دراسات إسلامية

أدب الإسلام وعلم الاتصال

 

بقلم : د.  حسن رجب

 

إذا كان سريان المعلومات بين الناس، وطرق التأثير عليهم قد شغلت الفلاسفة منذ أقدم العصور، فإن علم الاتصال الحديث لم يتطور وتتسع آفاقه إلا في عصر ما بعد التصنيع، عصر ثورة المعلومات .

     ولا غرابة في ذٰك؛ فإن واحدًا من أهم الأسس النطـريـة التي يقـوم عليها علم الاتصال المعـاصر هو النظرية الرياضية للمعلومات: "Mathematical Theory of Information" والمنبثقة عن علم "السبرناطيقا" (أو السيبرنية). وهي في الوقت نفسه الأساس الذي قامت عليه التكنولوجيا الحديثة بسفنها التي تسبح في الفضاء الكوني، وتنتقل بين الأجرام السماوية، وببدائلها الآلية للعمالة الإنسانية، والمسماة بـ"الروبوت" أو (الإنسان الآلي) أو الآلات الذكية.

     والاتصال – طبقًا لهذه النظرية – معلومات (أو أوامر) نبثّها إلى البيئة بهدف التأثير فيها، والسيطرة عليها. وأهم عناصر بيئة الإنسان هو الإنسان نفسه، فكرًا وسلوكاً.. لذلك حظي هذا العلم بالاهتمام بشكل متزايد، وتضافرت جهود العلماء من مختلف الفروع والتخصصات للإضافة إليه وإثرائه. وهكذا اتسع هذا العلم ليضمّ – إلى جانب الاتصال الجماهيري والاتصال الجمعي والفردي – عمليات الاتصال داخل الكائن ذته! وكان من الطبيعي أيضًا في ظل هذا التطور والتشعب أن تتسع آفاق البحث، فلا يقتصر على اللغة باعتبارها القناة الرئيســة للاتصال الإنساني .

     وهكذا، بدأ مع خمسينيات هذا القرن، الاهتمام بفرع جديد من فروع الاتصال الإنساني، هو الاتصال غير اللفظي، ويعود الفضل في إثرائه خاصةً إلى علماء علم الأجناس (الأنثروبولوجيا) والباحثين في علم النفس وعلم النفس العلاجي.

     وإذا كان الاتصال اللفظي يؤدّي دورًا هامًا في مواقف اجتماعية متعددة؛ فإن نمط الاتصال غير اللفظي يؤدي هو الآخر دورًا هامًا، سواء أكان مصاحبًا ومكملاً للنمط الأول، أو مستقلاً.

     ويقسم "دنكان"(1) أنماط هذا الاتصال إلى:

     1 – حركة الجسم .

     2 – ماوراء اللغة .

     3 – البعد والقرب (المسافة الفيزيقية).

     4 – الإفرازات (وبالذات الروائح).

     5 – حساسية الجسم للمس .

     6 – الأدوات (الإكسسوارات) مثل الملابس والأصباغ ومساحيق التجميل إلخ.

     ويشرح "تراجر"(2) خصائص الصوت بأنها: التلاعب باللغة والأصوات الأخرى، ويدخل ضمنها طبقة الصوت ورنينه، والسيطرة على المخارج، والسيطرة على الشفتين .

     ولايتسع المجال هنا لشرح الجهود التي بذلها العلماء من أجل تنميط أشكال الاتصال غير اللفظي وتعميمها وتحقيقها تجريبيًا، وماتوصلوا إليه من اختلاف أكثر هذه الأنماط طبقًا لاختلاف المجتمعات .

     وهو يناقض كلية ماتضمّنَه كتاب "داروين": (التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان) الصادر عام 1872م، والذي أسّسه على أن التعبيرات البدنية كلها متماثلة وعالمية؛ لأنها تنتقل عبر "الجينات" الوراثية(3).

     ما يهمُّنا هو استخلاص ظاهرتين أساسيتين:

     الأولى: أن الاتصال غير اللفظي عامل هامّ في تفسير الرسالة اللفظية، إذا كان مصاحبًا لها.

     الثانية: أنه إذا تناقض مضمون الرسالة اللفظية مع مضمون الرسالة غير اللفظية المصاحبة، فإن المستَقْبِل يميل إلى تصديق الرسالة غير اللفظية(4).

     وأقول مخلصًا: إن هذه الدراسات الرائدة قد شدَّتْ اهتمامي واستهوتني بما تقدمه من رؤية متعمقة للاتصال الإنساني، ثم طرأت على ذهني بعض آيات القرآن الكريم، فعدت إليها أعيد قراءتَها مبهورًا بما احتوت من حكمة خالدة، يعود العلماء الآن، وبعد إعلانها على البشر منذ أربعة عشر قرنًا، ليستخلصوا بعض ماورد بها! وسأحاول في السطور التالية، وبإيجاز شديد، استعراض بعض هذه الآيات وتفسيرها على ضوء ما توصلت إليه هذه الدراسات الحديثة .

     * في سورة الأحزاب: الآية (32) يقول الحق تبارك وتعالى مخاطبًا نساء النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا﴾ .

     والخضوع بالقول، كما جاء في لسان العرب لابن منظور (باب العين) هو الانقياد والمطاوعة. والخَضَعُ هو: تطامن في العنق، ودنو الرأس إلى الأرض. والخضوع هنا هو بمعنى إمالة الكلام وإلانته، وهو تعبير مباشر عن نمط الاتصال غير اللفظي، والذي يستخدم خصائص ماوراء اللغة "Paralanguage". والنهي عن تلوين الكلام مرتبط بفعالية وتأثير هذه الرسالة غير اللفظية، حتى ولو تناقضت مع ظاهر الكلام، بما تثير من توقعات وآمال عند الفسقة ذوي القلوب المريضة، ويتبع ذلك مباشرةً:

     (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا). أي: رسالة يتطابق النمط اللفطي مع غير اللفظي.

     * في السورة نفسها: الآية (59) يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَـٰـتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنـٰـى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.

     يقول مجاهد في تفسيره: بتجلَّببن حتى يُعلم أنهن حرائر، لايعرض لهن فاسق بأذىً من قول أوريبة .

     والآية الكريمة صريحة هنا في تأكيد أهمية الملابس باعتبارها نمطاً من أنماط الاتصال غير اللفظي؛ وبذلك يكتسب الحجاب الإسلامي أهميةً مزدوجةً: باعتباره ساترًا لعورة المرأة من ناحية، وكونه أيضًا رسالةً معلنةً صريحةً (إلى من يهمه الأمر)، كفيلة بردِّ الأذى من قول أو فكر.

     والإسلام لايخاطب المرأة وحدها في هذا المجال، وإنما يخاطب الرجال أيضًا.. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة": (رواه أحمد وأبوداؤد والنسائي وابن ماجه).. وثوب الشهرة هنا: تعبير صريح عن رسالة يبعث بها صاحب الثوب إلى الناس مُتضمنةً معاني الترفع على خلق الله واحتقارهم لغنى أو جاه. وهو ما يتناقض مع السلوك الإسلامي الذي يدعو إلى التواضع والبعد عن استفزاز الناس .

     وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرَّة من كبْر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس". وغمط الناس: احتقارهم (أخرجه مسلم في كتاب الصلاة: 1/328).

     كما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جَرَّ ثوبَهُ خيلاء".

     ولايقتصر أدب السلوك الإسلامي على الملابس وحدها من بين الأدوات المستخدمة في الاتصال غير اللفظي؛ بل ويتبعها أيضًا بأدوات الزينة، حتى الخفية التي يُسمع وقعها ولاتُرى، فيقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ (النور:31)؛ لأن أصوات الخلاخيل تحمل أيضًا رسالةً تترجم في الإطار المرجعي للمستقبل إلى صور جنسية.

     * كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تطيب المرأة لغير محارمها، حتى ولو كانت خارجةً للصلاة بالمسجد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة أصابت بخورًا فلاتشهد معنا العشاء الآخرة" (أخرجه مسلم في كتاب الصلاة: 1/328) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت فمرَّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية" (تهذيب التهذيب:8/328) فالروائح أيضًا واحدة من الوسائل الهامة للاتصال غير الفظي، وتحمل كثيرًا من الرموز الاتصالية، مثل: البخور في عديد من المجتمعات، وحتى في بعض طقوس السحر البدائية. وقد احتفظت العطور إلى يومنا هذا بأهميتها كوسيلة اتصال، وأضاف إليها صانعوها ومروِّجوها في الغرب رموزًا جديدةً تؤكد الرموز القديمة وتبرزها، فسموا بعض هذه العطور بأسماء موحية: أفيون "opium" ، سم "poison"، نزوة "caprice"، نشوة "ecstasy"، أنوثة.. وغير ذلك.

     * في سورة لقمان: الآيتان (18و 19) يقول لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾.

     وتصعير الخد، وهو إمالته تكبرًا، ويعتبر الوجه من أهم وسائل الاتصال غير اللفظي: كما أن حركة الجسم وزاوية ميله تدخل ضمن بحوث الدراسات المتعلقة بالإحساس بالحركة "kinesthetic" .

     من هذا أيضًا: طريقة الحركة، سواء كانت سريعةً أم بطيئةً ، وما يرتبط بها من علاقات الفراغ الفيزيقي ، وهو ما يسميه العلماء "proxemics" ؛ لذلك جاءت النصيحة: (وأقصد في مشيك).

     ومن هذا القبيل أيضًا: ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى﴾ (الأحزاب:33) وهو ما فسره قتادة بأنه: "مشية فيها تكسر وتغنج"(5).

     فالملابس وحدها لاتكفي، حتى ولو كانت محتشمةً؛ فرسائل الاتصال متكاملة، وما قد تبعثه الملابس من رسائل قد تكذبها مشية متكسرة متغنجة.

     وهكذا يرشدنا الإسلام إلى قواعد السلوك القويم، واضعًا في اعتباره طبائع الإنسان وأنماط اتصاله الظاهرة والباطنة.

     هذه الأنماط التي يجيء العلم الحديث بعد ألف وأربعمائة سنة "ليكتشفها" ويؤكِّد على أهميتها، وهو يؤكِّد بذلك معجزة القرآن المتجددة أبد الدهر.

*  *  *

الهوامش:

(1)  Duncan, S. D. Junior, Nonverbal Communication, Psychological Bulletin 72: 118-137 (1969).

(2)  Trager, G.L. Paralanguage, first approximation. Studies in Linguistics 13: 1-12 (1958).

(3)  Sutherland, E. Face Values, London 1978: 69.

(4)  Lin, Nan, The Study of Human Communication N.Y. 1973: 37-80.

(5)  أحكام النساء لابن الجوزي – ص: 228 – منشورات المكتبة العصرية – صيدا .

 

 

ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس - مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34