دراسات إسلامية

 

... و أعفُّ عند المغنم

 

بقلم : الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)

 

كان شيخ الإسلام حسين أحمد المدني المتوفى 1957م – رحمه الله – عالمًا ربَّانياً ومصلحًا كبيرًا ومجاهدًا باسلاً وآيةً للزهد والنزاهة.

     فقد تخرَّج الشيخ على أيدي كبار العلماء في الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، على رأسهم شيخ الهند محمود حسن الديوبندي المتوفى 1920م صاحب أكبر حركة قِيْدَتْ لطرد الاستعمارالبريطاني من العالم الإسلامي، وهي خطة الرسائل الحريرية، وورثه علمه ووفكرته ورسالته وعداءه المتناهي للاستعمار.

     فقد درَّس في المسجد النبوي بالمدينة المنورة زهاء خمسة عشر عاما، كما درَّس بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند نحو ثلاثين عامًا. وبذل مجهودات مشكورة في مجال التربية والدعوة والإصلاح والإرشاد.

     كما كان له تضحيات وبطولات في سبيل كفاح تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، ومواقف جريئة في محاكم الإنجليز؛ فاعتُقِلَ مرَّات في الزنزانات في الهند وخارجها. فاعتقالاته معروفة مشهورة يردِّدها لسان الدهر وتعيها ذاكرة التاريخ.

     فقدبدأ اعتقال الشيخ منذ إقامته بالمدينة المنورة مع أسرته المهاجرة إليها عام 1916م، وذلك أنه لما وصل أستاذه شيخ الهند محمود حسن وأصحابه حاجين إلى مكة، وكان يريد من وراء رحلة الحج مدُّ لحمة وسدى حركته إلى تركيا، فلقي وزراءها ومسؤوليها. فبينا كان شيخ الهند مع أصحابه بمكة إذ طالبه الشريف حسين أمير مكة بالتوقيع على فتوى تقضي بالخروج على الخلافة العثمانية وخلع الخليفة العثماني، فرفض شيخ الهند أن يوقع عليها، فألقى الشريف القبض عليه وعلى أصحابه بإيعاز من الإنجليز، وبعث بهم إلى جدة 19/ ديسمبر1916م، حيث اعتقلوا في سجنها، وكان الشيخ حسين أحمد وابن أخيه وحيد أحمد لحقا بهم في جدة، فاعتُقِلا معهم. ومكثوا في سجن جدة شهرًا، ثم نُقِلوا إلى القاهرة فالجيزة حتى وصلوا إلى سجن مالطة 21/ فبراير 1917م، حيث عاشوا في سجنها ثلاثة أعوام وسبعة أشهر. ثم أُطلِق سراحهم 8/ يونيو 1920م.

     عاد الشيخ مع أستاذه إلى الهند بعد ما أُطلِق سراحه، ليخدم المسلمين الهنود، فساهم في حركة صيانة الخلافة العثمانية في شبه القارة الهندية مساهمةً فعَّالةً، وحضر اجتماعاتها، وقدَّم فيها قرارات زعزعزت الحكومة الإنجليزية في الهند.

     ومن مواقفه الجريئة أنه قدَّم فتوى أستاذه شيخ الهند كقرار في مؤتمرلعموم الهند عقدته الحركة في كراتشي في يوليو عام 1921م، وكان مغزى القرارأنَّ موالاة الحكومة الإنجليزية ونصرتها والتعاون معها حرام، وذلك فيما يأتي:

     1 - أن يُرَدَّ الألقاب الفخرية والمناصب الرسمية.

     2 - وأن يُتْركَ عضوية المجالس الرسمية ولايصوت للمرشحين.

     3 - وأن لايُنْفَعَ الأعداءُ تجاريًّا.

     4 - وأن لا تُقْبَلَ المساعدة المالية من الحكومة للمدارس والجامعات، ويقطع الصلة مع الجامعات الحكومية.

     5 - وأن لايُتَجنَّد في القوات الإنجليزية، ويُحتَرَزَ عن كل نوع من الخدمة العسكرية.

     6 - وأن لاتُرْفَع القضايا إلى المحاكم الإنجليزية، ولايتولى المحامون الدفاع فيها.

     قامت الحكومة وقعدت، وجُنَّ جنونُها، فقبض عليه رجالُها وهو بمنزل شيخ الهند بديوبند، ونقلوه بالقطار الخاص إلى كراتشي، حيث حاكموه، واستنطقوه ، فأدلى بكلمته أمام القاضي في المحكمة بجرأة وشجاعة بالغتين. ثم صدر الأمرعنه بالحبس مع الأعمال الشاقة، فحبس في سجن سابرمتي.

     كان الشيخ أحد أنشط أعضاء جمعية علماء الهند، ثم أصبح رئيسًا لها، وكانت الجمعية تمارس نشاطاتها في مجال كفاح تحريرالهند دونما خوف ولا وجل، ففرضت الحكومة الحظر عليهاعام 1932م، فقاد أعضاء الجمعية حركة التمرد المدني في دهلي، وكان الشيخ في ديوبند ، فسافر إلى دهلي بالقطار للمساهمة فيها، فلما وصل القطار إلى محطة مظفر نغر، أُلقِي عليه القبض، فاعتقل في السجن نحوعشرة أيام، ثم أُفرِجَ عنه. 

          وفي 25/ أبريل 1942م عقدت جمعية علماء مرادآباد مؤتمرًا في بلدة بجرايون بمديرية مراد آباد، فحضره الشيخ وألقى فيه كلمة جاء فيها: "إنَّ وحدة وتضامن الطوائف المختلفة في البلاد هو الحل الوحيد للتخلص من أغلال عبودية الاستعمار".

     وذكر اعتداءآت الحكومة الإنجليزية مدعما بما قال الساسة والمؤرخون الأنجليز، كما كان دأبه في خطبه السياسية التي كان يلقيها في المؤتمرات، ولكن الحكومة كانت بالمرصاد وكانت تتحين الفرص لإلقاء القبض عليه. فبناءً على هذه الخطبة قررت الحكومة أن تلقي القبض عليه، وتحكم عليه بالحبس.

     ففي 24/ يونيو1942م خرج الشيخ من ديوبند في الواحدة ليلا للحضور في مؤتمرالتضامن الذي كان يُعقَد في ولاية بنجاب، فما إن وصل القطار محطة سهارنفور حتى جاء ضابط الشرطة، وألقى عليه القبض، وذهب به إلى سجن مرادآباد، حيث حاكموه، وقد دافع عنه المحامون والقضاة ورجال القانون، كما ألقى الشيخ نفسه كلمته الجريئة المفحمة المدعمة بالأدلة والبراهين، وقد جاء فيها:

     "قال القاضي عن خطبتي التي ألقيتها في المؤتمر: إنَّ بداية خطبتك توحي أنَّ الحكومة الإنجليزية تغري العداوة بين المسلمين والهندوس، وأنَّ خطبتك كلَّها تثير الكراهية والنفور ضدَّ الحكومة‘‘ صحيح ما قاله القاضي، ولديَّ أدلَّة على ذلك".

     لقد كانت هذه المحاكمة اسميًّا، وكانت الحكومة قدقررت الحكم بالحبس مسبقًّا، فحكم القاضي السيد سري واستو بحبسه مع الأعمال الشاقة لمدة ستة أشهر، وغرامة خمس مئة روبية، فحبس في سجن مرادآباد، ثم نقل إلى سجن نيني بمدينة إله آباد، ثم تحايلت الحكومة، فوسَّعت في حبسه، فظلَّ في السجن أكثر من سنتين، ثم أُطلِق سراحه في 26/ أغسطس 1944م.

     نالت الهند استقلالها عام 1947م، وقد تولى أبناء البلاد الذين خاضوا حرب التحرير مقاليد الحكم: فمنهم من أصبح رئيسًا للوزراء، ومنهم من صاروزيرًا للداخلية ، ومنهم من عاد وزيرًا للتعليم ومنهم ... ومنهم من نالوا جوائزقيمة واستدروا رواتب ضخمة طيلة حياتهم. وأما الشيخ فقد عاد – بعد ما طرد الاستعمار من الهند- إلى ما كان فيه من تدريس و تعليم وتربية وإصلاح وإرشاد. وبذل ما بذل من تضحيات و مجهودات ابتغاء وجه الله لايبغي عليه جزاءً ولاشكورًا.

     لقد عرفت الحكومة الهندية لكفاحه وجهاده قيمته، وقررت أن تمنحه لقبًا وهو ’’فدم وبوشن‘‘وجائزة قيمة و راتبًا يصله مدى الحياة. تناقلت الصحف الخبر، فلما بلغ الشيخَ هذا الخبركتب خطابًا إلى رئيس الجمهورية الهندية معتذرا عن قبول هذا اللقب والجائزة، وقدجاء فيه:

     "بلغني أنكم تشرفونني بجائزة "فدم وبوشن" اعترافًا بخدماتي التدريسية في دارالعلوم ديوبند، وكفاحي في سبيل تحرير الهند، ورئاستي لجمعية علماء الهند، فإن كان الأمر كذلك فأنا أشكركم من أعماق قلبي على تقديركم وتكريمكم إيايَّ، وأقول: بما أني أرى أنَّ الجائزة كهذه في نظر الشعب تنال من حرية الرأي والصدع بالحق لدى العاملين المخلصين للأمة والبلاد، وتعرقل في الإرشاد الصحيح للحكومة الوطنية، أرى من اللازم أن أردَّ هذه الجائزة".

     فقد ردَّ هذه الجائزة ولم يأخذ على مجهوداته الجبارة التي بذلها لتحرير البلاد شيئًا، وعاش قنوعًا متوكلاً على الله، وكان كما قال الشاعر:

     ويُخبـرك من شهد الوقيعة أنَّني

                أغشى الوغى وأعِفُّ عند المغنم

 

 

جمادى الثانية 1431 هـ = مايو - يونيو 2010م ، العدد : 6 ، السنة : 34

 



(*)  أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم، ديوبند.