دراسات إسلامية

أطفالنا والعصر الحديث

 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

 

التكنولوجيا الحديثة أمسكت بزمام الأمور في حياتنا، وسيطرت على مقاليدها؛ بل إن جميع مناحي الحياة بداية من النواحي الثقافية والاقتصادية والسياسية، و وصولاً للنواحي الرياضية و وسائل التسلية والترفيه، أصبحت اليوم تعتمد اعتمادًا كليًا على ما تفرزه التكنولوجيا من مُعْطَيَات حديثة، فنحن منذ أن نستيقظ من نومنا وحتى نعود إليه، لا نتعامل معها فقط، بل وتفرض علينا أسلوبًا جديدًا في التعامل بين بنينا، وبيننا ومعها، وهذا هو الذي جعلها السلعة الأكثر رواجًا، والهدف الذي يبتغيه الجميع. ومن الملاحظ اليوم أن تسارع خطوات التكنولوجيا، وتتابع إيقاعها، أصبح مخيفًا، لدرجة أنها تأتينا، بشكل شبه يومي، بمنتجات تقنية جديدة مذهلة، من حيث التقدم والإبهار، وهذا ما يجعل مسألة الركض وراءها، ومحاولة الإمساك بأهدابها، تحتاج إلى حرص وتخطيط وجدية. وأطفالُنا هم بناة الغد، وصناع المستقبل والمسؤولون عنه، فلا نستطيع تركهم يتأثرون بكل ما يدور حولهم من متغيرات، دون أن نستثمر هذا التغيير، في إعداد قدراتهم وتنمية مداركهم ومواهبهم، بما يتناسب مع الطموح الذي يُدْفَعُون إليه دفعًا، سواء رضوا أم أبو من جراء أحد فروع هذه التكنولوجيا، ألا وهو أجهزة الاتصال ومنها القنوات الفضائية والانترنت، والتي لا تتركهم أبدًا لحالهم، بل إنها تهبط عليهم من كل مكان وفي كل مكان، ليشتركوا مع العالم فيما يحدث فيه من متغيرات، فكيف ندعوهم إلى تلك المسؤوليات؟ وكيف نساهم في حصولهم على التقنية التي تمكنهم من مخاطبة العالم، بلغة مفهومة وبقوة توازي قوة الآخرين؟ وما هو نصيبهم من تقنية العصر، وما دورنا في إتاحة الفرصة لهم بالتزود بتلك التقنية ومفرداتها؟ وهل نحن جادون في جعل أبنائنا قادرين على اقتحام ساحة المستقبل، وهم أكثر ثقة وطمأنينة أم أننا نحاول أن نتوارى خلف الظروف، ونتخوف أكثر من الجوانب السلبية للتكنولوجيا دون وضع أي اعتبار للجوانب الإيجابية لها؟. ومن المعلوم أن نصيب أطفالنا من هذه التقنية أقلّ مما يستحقون، على الرغم من أن لديهم الاستعداد والقبول، بل والميول لتلقي التقنية واستخدامها بشكل أوسع، مما يضاعف الأعباء الملقاة على عاتقنا تجاه توفير القدر المناسب لهم من التقنية، وإذا لم نكن محظوظين في نيل نصيب وافر منها منذ الصغر، فيجب ألا يفوتنا أن نجعل لأبنائنا النصيب الأوفر منها في الحاضر والمستقبل من الأيام؛ لأنها صارت مفتاح كل شيء، وسلاح كل من يريد التقدم سواء كان علميًّا أو صناعيًّا أو في شتى المجالات الأخرى، فلا حياة بلا تقنية، ولا مستقبل بدونها. وإذا كانت الآلات والأجهزة هي أحد شقي التكنولوجيا، فإن الشق الأعظم والمتمثل في التفكير يظل متواريًا في الظل يبحث عن من يخرجه إلى النور ويعينه على الظهور، فالتكنولوجيا ما هي إلا منظومة متكاملة في إطار واحد تجمع بين الإنسان، والآلة، والأفكار.

     والأطفال بما أودعه الله سبحانه وتعالى إياهم من طاقــة عجيبة، فهم شعلـة نشاط وحركــــة داخل البيت وخــارجــه، وألعاب زمان كانت بسيطة؛ ولكنها كانت تحتاج لحــركـــة من الأطفال، تستهلك هذه الطاقة، كما أن القصص التي كانت تروى لهم قبل النــوم، من الأمـــور التي تهمهم كثيــرًا، ويجدون فيها سعــادةً ولذةً، كما يجد فيها الآباء أداة فعـالـــة لتغييـــر السلوك وتعديل الأخطاء عند الأطفال، فهذه القصص مهمة للطرفين، بالنسبة للطفل فهي تمثل تعلم اللغة والخيال والمعلومة الصحيحة والحنان والقرب من الوالدين والمتعــة، أما بالنسبة للآباء فهي تمثل أداة التوجيه والاطمئنان على الطفل قبل النوم وكسب ثقـــة ومحبـــة الطفل والتربية عموما، أما الآن فأغلب الألعاب الإلكترونية، لا تحتاج إلى حركة، وكثير من الأطفال يمضون أمسيتهم أمام الكمبيوتر، ينامون ويستيقظون على ألعاب الإنتــرنت، ولا أحد ينكر فضل الإنترنت؛ ولكن للأسف، لا يوجد شيء في هذا الكون من غير ثمن، وأغلى ثمن ندفعه هو الأخطار الكبيـــرة التي نــواجهها ويواجهها أطفــالنا خلال عملهم المباشر على الإنترنت، بفرض أننا كأفراد بالغين نعي مخاطر الإنترنت ونستطيع حماية أنفسنا بشكل جيد، يبقى علينا الأهم، ألا وهو حمل مسؤولية إرشاد أطفالنا وتوعيتهم لهذه المخاطر ليتمكنوا من حماية أنفسهم. وهناك شبه إجماع بين الأطباء والمتخصصين في مجال أبحاث الطفولة سواء المتخصصين في مجال البحث الاجتماعي أو الطبي والصحي أو النفسي أو التربوي على ألا تزيد فترة مشاهدة الطفل أو اللعب على الكمبيوتر أكثر من ساعة يوميًا وذلك لما له من أضرار جسيمة خطيرة على كل من النظر؛ حيث التعرض لمجالات الأشعة الكهرومغناطيسية تؤدي إلى ضعف شديد في النظر، وعن تأثير على المخ، أكدت الأبحاث أن مشاهدة التلفاز لفترة طويلة يضر بالدوائر الكهربائية بالدماغ ويؤدي إلى إفراز مواد كيمائية جديدة وخطيرة فيه، و وجد العلماء أن الإشعاع المنبعث من التلفاز يزيد من نشاط النصف الأيمن من الدماغ على حساب النصف الأيسر، الأمر الذي يؤدي إلى تشويش الطفل وإضعاف انتباهه وتركيزه ومستوى احتماله، ويجعله عرضةً للإحباط والكآبة، كما يسبب تراجعًا ملحوظاً في ذاكرته وقدرته على التحليل والسيطرة على عواطفه، وأشار العلماء إلى أن التحول من المنطقة اليسرى إلى المنطقة اليمنى في الدماغ يطلق مجموعة من الأفيونات العادية في الجسم التي تشبه في تركيبها الأفيون الطبيعي ومشتقاته من المواد المخدرة، وهو ما يؤدي إلى إحداث تلف في الدماغ، كما أن الاستثارة الزائدة للمخ الصغير في بعض برامج التلفاز أو الكمبيوتر مثل الرسوم المتحركة ومواد الفيديو الخاطفة سريعة الإيقاع والصاخبة تُرْهِق خلايا المخ وتعيق النموَّ السوي لها، والمشكلة أن مثل هذه البرامج تعيق استفادة المخ بالمؤثرات ذات الإيقاع العادي في باقي نشاطات الحياة، وعلى المستوى العام للصحة أثبتت الدراسات أن كثيرًا من الأطفال الذين يفرطون في مشاهدة التلفاز لمدة ساعتين فأكثر يتعرضون للإصابة بالكوليسترول، والإدمان على التدخين، وتدني في القوة البدنية، إضافة إلى السمنة الزائدة، هذا فضلاً على الأضرار النفسية والاجتماعية؛ فقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يفرطون في مشاهدة التلفاز أو اللعب على الكمبيوتر يتميزون بالعنف والأنانية، فضلاً عن الإعاقة العقلية والاجتماعية، والسرعة الشديدة لاستجابة الألعاب على الكمبيوتر تجعله يتعرض إلى الوحدة والفراغ النفسي، وعرضة للكآبة والإحباط، وأما عن الفساد الخلقي والديني فحدث ولا حرج، فنلمسه في كل بيت من بيوتنا في ألفاظ وملابس وسلوكيات أبنائنا، بل يتعدى تأثيره إلى الكبار أيضًا.

     إن الدول المتقدمة تنظر إلى مستقبلها من خلال أطفالها، فتيسر لهم البحثَ والكشفَ والتفكيرَ والاستنتاجَ والتعاملَ مع اللعبة التي تنمي الذكاء والقدرات، والمواد والأنشطة التي تضعهم أمام المواقف التي تساعدهم على تجاوز النظرة السطحية سواء للطبيعة أو للحقائق العلمية، إلى النظرة المتعمقة الشاملة التي تجعلهم يحيطون بأبعاد الظواهر والنظريات التي يدرسونها ويتعاملون معها؛ لذا فإن المناهج الدراسية في الدول المتقدمة قد خرجت منذ وقت طويل من ثقافة التلقين المعتمدة على حشو الذاكرة بمعلومات يعجز الطفل عن توظيفها والانتفاع بها في حياته اليومية الحاضرة والمستقبلية، إلى ثقافة الإبداع والابتكار والإضافة التي يشتقها من طبيعة العلاقة بينه وبين معلميه من ناحية ومن المناهج التعليمية والجو المدرسي ككل من ناحية أخرى. ولن يتأتى ذلك إلا بعدة أمور، منها على سبيل المثال لا الحصر: توفير الإمكانيات التي تجعل الطفل قادرًا على أن يستوعب ثروة المعلومات التي يعيشها، والتقدم التكنولوجي المتلاحق، وتضعه في مواقف يجب أن يحسم أمره بالنسبة لها، مثل رأيه في المتغيرات السريعة التي تحدث لعالمنا اليوم وكل يـــوم، وموقفـــه منها، وكيف يمكن إعداده لمواجهـــة هذا التحـــدي الذي فرض عليه، ويجب أن يواجهــه ليسير في ركب التقدم، لذلك يجب علينا أن نبدأ مبكرًا بإعداد الطفولة لمواجهة هذه التحديات، فطفل هذا العصـر يعيش عالم ثورة وثروة المعلومات؛ لذلك يجب ألا يعتمـد فقط على المدرسة في تلقي العلوم والمعلومـات؛ بل يجب أن يكون لديـه القدرة على التعليم الذاتي المستمر خارج المدرسـة، وزيادة المعلومات العامة خارج الكتب المدرسية، وأن يدرب فكره على التفكير العلمي المنطقي، يجب أن يشب الطفل معتزًّا بنفسه متقبلاً للغير، مدربًا على أي حوار، متقبلاً لكل وجهات النظر والتفكير فيها بموضوعية، بعيدًا عن التعصب. وهذا لا يتم إلا من خلال برامج تعليمية وتربوية مكثفة، لابد من تصميم الأنشطة التي تؤدي إلى كشف قدرات الأبناء وإعطائهم الفرص المتعددة، لتحقيق ذاتهم وتشكيل قدراتهم، ولابد من نشر وعي الكبار في كيفية استثمار ما تمتلكه التكنولوجيا فكرًا وأداةً لإثراء حياة أطفالنا وتعزيز تطورهم ونموهم.

*  *  *

 

 

رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس - أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34

 



(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

    الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

    الجوّال : 0101284614

     Email: ashmon59@yahoo.com