دراسات إسلامية

صلح الحديبية وفتح مكة من أقوى الأدلة على الطبيعة الأخلاقية لحروب الإسلام

 

بقلم : الكاتب الإسلامي الكبير سعادة الأستاذ الدكتور

عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية

رئيس تحرير مجلة "التبيان" / جمهورية مصر العربية

 

كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وعد المسلمين بأن قريشاً لن تغزوهم في المدينة بعد غزوة الخندق سنة (5هـ) ...

     وقد كانت مشاعر المسلمين – لا سيما المهاجرين – قد تأججت تهفو لزيارة مكة البلد الحرام؛ وسيما جماعة المهاجرين الذين طالت غربتهم واشتد حنينهم إلى بلدهم ومراتع صباهم...

     – إنهم يعيشون منذ ست سنوات على هذا الأمل ، وبعضهم ربما نزح من الحبشة إلى المدينة مباشرةً ، دون أن يرى بلده مكة ، فطالت غيبته أكثر ... ولهذا كان الرسول يزرع فيهم الأمل ويعدهم بفرج قريب ، بعد أن استنفدت قريش كل طاقتها ... وخابت كل جهودها ... وضاعت كل أحلامها ... وانتصرت القلة المؤمنة المظلومة ...

     يروي ابن إسحاق أنه في السنة السادسة للهجرة وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعمرة ....

     ولهذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة من أصحابه إلى مكة ليس معهم إلا السيوف في القِرب...

     – وقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ، وهي مكان يبعد عن مكة ما بين50 و60 كم تقريباً.

     – وقد عمد الرسول إلى اتخاذ كل السبل ليقنع أهل مكة بأنه جاء معتمراً ، ولم يأت محارباً، ومع ذلك فقد رفضوا تركه ومن معه من المسلمين يعتمرون ، ويدخلون المسجد الحرام .. ومع ذلك حافظ الرسول على الصبر ، والأخذ بأسباب السلام ما أمكن ..

     لقد اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوقف في الحديبية وأمر أصحابه بالتوقف ، على الرغم من إيمانه بنفسه وشجاعة أصحابه ، كان يعلم أنه لو التجأ إلى الله تعالى وتوكل عليه وقاتلهم فسيغلبهم، غير أنه لم يفعل ذلك وفضّل الانتظار ، وعندما وصل المنع والعرقلة مرحلة معينة تبايع مع أصحابه ... تبايع على القتال حتى الموت في سبيل الإسلام ... هذه البيعة التي باركها الله تعالى من فوق سبع سموات : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثـَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾(1).

     والحقيقة أن قريشاً التي كانت تظهر أنها تملك الكعبة اضطرت إلى قبول الأمر الواقع في معاهدة الصلح التي وقّعت عليها كما وقّع عليها الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قالت للرسول صلى الله عليه وسلم : (وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا الكعبة ، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب ، السيوف في القِرَب لا تدخلها بغيرها ، ومعنى هذا أن المسلمين شركاء في الكعبة أيضاً ، وأن لهم ديناً حنيفاً على ملّة إبراهيم ، بينما كان المفهوم السائد حتى آنذاك أن مكة والكعبة ملك للمشركين لا سيما لقريش ، وأقنعوا الجميع بهذا ، وكان على الجميع الانقياد إلى الشعائر التي وضعها المشركون، وما كان لأحد أن يضع شعائر خاصة ومختلفةً ، بينما كان من ضمن شروط معاهدة الحديبية حرية المسلمين في أداء الحج والطواف حول الكعبة بشعائرهم الخاصة بهم(2).

     – وبعد مفاوضات ظهرت فيها إساءات من رسل قريش ، وآخرهم سهيل بن عمرو، وغضب لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتغاضى عنها الرسول إيثاراً للسلام على الحرب ، وقعت اتفاقية الهدنة والسلام لمدة عشر سنوات بين الطرفين ..

     وسرعان ما تبين للمسلمين أن إيثار الرسول للسلام كان خيراً وبركةً وفتحاً مبيناً .

     – لقد كان المفاوض من قِبل قريش (سهيل بن عمرو) يَعُدّ كل تنازل يقتطعه من المسلمين نصراً كبيراً له ، لذا فإنه كان يعترض حتى على أصغر المسائل ، فمثلاً عندما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم علياً ليكتب معاهدة الصلح مع قريش ، قال له : اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل : (اكتب باسمك اللهم) فكتبها، ثم قال اكتب : (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو)، فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله تعالى عنه أن يمحو كلمة (رسول الله) التي كان قد كتبها ، وتردّد عليّ رضي الله تعالى عنه ، إذ صعب عليه محو كلمة (رسول الله) فقام النبي صلى الله عليه وسلم بمحو تلك الكلمة بنفسه بعد أن دلـّه على مكانها عليّ ، وقال : "اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرده عليه.

     – وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرط الجائر لحكمة رآها على الرغم من تبرم بعض الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .

*  *  *

     – وهكذا يرينا صلح الحديبية – بملابساته وشروطه – المدى الذي وصل إليه إلحاح الرسول على طلب السلام ؛ لأن ظروف الأمن والسلام هي المناخ الملائم لدعوة الإسلام التي يراد لها الدخول إلى القلوب والعقول ، ومن البديهي أن مناخ الحروب والقتال لا مكان فيه لتفتح العقول والقلوب على الحق ... ولا على الحوار الإيجابي ... وكما أثبت التاريخ ، فقد كان هذا الصلح – على ما فيه من إجحاف – فتحاً مبيناً ... وفيه نزل قوله تعالى : ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾(3) .

*  *  *

     أما فتح مكة في الثالث والعشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، فهو الآية العظمى على مدى الأخلاقية النبوية الإنسانية التي التزم بها الرسول مقدماً أرفع نموذج للتسامح والتواضع والسموّ عرفته البشرية عبر تاريخها ...

     إننا لا يعيننا هنا رصد تطور الأحداث بعد الحديبية ، فموضع ذلك هو الدرس التاريخي وكتب الحديث والسيرة ، لكن الذي يعنينا هنا هو الوقوف عند الخلق الحربي الذي طبَّقه النبيَّ (الفاتح لبلده مكة) ، مع التذكير – في البداية – بكل ما عاناه الرسول من أهل مكة خلال أكثر من عشرين عاماً ، منها ثلاثة عشر أمضاها وصحابتُه تحت مطرقة التعذيب والأذى والتشرد في الأرض بحثاً عن ملجأ آمن ... وعندما هاجر لوحق ورصدت الأموال الطائلة لمن يغتاله ، بعد أن فشلت مؤامرة قتله في داخل مكة ... ثم – أخيراً – الأعوام الثمانية التي قضاها الرسول في مكة ، وهم يلاحقونه ويتربصون بكل أصحابه ، ولا تمرّ الأيام أو الأسابيع إلا وهم متآمرون عليه مع اليهود أو المنافقين ، أو مُوعِزُون لبعض القبائل بترويعه في المدينة والسطو على مسارح المسلمين التي تسرح فيها دوابهم ، أو مقاتلون له مباشرةً طوراً ثالثاً ...

     – وهاهي السنوات الطوال قد مضت ، وهاهو أنبل الناس وأزكى الناس (الذي حُوْرِبَ واضْطُهِدَ) يعود فاتحاً لبلده ..

     – أجل : بلده مكة التي أُخْرِجَ منها وهو يذرف الدمع ويقول : والله إنك لأحب بلاد الله إليّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتْ.

     – إنها ذكريات أليمة كل الألم ... بشعة كل البشاعة .... وإن أفضل الناس في مواجهتها هو الذي يلتزم (العدل) – على الأكثر – فيقتص لنفسه ولأصحابه ، ويستردّ ما اغتصب منه ومنهم، وهو كثير، ويطلب التعويض الكافي عن الاغتراب والملاحقة طيلة هذه المدة الطويلة ...

     – ولعلَّ أقلّ ما يقبل ويغتفر لهذا الفاضل أن يدخل بلده شامخاً رافعاً رأسه معتزاً بمجده الذي وصل إليه ، وبحقه الذي انتزعه...

     – لكن الرسول الأخلاقي الذي وصفه ربه بالخلق العظيم ﴿وإنك لعلى خلقٍ عظيم﴾.. لم يكن مثل أفضل الناس؛ بل إنه – لولا بشريته التي نؤمن بها، وعبوديته التي كان يعدّها وسامه الأرفع – لولا البشرية والعبودية – لقلنا : إنه لم يكن من الناس ، وهو يدخل مكة ... لقد كان ملاكاً طاهراً ارتفع عن أكبر مدى تستطيع أن ترنو إليه البشرية أو أن تطمح في الوصول إليه...

     ونظر إلى آلاف الوجوه التي فعلت به الأفاعيل طيلة عقدين من الزمان ، بعد أن دخل مكة من أعلاها ، من كداء ، وهو يضع رأسه ـ وهو راكب ـ على دابته ، تكاد تلامس رأسه ظهر الدابة تخشعاً وخضوعاً لله ، وإقراراً بأنه صاحب الفضل في تدويل الأيام ، وفي إعزاز الأذلاء، ولقد كانت رأسه تلمس واسطة الرحل من شدّة الانحناء وهو ـ مع ذلك ـ مشغول عن نفسه ، وعن أية نظرات ترقبه وهو داخل دخول النبي المنتصر ، وليس دخول (الملك) كما قال أبو سفيان للعباس : لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك عظيماً .. فصحَّح له العباس ، وقال له : إنها النبوّة .. إنه مشغول عن الناس بقراءة سورة الفتح، بينما يخفق قلبه بأروع المشاعر ؛ لأنه في طريقه إلى المسجد الحرام والكعبة، وقد فعل ما أراد ... واستلم الحجر الأسود ، طاف بالبيت ، ولم يكن محرماً (البخاري : كتاب المغازي) ... ثم جعل يطعن الأصنام حول الكعبة وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقا ...﴾، ثم دخل إلى جوف الكعبة ، فأزال آثار الوثنية في داخلها كما أزالها من خارجها ، ثم دار في البيت يُوحِّد الله ويكبرِّه ...

     – وكل ذلك ، وهم ينظرون إليه .. إنهم في وادٍ بعيد عنه ، إنه في الآخرة ، في الملأ الأعلى، أما هم فيفكرون – هلعين – فيما ينتظرهم ... متذكرين ماضيهم الأسود معه ...

     – ونظر إليهم ... وهم ينتظرون القضائي العادل ؛ لكنهم – مع ذلك – كانوا يعرفون أن محمداً هو محمد رسول الرحمة ... إنه لن يعاملهم بالعدل .. فلو عاملهم بالعدل لانتهى كل شيء.. ثم فاجأهم النبيّ الأعظم بالسؤال :

     يا معشر قريش : ما تظنون أني فاعل بكم؟ وكأنما كان السؤال نفسه طوق نجاة لهم ... فسرعان ما أجابوه قائلين : خيراً ... أخ كريم ، وابن أخ كريم ...قال : فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته (لاَ تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ) اذهبوا فأنتمُ الطُّلَقَاْءُ لوجه الله تعالى ... ‍‍!!

     – لقد ولدوا من جديد ، ودبّت في أوصالهم الحياة ، وما كانوا يتخيلون أن ينقذوا ـ هكذا ـ في دقيقة واحدة ، وبعبارة واحدة ، (اذهبوا ... فأنتم الطلقاء) ، لكنه سمو محمد في حربه ، سموه في عفوه ، سموه في إكرام من ظلموه ...  وفي تأليف قلوبهم ... فإن أكبر ما يهمه ـ كنبي أعظم ـ أن يدخل إلى قلوبهم .. إنه لا يريد الطاعة ـ كملك ـ وإنما يريد الطاعة مع الحبّ ـ كنبيّ بعثه الله رحمةً للعالمين .. وقد تحقق له ما أراد !!

     ثم تتوالى آيات عظمته ، فيرفض أخذ مفاتيح الكعبة من عثمان بن أبي طلحة ويعطيها للعباس أو لعليّ (بعض بني هاشم قومه)، وقال : اليوم يوم برّ ووفاء ... فالنبي الأعظم لا يعرف الانتقام.

     – وعندما كانت الجيوش الإسلامية تزحف على مكة في ظل أوامر صارمة بعدم إراقة الدماء إلا في الدفاع عن النفس .. أخطأ أحد القادة ، وهو الرجل العظيم سعد بن عبادة .. قال : اليوم يوم الملحمة ... اليوم يذلَّ الله قريشاً ... فانتزعت منه الراية بأمر الرسول وأعطيت لابنه قيس وصحح الرسول العبارة حتى لا تذهب إلى الناس وتروّعهم .. قائلاً : اليوم يوم المرحمة... اليوم يعزّ الله قريشاً ... وقد صدق .. فلولاه ولولا دخول مكة في الإسلام لما كانت لمكة قيمة ، ولما كان لقريش قيمة أبداً !!

*  *  *

     – أمر آخر لا يجوز أن يهمل ، وهو عفوه صلى الله عليه وسلم عن جريمة لا تغتفرها كل القوانين الدولية ، وهي خيانة عظمة بكل المقاييس ؛ لكنها ـ للأسف ـ سقطة رجل عظيم له ماض عظيم في الدفاع عن الرسول في أحد ـ وأيضاً في حمله بشهامة رسالة الرسول إلى (المقوقس عظيم القبط في مصر سنة 6هـ)(4) ... لقد أرسل حاطب برسالة مع امرأة يخبر فيها أهل مكة بقدوم الرسول إليها... وقد أخبر الوحي الرسول ، فأمر عليّ بن أبي طالب ، والمقداد بن عمرو والزبير ابن العوام (رضي الله عنهم) بالانطلاق إلى المرأة المستأجرة لحمل الرسالة في موضع يقال له (روضة خاخ) في الطريق إلى مكة ... فأمسكوا بها في المكان الذي حدده الرسول وعادوا بها... فسأل الرسول حاطباً عن فعلته الشنعاء هذه ، فاعتذر عنها بعذر قبله الرسول ـ عليه السلام ـ  مع أنه لا يقبل في كل الأعراف الدولية ـ وقال لعمر بن  الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما رمى حاطباً بالنفاق واستأذن في قتله : (وما يدريك ـ يا عمر ـ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم)...

     وما نظن أن أية خدمات يقدمها الإنسان لوطنه تشفع له في الأمر الحربي الذي يصل إلى الخيانة العظمى ، فيخرج منه بعفو كامل ؛ لكن مقاييس الدين – لاسيما الإسلام – غير مقاييس القوانين الوضعية ، فكيف إذا كان المطبق لهذه المقاييس إمام المتقين ، رحمة الله للعالمين ، الإنسان الأعلى في تسامحه وعفوه ونبله وإنسانيته في الحرب والسلم على السواء.

*  *  *

بيان الملكية

 

اسم المطبوعـة     :    الـداعـي

الدورة النشرية     :    شهريـة

الطابع والناشر      :    ( مولانا ) مرغـوب الرحمن

الجنسيـــة      :    هنــدي

العنـــوان      :    دارالعلوم ، ديوبند ، يوبي

رئيس التحرير      :    نور عالم خليل الأميني

مالك المطبوعة      :    دارالعلوم ديوبند

أصادق على أن التفاصيل المـذكـورة أعلاه صحيحـة

حسب علمي واطلاعي        ( توقيع )

                       (مولانا ) مرغوب الرحمن

 

 

ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس - مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34

 



(1)  سورة الفتح ، آية 18، 19.

(2) فتح الله كولن : الرسول قائداً (التنظير والتطبيق) ، ص : 142ـ 144.

(3) سورة الفتح ، آية : 1.

(4) ابن سعد : الطبقات الكبرى 1/260، دار صادر بيروت ، وابن حجر العسقلاني ، الإصابة 1/520، دار الجيل بيروت 1992.