما كان من صداقة بين التمر والقمح عند البادية، ومن استطاع من البادية أن يخطى بوجودهما معًا فإنه ذو فوز عظيم، وما قاله شيخ البادية في النص الآتي يدل على ما ذكرناه من حفاوتهم بهما:

       قال شيخ من البادية:

       "أضافنا فلان، فأتانا بحنطة كأنها مناقير الغربان، وتمر كأنه أعناق الوز، يَوْحَلُ فيه الضرس"(23).

 

*  *  *

الهوامش:

(1)      بهجة المجالس : 387.

(2)      بهجة المجالس : 3/87.

(3)      عيون الأخبار : 3/292.

(4)      أي بعد أن نحر الناقة بسيفه، أعطى ضيفه سكينًا ليقطع ويشوي.

(5)      عيون الأخبار: 3/269.

(6)      عيون الأخبار: 3/291.

(7)      عيون الأخبار: 3/249.

(8)      عيون الأخبار: 3/249.

(9)      عيون الأخبار: 3/235.

(10)عيون الأخبار: 3/221.

(11)عيون الأخبار: 3/224.

(12)هذا الشارع في حي النسيم، ولعل جزءًا منه في السليّ في الرياض .

(13)عيون الأخبار: 3/219.

(14)عيون الأخبار: 3/223.

(15)عيون الأخبار: 3/219.

(16)عيون الأخبار: 3/225.

(17)البصائر: 4/218.

(18)عيون الأخبار: 3/247.

(19)عيون الأخبار: 3/228.

(20)عيون الأخبار: 3/228.

(21)عيون الأخبار: 3/227.

(22)عيون الأخبار: 3/227.

(23)عيون الأخبار: 3/223.

 

 

محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر  2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34