الفكر الإسلامي

القرآن الكريم والأداء التصويري في الحقائق والأحكام

 

بقلم : محمد قطب عبد العال

 

إنّ التصوير الفني بدلالاته المصاحبة يعتبر أحد الأدوات التعبيرية المميزة في القرآن الكريم، فالتصويرُ يحيل المعاني المجردة والذهنية، والمشاهد، والمواقف، والوجدان.. إلى صور تنبض بالحركة بظلالها الحركية والصوتية واللونية، فتبدو شاخصة مُحسة – مؤثرة في النفس، بالغة غاية التأثير..

     والقرآن في مجاله التصويري معجز بكل المقاييس الفنية. وهو في هذا المجال متفرد في بابه.. من حيث الأداء اللفظي والخيالي.. مما يجعلنا نقرر في وضوح لا لَبْس فيه أنه معجزة أدبية خارقة تحدى بها العرب قديمًا وحديثًا وإلى يوم الدين .

     قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(1).

     .. ولكننا يجب أن نقرر أيضًا أن مجالات الإعجاز ليست مقصورةً على هذا الجانب التصويري الإبداعي.. (والقول بأن القرآن معجزة أدبية قبل كل شيء، يجعل القرآنَ كتاب أدب ولغة وبلاغة، في حين أنه كتاب تشريع وتعليم وتنظيم ومن الطبيعي أن يكون، وهو كلام خالق البشر وآدابهم ولغاتهم وبلاغاتهم، معجزًا في أسلوبه وصياغه تراكيبه وتعابيره وفوق كل التعابير والتراكيب)(2).

     .. والقرآن الكريم كلٌّ في إعجازه ليس فيه جزء أبلغ من جُزء، أو أبين.. ومن ثم فإن من يعتبرون أن التعبير بالتصوير المجازي أبلغ من التعبير بالحقائق قد جانبهم الصواب.. إذ ربما ينطبق ذلك على مجالات اللإداع البشري. نثرًا وشعرًا، فكرًا وأدبًا .

     أما القرآن، فلقد بلغ أقصى درجات البلاغة في الأداء التعبيري، سواء جاء ذلك عن طريق التصوير أو جاء عن طريق التعبير بالحقيقة .

     والحقيقة هي ما تدل عليه الألفاظ فيما وُضِعَتْ له من غير خروج إلى مجاز أو تشبيه ..

     والحقيقة تستعمل في القرآن في مواضع كثيرة كالأحكام الشرعية التي تحتاج إلى أن تكون الكلمة ذات دلالة محددة ليتم التعريف بالأحكام كاملاً. كما تأتي في مجال الاستدلال القرآني على وحدانية الله بالنظر في الكون وآيات الله فيه.

     وإن بلاغة الحقائق التي تذكر من غير استعانة بمجاز أو تشبيه لا تقل عن المواضع التي كان فيها.. تشبيه أو مجاز .

     يقول الباقلاني: (إن عجيب نظمه، وبَديع تأليفه لا يتفاوت، ولا يتباين، على ما يتصرف فيه من الوجوه التي يتصرف فيها من قصص، ومواعظ، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها)(3).. فلا مزيةَ للتعبير بالتصوير الفني مادام التعبير بالحقيقة ينهض بأداء المعنى دون نقصان ..

     وعلماءُ البلاغة يرون جمالية المجاز أبلغ من الحقيقة.. في تأدية المعنى؛ ولكن إذا كان التعبير بالحقيقة ينهض بأداء المعنى كاملاً فلا مزية للتعبير بالمجاز أو بالصورة – فالحقيقة تنافس المجاز، ولكلٍّ وسيلته وأداته.

     والقرآن الكريم – وهو المعجزة الخالدة والحجة الدامغة في الفصاحة والبلاغة وجماليات الأداء التصويري – قد حفل بالحقائق وعبر بها في عدد ضخم من الآيات.

     واشتمال القرآن على الحقيقة غير منكور (ولو كان التعبير بالحقيقة أقل بلاغة من التعبير بالمجاز لخلا القرآن كليةً من الحقيقة، وفضل التعبير بالمجاز في جميع المواقف والأحوال، في تشريعه وتعليمه وترغيبه، ولسار على نمط واحد من التخييل والتأويل لكي يترك أثره الذي لايتركه التعبير المجرد الدقيق)(4).

     وفي الحقيقة فإن آيات القرآن تبرز الحقائق في قيمة تأثيرية لاتقل عن بلاغة التصوير المجازي. فالبلاغة قد تقتضي التوضيح والتحديد كما قد تدعو إلى التأكيد أو الوفاء بالمعنى عن طريق الإشارة أو الرمز، ولكل موقف ما يناسبه من الأداء، عن طريق الحقيقة أو التصوير، بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر في نقل المعنى .

     يقول الباقلاني: (وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه على حدٍّ واحد، في حسن النظم وبديع التأليف والوصف، لاتفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العلا. ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا)(5).

     ولنأخذ نموذجًا قرآنيًّا وردت فيه الأحكام مجردةً في أداء تعبيري حقيقي.

     * قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾(6).

     الآيات القرآنية الكريمة تدور حول محور هامٍّ و واضح وهو عرس القيم الأخلاقية في نفوس المسلمين.. وهو محور تربوي يخاطب النفسَ المسلمةَ خطابًا تربويًّا إسلاميًّا يهدف منه إلى تشكيل النفس المسلمة تشكيلاً إيمانيًّا خالصًا ومبرءًا من الشوائب؛ ومن ثم تتدرج الأحكام حتى تصل من الشدة إلى حدِّ الرجم ..

     إن حدّ الزنا حكم شرعيّ، فالجلد للبكر من الرجال أو النساء.. ومعنى البكر هنا مَنْ لم يحصن بالزواج .. ولقد ثبت الجلد بالقرآن. والرجم للمحصن من الرجال أو النساء. ولقد ثبت الرجم بالسنة .

     والآيات تتناول حد الجلد.. وتتشدد في تنفيذه دون هوادة، وتطالب بعدم تعطيل الحد في الجلد أو الترفق فيه، فجريمة الزنا من الشناعة بحيث لا يكون لرحمة مجال فيها. ويجب إقامة الحدّ في مشهد عام تحضره جماعة المؤمنين ليكون أبلغ في الزجر وأوجع في الروع. فإن الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب .

     وتلتفت الآيات إلى موقف تشريعي آخر مرتبط بجريمة الزنا. وهو حكم يرتبط بتكوين الحياة الزوجية عن طريق الزنا. فالزاني لا يحق له الزواج من المؤمنة العفيفة . ذلك أن المشترك الديني والخلقي إن صح التعبير غير متوفر، وهو أساس هامّ في الإسلام لصلاح الأسرة المسلمة. وإنما لايقع الزاني ولايتزوج إلا بزانية مثله أو بمشركة، زيادة في الخسة والدناءة وابتعادًا عن طريق الحق القويم. والزانية لايحق أن يتزوج بها المؤمن العفيف وإنما يتزوجها من يلائم طبعها خسةً ودناءةً وقبحًا.

     فالنفوس الطاهرة تأبى الزواج من النفوس الفاجرة الفاسقة.

     (قال الإمام الفخر: من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية. إن الفاسق الخبيث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله، أو في مشركة. والفاسقة الخبيثة لايرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها. وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين)(7).

     فالآية الكريمة توضح لنا طبيعة المؤمن العفيف فيهي تفيد (نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد. ﴿وحُرِّمَ ذَلك عَلى المُؤْمِنِيْن﴾. وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة)(8).

     والإسلام وهو يحدد هذه العقوبات يحارب الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد، أو لاتهدف إلى غقامة حياة أسرية مشتركة، وهو يدعو إلى أن تقوم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الرقيقة. فالزنا نكسة حيوانية وردة إلى الغرائز المتوحشة، يطيح بكل القيم والثوابت الدينية. فالإسلام ينظم هذه الدوافع الغريزية الفطرية. ويعلو بها على المستوى الحيواني، ومن ثم جاء التشديد في عقوبة الزنا (لدفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس، والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد)(9).

     ومن جماليات الأداء القرآني أن الزانية قُدِّمَتْ على الزاني ثم قدّم الزاني عليها مرةً أخرى.. وهذا التقديم والتأخير يحمل دلالةً لها معنى مصاحب لكل منهما، فالمرأة هي أداة الإغراء ومبعثه؛ ومن ثم جاءت أصل فيه..

     يقول الزمخشري (والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية؛ لأنها لو لم تدمع الرجل، ولم تومض له. ولم تمكنه، لم يطمع ولم يتمكن. فلما كانت أصلاً.. بُدئ بذكرها. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل فيه؛ لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب)(10).

     .. ولقد تضمنت الآيات حدَّ القذف.

     والإسلام لايعتمد العقوبة الرادعة وحدها وسيلةً لحياة أسرية نظيفة قائمة على الخلق الإسلامي بل يعتمد الضمانات الوقائية المساعدة والداعية إلى الطهارة والتطهر.

     فبعد أن حددت الآيات عقوبة الزنا، وجعلت الزناة منبوذين في المجتمع، تطرقت إلى حدّ القذف ووصفت له قوانينه ومواصفاته الشرعية حفاظاً على كرامة الإنسان من أن تهدر بفعل حقد حاقد، أو إشاعة كاذب .

     فالذين يقذفون المحصنات العفيفات المؤمنات بالزنا دون أن يؤيدوا قذفهم بأربعة شهود عدل يشهدون بارتكاب الفاحشة، فالحد الشرعي الواجب على كل منهم أن يجلد ثمانين جلدةً، فهم يستحقون هذا العقاب لكذبهم وخوضهم في أعراض الناس بالبهتان. ولزيادة تحقير هؤلاء أكدت الآية على عدم قبول شهادة هؤلاء؛ لأنهم فاسقون خارجون عن طاعة الله.

     قال ابن كثير: (أوجب تعالى على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدهما أن يجلد ثمانين جلدةً. الثاني: أن تردَّ شهادته أبدًا. الثالث: أن يكون فاسقًا ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس)(11).

     والذين يتوبون ويرجعون إلى الحق ويندمون على ما فعلوا من اقتراف الذنب يُرَدّ إليه اعتبارهم وتقبل شهادتهم .

     ولقد شدد القرآن في عقوبة القذف فجعلها قريبةً من عقوبة الزنا.. فشيوع الاتهام بلا دليل مجلبة للآلام التي تصيب الحرائر والشرفاء معًا. ومدعاةً للوقوع في الإثم. وسببًا في افتقاد الطمأنينة ..

     إن ترك الألسنة تلقى التهم بلا دليل يترك المجال فسيحًا لمن شاء أن يقذف، فتصبح الجماعة وتمسي وأعراضها مجرّحة وسمعتها ملوثة. والشك يمرح في كل بيت ويتغلغل إلى كل نفس؛ ومن ثم جاءت العقوبة بمقدار هذا الهول النفسي الناتج عن جريمة القذف .

     .. أما في قذف الرجل لامرأته فالوضع يختلف ..

     فالرجل قد يقذف امرأته لأمر رابه فيسأل عما شاهده وقد لايكون المواقعة فيرجع عن باقي الشهادات ولايكون هذا قذفًا يستوجب الحد؛ لأن الشهادات لم تتم فإذا أتمها وسكتت المرأة رجمت وإذا حلفت درأت عن نفسها الحدَّ ثم هو قد يكون كاذبًا فاالزوج القاذف يشهد أربع شهادات – تقوم مقام الشهداء الأربعة في حدّ القذف – إنه من الصادقين في اتهامه زوجته بالزنا. ثم يحلف في الخامسة بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في قذفه لها.. ويدفع عن الزوجة أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا، وتحلف في الخامسة بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين في قذفه .

     والآيات الكريمة فيها تيسير على الأزواج يناسب دقة الحالة وحرج الموقف؛ ومن ثم كان التعقيب، بأن ذلك فضل من الله، وبأنه تواب يقبل التوبة بعد مقارفة الذنوب .

     ** هذه الآيات الكريمات التي تناولت حد الزنا ثم حد القذف العام وحد القذف الخاص، وردت خاليةً من التصوير الذي يعتمد على المجاز ورسم الصورة الحسية ومع ذلك فلقد بلغت من البلاغة والبيان وتصوير الحقيقة حدًّا عاليًا من الإعجاز.. فالتآلف بين الألفاظ والمعاني تآلف ثابت ومتواصل. فكل مفردة قرآنية تتناول حكماً، تومئ إلى ما بعدها وتوضح الهدف من المعنى المراد.. وبيان التعليل .

     فمفردة الزاني والزانية.. تؤكد الجرم الأخلاقي في ظل تشريع إسلامي. وتوحي بظلال من التداعي التاريخي المرفوض في الجاهلية حين كان الأمر معروفًا ومسلمًا به – حتى أن المرأة كان يدخل عليها أكثر من رجل – ثم تحدد هي لمن يكون وليدها.. فجاء الإسلام ووضع الحد لهذه الجريمة.. وورود اللفظ بعد مفتتح السورة الدال على الآيات البينات التي وردت بها، دليل على أهمية الفعل وتجريمه ووضع الحد الملائم له.

     .. كما يدل اللفظان كما يقول الزمخشري على الجنسين المنافيين لجنس العفيف والعفيفة مما يوحي بالحفاظ على هذه العفة من أن تدنس أو تختلط معالمها ..

     وجاءت مفردة "الجلد" أمرًا واجب التنفيذ، فالرجل يجلد ليس عليه إلا إزاره.. وكذلك المرأة. ليكون الحد موجعًا.. ويشعر الجلد الحيّ. الذي نعم بلذة الفِسقْ. بحدة الألم وقسوته. فتصبح اللذة مصحوبةً بألم شديد بدني ثم نفسي مما يثير النفور منها عندما يتصور الواقع في الخطأ مرارة العقاب.

     ولأن الجريمة شنعاء تؤدي إلى الفساد وتدعو إلى الحيوانية جاء النهي في الآية مصحوبًا بتنفيذ الأمر "فاجلدوا".. فالنهي يدعو إلى عدم الرأفة.. ويعني النهي في معناه العميق إلى التصلب والتشدد في تنفيذ حدود الله. ثم يعود الأمر مرةً أخرى ليطالب بمشاهدة الجماعة لتنفيذ الحد لما فيه من تشهير بالفاعل، ولما له من ردع وزجر لغيره.. ثم تأتي المفردة القرآنية [حرّم] لبيان تحريم الزواج من الزاني أو الزانية لما يتصف به كل منهما من الفسق والفجور، وبُني الفعل للمجهول لبيان إسناد أمره إلى الله سبحانه، بحيث لا يجب المراجعة فيه بل التصلّب في تنفيذه ..

     * عن عائشة رضي الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة ليس له أن يتزوجها .

     ويتضح لنا الجانب الآخر في تصوير القيم الأخلاقية الداعية إلى حفظ الكرامة ومراعاة العفة والبعد عن التجريح في القول.. وكشف لنا اللفظ القرآني هذا المعنى بلفظين.. هما (يرمون المحصنات)..

     فالمحصنات هن العفيفات. وسميت العفيفة محصنةً؛ لأنها منعت نفسها عن القبح.. ودلالة الاسم تشى بالتحصن المنيع.. ومن حروفه جاء الحصن المكين المانع.. وتصوِّر امرأة قد اتخذت من النبل والعفة والشرف حصنًا لها. تستكن وراءه وتحمي نفسها وشرفها به..

     فكيف ينال الفاجر من هذا الحصن: - لابد أنه، من حقده، ومن نفسه المريضة – يحاول محاولات مستميتةً ليخترق هذا الحصن – حتى يصل إلى قلبه فيدميه .. وكأنما نحن أمام صورة حِصن منيع يحاول أن يصل إليه إنسان بشتى الطرق فحين يعجز عن تسلّقه، أو الدخول فيه، أو الالتفاف حوله. يلجأ إلى رميه بالحجارة أو وسائل أخرى ..

     وكذلك الفاسق الذي يحاول بنفسه المريضة، أن يصل إلى المرأة العفيفة فتتكسر محاولاته، وتطيش سهام إغراءاته ومحاولاته، فلا يبقى له إلا أن يقذفها نكالاً وحقدًا.. إنها صورة تعبيرية بالغة الجمال .

     ومن ثم جاء لفظ "الرمي".. بيانًا لحالة الفاسق الذي يتهم العفيفة، وهي حالة نفسية في المقام الأول.. والتنظيم لابد أن يعالج حالات النفس هذه في مرضها وفسقها؛ ومن ثم جاء القذف بتعبير الرمي لما فيه من كشف لحالة الترصد التي يريدها الرامي.. وحالة الغيظ التي تعتوره .. فيرمي قذفه لعله ينال منها بعدما عجز في الحقيقة ..

     فكأنّ الكلمة المقذوفة في حق العفيفة حجرٌ صلدٌ يَخْدِشُ ويؤذي ويميت.. وهذا في الحقيقة وارد.. ولعلنا نذكر في مجال حديث الإفك كيف كانت حالة السيدة عائشة – حتى كان الموت أحب إليها وذلك من شدة الآلام التي عانتها في هذا الموقف العصيب .

     ولننظر إلى مفردة قرآنية أخرى وهي "يدرأ".. ومعناها.. يدفع.. ولننظر إلى حركة الرمي، ثم إلى حركة الدفع اتقاءً له.. فَنَتَصَوَّرُ صورةً حيةً لامرأة عفيفة، تمتد يداها في حرص بالغ لتتلقّى هذه الرميات وتدفعها عنها حتى لاتُصيبها بأذى أو بمكروه نفسي أو اجتماعي.

     فثمة حركتان متبادلتان حركة الرمي، وحركة الدفع.. وكلتا الحركتين تشيان بنفسية الرامي والمدافع على حدٍّ سواء ..

     ولأن الكلمة / الرمي .. شديدة الوقع؛ ولأنها قد تقذف باستِهتارٍ ولا مبالاة كان العقاب الصارم الذي شرعه القرآن.. حتى يظل اللسان عفيفًا وحتى تظل المحصنة خلف حصن العفة لا يؤذيها حاقد أو فاسق..

     .. إن التآلف بين الألفاظ والمعاني. ومن ملامح إعجاز الأداء التعبيري في القرآن.. (فإذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لايفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر والفصاحة أتم)(12).

     ومن ثم فإن ماورد في الأداء القرآني في مجال التعبير عن الحقائق والأحكام بعد في قمة البلاغة بالرغم من خلوه من المجازات أو الصور البديعة، ذلك؛ لأن التعبير القرآني يميل إلى وضع اللفظ في معناه الحقيقي؛ لأننا في مجال تشريع وتنظيم وبناء مجتمع ديني قائم على الشريعة وأحكامها.

     يقول الباقلاني في هذا المجال: مجال ارتباط الأحكام بالألفاظ البديعة المعبرة، والتي هي إحدى مجالات الإعجاز في ارتباطها بالمعاني.

     (.. إن المعاني التي تضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع)(13).

     ** ونتذكر نموذجًا آخر لبعض آيات الأحكام، التي ترد على الحقيقة مه التأكيد على أن القرآن كتاب الله لا تتفاوت عباراته، فلا فرق في البلاغة بين ما جاء منه حقيقة أو ما جاء عن طريق التصور والمجاز .

     قال تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَـٰـبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(14).

     الآيات القرآنية وردت في سياق المنهج القرآني الداعي إلى تنظيم المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية. وذلك بتطهيره من الفاحشة واستنقاذ المرأة مما كانت ترزح تحته من ظلم وعنت .

     فأول الأحكام التي وردت في الآيات: تحريم الزواج من زوجة الأب، لما فيه من فحش وفساد، فهي تعتبر من جانب كالأمّ، كما أن الأمر يستدعي شعورًا عِدائيًا بين الأزواج. مما يؤدي إلى كراهية الأب، فضلاً عن أن المرأة تصبح إرثًا للولد مما يهبط بمكانتها .

     ومن ثم جاء التشديد على تحريم هذا الفعل الذي كان شائعًا في الجاهلية. إنه أحد الرواسب الجاهلية المقيتة ..

     ثم بينت الآيات المحرمات من النساء..

     فمنهن المحرمات بالنسب كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الآخت.

     ومنهن المحرمات بالرضاعة حيث أنزل الله الرضاعة منزلة النسب. وقد وضحت السنة النبوية الحكم في هذا الموضع في قوله صلى الله عليه وسلم .. (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)..

     ومنهن المحرمات بالمصاهرة، كبنات الزوجات، أو زوجات الأبناء أو الجمع بين الأختين .

     .. إن التحليل والتحريم من شأن الله وحده؛ لأنهما أخص خصائص الألوهية فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله..

     وآيات الأحكام هذه جاءت على الحقيقة، حيث لم يستعمل فيها التصوير أو المجاز.. ومع ذلك فهي غاية في الإبداع والإعجاز، انطلاقًا مما ورد ذكره في الآيات السابقة من تآلف بين اللفظ والمعنى.. وأن.. كل كلمة تومئ إلى الكلمة التي تليها لبيان الحكمة وإيراد التعليل.

     ولقد بدأت الآيات بما كان مترسبًا في الجاهلية من عادات مقيتة كزواج الابن من زوجة الأب.. ولقد بدأت الآيات بها لما لها من خطر وشأن .. فالابتداء بالتحريم هنا دليل على أهمية الفعل وخطورته فضلاً عن قوة التأثير الذي يضمنه. ومن ثم جاء وصف الفعل بصفات قاسية.. حيث وصفته الآيات بأنه (فاحشة ومقت).

     أما أنه فحش فهو ينافي الطبائع السليمة والأخلاق الكريمة ..

     وأما أنه مقت فلأنه ممقوت عند الناس؛ ولذلك كان العرب يسمونه (نكاح المقت). ذلك أن الجاهلية كانت تكرهه.

     والمقت هو البغض الشديد لمن تعاطي القبيح.

     لقد تآلفت الألفاظ مع المعنى المراد وبينت هول الفعل وحرمته كلية – واستنقذت المرأة من ظلم وقع عليها طويلاً، وأعادت لها كرامتها، كما حفظت للأسرة تماسكها ونظامها ..

     وقد وردت الأحكام في تناسق تام وارتباط حميم.. بحيث يدعو الحكم ما وراءه في تسلسل منتظم ..

     (وكان من مقتضى التناسق المعنوي أن تذكر بعد صلات النسب الصلات السببية وهي المصاهرة، فابتدأ بأمهات الزوجات، ثم اتجه الذهن.. إلى الربائب؛ لأنه إذا ذكرت الأم تطلعت النفس إلى ذكر حكم البنت.. ثم ذكر حكمة التحريم وهو أنهن في حجره وكبناته.. ولما يستدعيه قانون تداعى المعاني أن تذكر زوجات الأبناء.. وهكذا نرى أن المعاني كل واحدة تدعوها السابقة فتلاحقها في اتساق ونسق جامع)(15). ولقد وردت الآيات في سياق متكامل، ونغم متآلف، وصورة عامة تتمثل في رسم صورة عامة لأسرةٍ مسلمةٍ متكاملةٍ، فيها التراحم، والتواصل والمحبة.. وما التشديد في التحريم ومجالاته إلا لإبقاء هذا التراحم موصولاً في الأسرة جيلاً بعد جيل..

     إن ما اختص به القرآن من تقابل بين الحقائق في البيان وتوافقه في العبارات من غير منافرة أو مفاضلة متحقق وثابت، كما أن العبارات اختصف بكمال الإشراق ونوره..

     إن جمال التعبير يشرق دائمًا، وحلاوة النغم تنساب في النفوس، كما تنطلق الاحكام إلى العقل والقلب معًا، محملة بالعظة والعبرة والتوجيه إلى العدل والرحمة في بناء النفوس وإقامة أواصر الأسرة على أساس متين.

     .. ولعلنا نلاحظ الإيجاز الكامل في قوله تعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾.. وجاء التحريم إطلاقًا؛ ولكن العبارة تحتوي على مجاز مرسل.. من أهدافه الإيجاز الذي يصاغ المعنى فيه بإرادة شيء محذوف يدل عليه السياق.. فالمراد هنا هو نكاح الأمهات.. مما يعني قطعية الدلالة ..

     كما أن الأداء التعبيري لجأ إلى الصورة البيانية الجزئية.. في قوله تعالى ﴿واللاَّئِيْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾.. إذ إن المراد هو الجماع والوطء؛ ولكن الأداء القرآني استخدم كلمة "دَخَلْتُمْ" تعني الستر الذي يستر المرأة مع زوجها.. وفيه غيماء بما يمكن أن يحدث بين الزوج وزوجته ..

     ولقد جاءت المفردة القرآنية في مجال لايخدش الحياء ولايثير الغريزة فضلاً عن الإيفاء بالمعنى المراد.. مما يجعل للمفردة القرآنية اتساقًا خاصًا يتلاءم مع المعنى المراد.. ويتآلف معه .

     وكذلك قوله تعالى ﴿وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِيْ فِي حُجُوْرِكُمْ﴾..

     فالربائب: جمع ربيبة: وهي بنت المرأة التي تتربّىٰ في كنف زوج الأم.. والكلمة تحمل معاني كثيرةً، منها التربية، والملازمة، ومداومة العشرة.. وتواصل الألفة مما يعني نفورًا تامًا، وبغضًا أكيدًا.. وتقطعًا للمودة لو حدث النكاح من الربيبة؛ لأنها في هذه الحالة تشبه الإبنة في مكانتها.. وتردف مفردة "حُجُوْرِكُمْ" هذا المعنى.. معنى البنوة القائمة على مداومة التربية والعشرة.. مما يستدعى أن تعلو المشاعر النبيلة فوق المشاعر الغليظة .. يقول الزمخشري في تحليله للدلالة المصاحبة لمفردة حُجُوْرِكُمْ (فائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن في حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن، وتمكَّن بدخولكم حكم الزواج وثبتت الخلطة والألفة وجعل الله بينكم المودة والرحمة، وكانت الحال خليقةً بأن تجروا أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم)(16).

     .. إن الأحكام التشريعية وجه من وجوه الإعجاز في القرآن، بسموّه فوق كل تشريع، وبآدائه التعبيري المتآلف والمتناغم والواضح الدلالة..

     (فالقرآن قد أعجز ولايزال بمعانيه قبل ألفاظه، معانيه التي هي مناسبة لفطرة الناس فيما حدثهم به من عقيدة سهلة، وشريعة سمحاء، وفيما استوفته من حقائق الوجود ورب الوجود)(17).

     قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِيْ الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾.

*  *  *

الهوامش :

سورة الإسراء الآية 88.

القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته ج 4 ص 77.

اعجاز القرآن. الباقلاني: تحقيق السيد صقر ص 36.

القرآن والصورة البيانية ص 125.

إعجاز القرآن ص 37 الباقلاني .

سورة النور الآيات 2-10 .

صفوة التفاسير ج 3 ص 326.

الظلال ج 4 ص 2488.

الظلال ج 4 ص 3489.

الكشاف ج 3 ص 62.

مختصر ابن كثير ج 2 ص 583.

إعجاز القرآن ص 42.

نفسه ص 42.

سورة النساء الآيات 22-25.

القرآن المعجزة الكبرى ص 237.

الكشاف ج 1 ص 261.

القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته ج 4 ص 77، 78.

 

 

ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس - مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34