دراسات إسلامية

 

التاريخ والعواطف الهوجاء

 

                                                                   بقلم :      الشاعر والكاتب الإسلامي الأستاذ

                                                                                                              عبد الرحمن صالح العشماوي/ المملكة العربية السعودية

 

ما تزال مشكلة التوثيق في أخبار التاريخ الإسلامي قائمة، وما يزال ميل كثير من الناس إلى تناقل روايات تاريخية كثيرة – مكذوبة أو غير ثابتة أو مشكوك فيها – سائدًا في عصرنا هذا كما كان سائدًا في العصور السابقة، والسبب في ذلك أن نفوس معظم الناس تميل إلى الأخبار المثيرة التي تحرِّك العواطف، وتحمل من العجائب والغرائب ما يحقّق جانبًا من الإمتاع. وهذه العواطف الهوجاء يناسبها أسلوب الإثارة والتضخيم الذي يجني على الحقائق التاريخية، ويساعد على تكوين أجواء قاتمة من العداوة والخلاف بين المسلمين.

     قال لي صاحبي: لا أكتمك أنني أكره يزيد بن معاوية كراهية شديدة لسبب واحد ألا وهو: أمره القائد الأموي الحصين بن نمير السكونيّ برمي المنجنيق على الكعبة وإحراقها بالنار. قلت له: هل لديك استعداد أن نتأمَّل هذه الحادثة بهدوء ودراية ما دمت قد أشرت إليها، حتى نتعرَّف على الحقيقة التاريخية.

     قال: هل تريد أن تدافع عن يزيد؟ قلت له: كلاَّ، فيزيد بن معاوية قد واجه ربه سبحانه وتعالى بما قدَّم ولن يضره كرهك له، ولن ينفعه حبُّ مَنْ يحبُّه، وإنما يضره وينفعه ما قدم من عمل، ولكنني أريد أن نخرج من دائرة العواطف الهوجاء فيما يتعلق بتاريخنا الإسلامي، وأن كون طالبين للحق، حريصين على الحقيقة، بعيدين عن تهييج عامة المثقفين، وعوام الناس، فإذا كنت حريصًا على هذا فتعال بنا نتأمَّل الموضوع. قال: نعم.

     تناولت كتابًا صغير الحجم بعنوان (إباحة المدينة وحريق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية بين المصادر القديمة والحديثة) للدكتور حمد محمد العرينان، وهو كتابٌ قائمٌ على التحقيق والتوثيق والتتبُّع الهادئ لما ورد في مصادر التاريخ الإسلامي حول الحادثتين بدقةٍ وتمحيص وقد صدر في الكويت عن مكتبة ابن تيمية.

     وفتحت على عنوان (حريق الكعبة في عهد يزيد) وقرأت مع صاحبي سطورًا قدّم بها المؤلف لهذا الموضوع جاء فيها: (الحادثة التي سنطرحها على بساط البحث هي حريق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية، واتهام الجيش الأموي المحاصر لابن الزبير آنذاك بهذا العمل، وهي الحالة الثانية في عهد يزيد التي أشعر أن بعض المؤرخين ظلموا فيها الحقيقة). ورأيت صاحبي يتململ معبرًا عن تضايقه من هذا الهدوء في الطرح، وقلت له: ما لي أراك قلقًا؟ قال: وفي ذهنه الصورة القاتمة التي رسخت منذ زمن – أخشى أن يكون مؤلِّف الكتاب متعصِّبًا ليزيد. قلت له: لو كان متعصبًا لاكتفى بنقل الروايات التاريخية القويَّة التي تؤكد أن حريق الكعبة هذا كان بسبب شرارة طارت بها الريح – وكانت الريح عاصفًا – من قبس مشبوبة عند إحدى خيام رجال عبد الله بن زبير فضربت أستار الكعبة ما بين الركن اليماني والأسود، وكان عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – ورجاله قد استعاذوا بالمسجد الحرام ونصبوا خيامهم حوله حين حاصرهم أهل الشام، ولكنَّ المؤلِّف أورد في كتابه هذا جميع الروايات التأريخية وتابع أسانيدها، ووضعها الحقيقة التأريخية بعيدًا عن التعصّب الأعمى، أو العاطفة المتأججة.

     قال صاحبي: هيًّا نقرًا ما كتب في هذا الموضوع، قلت له: حُبًّا وكرامة.

     وقرأنا مبتدئين بقول المؤلف: (سوف نناقش الآن الروايات التي وردت حول هذا الموضوع في المصادر الأساسية مبتدئين بتاريخ الطبري. وقد قدم لنا الطبري ثلاث روايات، الأولى عن الواقدي تؤكد أن أحد أصحاب ابن الزبير أوقد نارًا فطارت الريح بشرارة منها فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت، والرواية الثانية عن عروة بن أذينة الذي قدم مكة مع أمّه يوم احترقت الكعبة فرآها قد أصبحت مجرّدةً من لباسها ورأى الركن قد أسودَّ وانصدع في ثلاثة أمكنة وروى له الناس الحاضرون قصّة الشرارة التي طارت بها الريح من قبس أوقدها رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير، والرواية الثالثة على لسان عوانة بن الحكم تقول: وقد قذفوا البيت بالمجانيق وحرَّقوه بالنار، ثم علّق المؤلف على الروايات الثلاث بموضوعيةٍ رجع معها جانب الروايتين لما لهما من الوجاهة والتوثيق.

     ثم أورد المؤلف ما جاء عن هذا الموضوع في المصدر الثاني الذي جاء به وهو (فتوح البلدان) للبلاذري، وقد أورد رواية واحدةً اعتمدها تؤكد أن الحريق الذي حصل كان بسبب شرارة طارت بها الريح من خيمة أحد رجال ابن الزبير.

     أمّا المصدر الثالث الذي اعتمده المؤلف فهو (أخبار مكة) للازرقي، وقد أورد روايتي الطبري اللتين تؤكدان أن سبب الحريق شرارة طارت بها الريح، مضيفًا إليهما روايات أخرى، تؤكد كلّها هذا السبب ولا تشير إلى أن جيش بني أمية كان سببًا في ذلك، ثم أورد المصدر الرابع وهو (الكامل في التاريخ) لابن الأثير الذي ذكر روايتين متناقضتين إحداهما تشير إلى أن الحريق كان بسبب ضرب الكعبة بالمجانيق من قبل الجيش الأموي، والثانية تؤكد أن شرارةً طارت بها الريح من نار أوقدها أحد رجال ابن الزبير كانت هي السبب، وقد مال ابن الأثير إلى الرواية الأولى، أما المصدر الخامس فهو (مروج الذهب) للمسعودي، وقد أورد روايةً واحدةً تشير إلى أن الجيش الأموي هو السبب في الحريق، كما أورد المؤلف أسماء عدد من الكتب التاريخية الحديثة التي نقلت من تلك الروايات السابقة، وتوقّف عندها دارسًا محقِّقًا.

     وبعد أن انتهينا من القراءة الهادئة لهذا الموضوع قال صاحبي: إنني أشعر بهدوء وراحة بال بعد هذه الجولة القائمة على التحقيق. قلت له: إنَّ المسلم الذي يراعى الأمانة والحق بحاجة إلى (ورع إيجابي) حينما يسمع أو يقرأ روايات تاريخيةً مثيرة للعواطف الهوجاء، بعيدًا عن التعصُّب الأعمى الذي يفرِّق الأمة ويضعفها.

إشارة

     اسأل العلم والحقائق إني

                      لأرى عنـــدهـا أجلَّ بيان

*  *  *

 

 

جمادى الثانية 1431 هـ = مايو - يونيو 2010م ، العدد : 6 ، السنة : 34