دراسات إسلامية

 

بلاغة أسلوب الفصل والوصل في القرآن

(2/2)

 

بقلم : د / مسرت جمال

الأستاذة المشاركة قسم اللغة العربية، جامعة بشاور

 

د- من أغراض الوصل

* الوصل لأم اللبس

     ذكر الجاحظ القصة المشهورة عن أبي بكر، قال: ومرّ رجل بأبي بكر رضي الله عنه ومعه ثوب، فقال: أتبيع الثوب؟ فقال: لا عافاك الله، فقال أبو بكر: لقد علِّمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله.(1) وكذا قصة المجاشعي، أن الحسن البصري كان يخطب في دم كان فيهم، فأجابه رجل بأن قال: قد تركتُ ذلك لله ولوجوهكم، فقال الحسن: لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم وآجَرَك الله.(2)

 

*     الوصل للتمييز تشريفاً:

     ولا يبيح ابن جني عطف الخاص على العام إلا لميزة يتمتع بها ذلك الخاص؛ لأنه يدخل في جملة العام، الشيء لا يعطف على نفسه، يقول: وأنت لا تقول: جاء القوم وزيد، وقد جاء زيد معهم؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه. كذلك قوله تعالى ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ(3) لا يكون جبريل وميكال داخلين في جملة الملائكة؛ لأنهما معطوفان عليهم؛ فلا بد أن يكونا خارجين منهم، ماز "جبريل" و "ميكال" من جملة الملائكة تشريفاً لهما(4) وقد وضح هذا المعنى البلاغي قبل ابن جني أستاذه أبو علي الفارسي (377هـ) مستشهداً في بيانه بعديد من الآيات القرآنية.(5)

 

*    الوصل لتوكيد تفرد العلم الإلهي بالتأويل

     يقف القاضي عبد الجبار أمام القصد منعطف ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وكيف لا يتعارض علم هؤلاء الراسخين بتأويل متشابه القرآن مع تفرده سبحانه بالعلم الإلهي، وذلك في قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا(6) اعلم أن الأولى في معنى قوله ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أن يكون عطفاً على ما تقدم، ودالاً على الراسخين في العلم يعلمون تأويله بإعلام الله تعالى إياهم، ونصبِه الأدلة على ذلك، فيكون قوله تعالى ﴿يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ دلالةً على أنهم برسوخهم في العلم يجمعون بين الاعتراف والإقرار، وبين المعرفة؛ لأنه تعالى مدحهم بذلك، ولا يتكامل مدحهم إلا بضم الإيمان والتصديق وإظهار ذلك، إلى المعرفة بتأويله".(7)

     هذا لو كانت واو ﴿الراسخون للعطف، ولكن كبيراً من شيوخ المعتزلة رأى أنها للاستئناف، ولو كانت عطفاً لشارك الراسخون ربهم – سبحانه – في العلم بالتأويل. فيجيب القاضي: فإن قال (قائل) أليس قد قال كبير من شيوخكم: إن قوله تعالى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيْلَهُ إلاّ اللهُ يقتضي تمام الكلام، وأنه تعالى المتفرد بعلم تأويله، ثم استأنف قوله تعالى ﴿وَالرَّاسِخُوْنَ فِي الْعِلْمِ يَقُوْلُوْنَ آمَنَّا بِهِ ولذلك علق بذكرهم خبراً، ولو كان عطف على ما تقدم لم يصح ذلك فيه، أفما يدلكم ذلك على بطلان ما قدمتم، قيل له: إن من يذهب في تأويله الآية إلى هذه الطريقة (يقصد ذلك المعتزلي) لا يمنع من أن يعلم العلماء المراد بالمتشابه، لكنه يقولن: إنه أراد بقوله تعالى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إلاّ الله على نحو قوله تعالى ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ(8) أراد بالتأويل المتأوَّل، وهو عز وجل المتفرد بالعلم بالمتأوَّل، وأوقاته وأحواله.(9)

 

من أغراض الوصل بين الصفات المتعددة

     أ - لبيان تعدد الصفات للموصوف.

     ب - لكمال الصفات في الموصوف.

     ج - لبلوغ أحد الموصولين شهرة الآخر في الصفة.

 

أ- الوصل لبيان تعدد الصفات للموصوف

     ففي قوله تعالى ﴿وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ(10) يعني ذلك أنه الجامع بين كونه كتاباً منـزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل، يعني: التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة، ونحوه قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(11) يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياءً وذكراً.(12)

 

ب - لكمال الصفات في الموصوف

     وقد تقع الواو بين الصفات للإشارة إلى أن الموصوف بلغ الكمال في كل صفة منها، يقول في قوله تعالى ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(13) والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها.(14)

 

ج - الوصل لبلوغ أحد الموصولين شهرة الآخر في الصفة

     وأحد الموصولين هنا قد بلغ في الوصف المراد بيانه مبلغ الآخر الذي عُرف وشُهر ببلوغه الغاية في هذا الوصف، يقول الزمخشري في قوله تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ(15) وقد أذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه بمكان، كما قال تعالى ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(16) وأيضاً في قوله تعالى ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ(17) جعل قتلهم الأنبياء قرينةً له وإيذاناً بأنهما في العِظم إخوان.(18)

 

5- الوصل بين الصفات بعد الفصل بينها

     وذلك : أ- للجمع بين صفتين خاصتين منها.  ب- للتباين بين صفتين منها.

 

أ- للجمع بين صفتين خاصتين منها

     وذلك في قوله تعالى ﴿حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ(19) فما بال (الواو) في قوله ﴿وقابل التوب؟ فيها نكتة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن تُقبل توبته فيكتبها له طاعةً من الطاعات، وأن يجعلها محّاءةً للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.(20)

 

ب- للتباين بين صفتين منها

     والوصل هنا للإشارة إلى أن الموصوف يجمع بين صفتين، ولكن للإشارة إلى أنه لا يمكن الجمع بينهما لتنافي المعنى فيهما، ففي قوله تعالى ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا(21) الصفات قد أخليت عن العاطف ووُسِّطَ بين الثَّيِّبات والأبكار، لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بد من الواو.(22)

 

6- من أغراض ترتيب المفردات الموصولة

     وخضعت المفردات لقاعدة تقديم الأصل في المسألة على ما هو فرع، والأشد فيها على ما هو أخف، وكذا الأدل على القدرة الإلهية.

 

أ- تقديم الأدل على القدرة الإلهية

     وذلك في قوله تعالى ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ(23) فقد قدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان إلا أنه غير ناطق.(24)

 

ب- تقديم الأصل على الفرع

     في سورة النور تأتي كلمة (الزانية) قبل (الزاني) ثم تأتي ثانيةً ومعكوسةً في ترتيبها، لماذا؟ يقول الزمخشري، في قوله تعالى ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ(25)؛ لأن المرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له، ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً وأوّلاً في ذلك بُدئ بذكرها – أما في قوله تعالى ﴿الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً(26) فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه؛ لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب.(27)

 

ج- تقديم الأشد على الأخف على المكن

     قال تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا(28) وقدمت هذه الأحوال بهذا التريب لبيان أنواع المضرورين فمنهم من هو أشد حالاً وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء – وإذا جعلنا المضرور شخصاً واحداً كان الترتيب لبيان أنه لا يزال داعياً الله في جميع حالاته مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.(29)

 

7- من أغراض الوصل بين الجمل

أ- الوصل للإشراك في الحكم الإعرابي

     منذلك قوله تعالى ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ(30) و ﴿إذ يعدون في محل جر بدل من القرية، و ﴿إذ تأتيهم منصوب بـ ﴿يعدون أما ﴿إذ قالت فمعطوف على ﴿إذ قالت فمعطوف على ﴿إذ يعدون وحكمه حكمه في الإعراب.(31)

 

ب- الوصل للتناسب

     في قوله تعالى ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ(32) فالبرغم من أن الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فيرى الزمخشري أن بين القبيلين تناسبًا من حيث التقابل وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وإنّ جرْي الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود الشمس والقمر.(33)

 

ج- الوصل للتفسير:

     وذلك في قوله تعالى ﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ(34)

     أما قوله تعالى: ﴿فما أغنى عنهم فهو نتيجة قوله - ﴿كانوا أكثر منهم وأما قوله: ﴿فما جاءتهم رسلهم بالبينات فجارٍ مجرى البيان والتفسير لقوله تعالى ﴿فما أغنى عنهم كقولك: رُزق زيد المال فمنع المعروف ولم يحسن إلى الفقراء.(35)

 

د- الوصل لتقرير المعنى

     ففي قوله تعالى ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(36) والفرق بين ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(37) أن الخبرين قد اختلفا ههنا، فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمة، فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة، وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل و (هم) فصل.(38)

 

هـ- الوصل للاختصاص

     ومن ذلك أن المعطوف عليه لا يكون مقصوداً بالحكم، وإنما يذكر للدلالة على قوة اختصاصه بالمعطوف، ومن ذلك قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ(39) يقول الزمخشري: يجوز أن يجري مجرى قولك: سرني زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه وفائدة هذا الأسلوب، الدلالة على قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله S من الله بالمكان الذي لا يخفى، سلك به ذلك المسلك،(40) وفي قوله تعالى ﴿لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ(41) أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ ونحوه (عجبت من نفسي ومن إشفاقها).(42)

 

و- الوصل للتوكيد

     وقد توصل الجملة الواقعة صفةً للنكرة وحينئذ تفيد تأكيد وصف الموصوف بالصفة، يقول الزمخشري في قوله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ(43) فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولِمَ دخلت عليها دون الأولين ؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفةً للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة، في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(44) وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوا عن ثبات وعلم، وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن، كما قال غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله ﴿رجْمًا بالغيبِ وأتبع القول الثالث قوله ﴿وما يعلمهم إلا قليل. وقال ابن عباس (حين وقعت الواو انقطعت العدّةُ: أي لم يبق بعدها عدّة عادٍ يلتفت إليه)(45) ويكرر الزمخشري هذا التحليل في قوله تعالى ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(46).

 

ز- الوصل للَّفت إلى معنى يحدده سياق الكلام

     ومن ذلك أن المعطوف قد لا يراد تشريكه في الحكم مع المعطوف عليه، وإنما يراد اللَّفتُ إلى معنى يحدده سياق الكلام، يقول الزمخشري في قوله تعالى ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ(47) قرأ جماعة ﴿وأرجلَكم بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة، فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجزم ودخولهما في حكم المسح ؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة، تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة الإسراف المذموم المنهي عنه، فعطف على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن ليُنبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.(48)

     الزمخشري يتابع الجمهور ويواكب النحويين والبلاغيين المتأخرين، فيقدم الحقيقة التي أقرها الأسلوب القرآني في صورة متكلفة يقول في قوله تعالى ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ(49) فإن قلت: علام عطفت هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه ؟ قلت: ليس الأمر الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مُشاكِل من أمر أو نهي يُعطف عليه، إنما المعتَمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين؛ فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والارهان وبشِّر عمراً بالعفو والإطلاق.(50)

 

من أغراض ترتيب الجمل الموصولة

أ- تقديم الأعرق في القدرة

     ففي قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ(51) قد جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب – كما يقول الزمخشري – لتقديم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشْي من أرجل أو قواهم ثم الماشي على الرجلين ثم الماشي على أربع.(52)

 

ب- تقديم الأكثر في العدد

     وقد تكون درجة الأهمية في كثرة العدد، ففي قوله تعالى ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ(53) قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق، للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل.(54)

 

ج- تقديم الأقوى أثراً في حياة الناس

     كما في قوله تعالى ﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا(55) وقد قدم إحياء الأرض وسقي الأنام على سقي الأناسي لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنه إذا ظفروا بما يكون سُقِيا أرضهم ومواشيهم لم يعدموا سُقياهم(56)، وكما في قوله تعالى ﴿ الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآَنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ . الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(57) عدد الله عز وعلا آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدماً من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها، وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن ... وأخّر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين ... ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.(58)

 

د- تقديم الأسرع وروداً إلى النفس

     كما في قوله تعالى ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ(59) وقدم الشكر هنا على الإيمان؛ لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدماً على الإيمان وكأنه أصل التكليف ومداره.(60)

 

هـ-: إحكام ترتيب الجمل بقصد تهذيب النفس

     ففي مواقف تهذيب النفس وإرشادها إلى طريق البر وأخذ الوسائل التي تبعد بها عن مواطن الرذيلة يلمح الزمخشري: ترتيباً بين الجمل يلائم طبيعة النفس ويتسق مع أحوالها حيث تتوالى الأوامر وتتصاعد حسب الأحوال والشؤون يقول في قوله تعالى ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... إلى قوله تعالى ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ(61) ما أحسن ما رتب هذه الأوامر حيث أمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالجمل على النفس الأمارة بالسوء عزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه.(62)

 

و- إغفال ترتيب الجمل بقصد تصوير اضطراب النفس

     ففي تقريع اليهود في قوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً...(63) وقوله تعالى ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ..(64) فإن قلت: فما للقصة لم تُقصّ على ترتيبها وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال إذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرةً واضربوه ببعضها؟ قلت: كل ما قُصّ من قَصَص بني إسرائيل إنما قُصّ تعديداً لما وجد منهم من الجنايات وتقريعاً لهم عليها. ولما جدد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع. وإن كانتا متصلتين متحدتين؛ فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك، والثانية للتقريع على قتال النفس المحرمة، ما يتبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصةً واحدةً، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها، أن وصلت بالأولى دلالةً على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله ﴿اضربوه ببضعها حتى تبين أنها قصتان فيما يرجع إلى التقريع، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها وإنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.(65)

     يهدف فن الفصل والوصل إلى "إبراز جمال المعنى لتحقيق كمال الفائدة" وقد اتخذ لذلك وسائل منها: الإيضاح والإيجاز وتثبيت المعنى وحسن النسق، ثم هو يسعى إلى إضفاء جمال التركيب في الصياغة بأن يقطّع الموضوع الواحد إلى أجزاء موصولة أو يعرض الموضوع الواحد بأشكال متعددة أو يصور الهيئة المنفصلة أو الهيئة المتصلة أو يحرص على تناسب الإيقاع الصوتي مع الإيقاع الدلالي.

     أساليب القرآن الكريم هي الصورة الحقيقية لأي أسلوب بلاغي، ويجب أن تكون بداية الطريق، وأن تدرس دراسة شاملة في القرآن كله لتستخلص النتائج، أما نتائج البلاغيين القدماء فما وافق منها أسلوب القرآن أُخذ به وما لم يوافق عُدّ باباً من أبواب التاريخ الذوقي في البلاغة العربية – ثم تأتي مرحلة التطبيق على مختلف فنون القول لنتعرف على جوانب إبداع المبدعين وطاقاتهم ومدى نجاحهم في الاغتراف من نبع القرآن الكريم من خلال مواهبهم وقدراتهم وشخصياتهم.(66)

 

المصادر والمراجع

(1)   الجاحظ – البيان والتبيين – 1/279

(2)   نفسه والصفحة

(3)   البقرة: 98

(4)   ابن جني – المحتسب: 2/53، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ط الحلبي

(5)   أبو علي الفارسي – الحجة – 1/13، دار الكتاب العربي.

(6)   آل عمران: 7

(7)   عبد الجبار – المغني – 16/378 تحقيق أمين الخولي، ط وزارة الثقافة 1960م

(8)   الأعراف: 53

(9)   المغني – 16/379

(10) البقرة: 53

(11) الأنبياء: 48

(12) الكشاف: 1/281

(13) آل عمران: 17

(14) الكشاف: 1/417

(15) النساء: 1

(16) البقرة: 83، والكشاف: 1/493

(17) آل عمران: 181

(18) الكشاف: 1/184

(19) الزمر: 1

(20) الكشاف: 3/413

(21) التحريم: 5

(22) الكشاف: 4/128

(23) الأنبياء: 79

(24) الكشاف: 2/580

(25) النور: 2

(26) النور: 3

(27) الكشاف: 3/50

(28) يونس:12

(29) الكشاف: 2/227

(30) الأعراف: 163، 164

(31) الكشاف: 2/126

(32) الرحمن: 5، 6

(33) الكشاف: 4/44

(34) الأعراف: 82، 83

(35) الكشاف: 1/253

(36) البقرة: 5

(37) الأعراف: 179

(38) الكشاف: 1/145

(39) الحجرات: 1

(40) الكشاف: 3/553

(41) النمل: 18

(42) الكشاف: 3/142

(43) الكهف: 22

(44) الحجر: 4

(45) الكشاف: 2/478

(46) الكشاف: 2/487

(47) المائدة: 6

(48) الكشاف: 1/597

(49) البقرة: 24

(50) الكشاف: 1/253

(51) النور: 45

(52) الكشاف: 3/71

(53) فاطر: 32

(54) الكشاف: 3/309

(55) الفرقان: 39

(56) الكشاف: 3/95

(57) الرحمن: 1-5

(58) الكشاف: 4/53

(59) النساء: 147

(60) الكشاف: 1/575

(61) النور: 30-33

(62) الكشاف: 3/65

(63) البقرة: 67-71

(64) البقرة: 72-73

(65) الكشاف: 1/290

(66) الفصل والوصل في القرآن الكريم، ص221-222.

 

 

رجب 1431 هـ = يونيو - يوليو 2010م ، العدد : 7 ، السنة : 34