الفكر الإسلامي

القرآن الكريم .. الجمال التصويري بين اللفظ والمعنى

(1/2)

 

بقلم: الأستاذ محمد قطب عبد العال

 

يتبدّى الجمال التصويري في القرآن الكريم شاملاً جوانب كثيرةً تتآلف جميعًا لتعطي لنا هذا الجانب الغالب في القرآن. فالتصوير سمة واضحة الدلالة، وملمح أسلوبي متفرد، اتخذ تفرده من نفس العطاء اللغوي. ومع ذلك فهو ذو خصوصية متميزة، وهو نمط في الأسلوب البياني بلغ حدّ الإعجاز. وكان تأثيره في النفوس نافذًا ومخترقًا لأعماق النفس.

     فثمة تناغم في الإيقاع الموسيقي ينساب من الحروف المتآلفة، والكلمات المتوازنة. والألفاظ بما تحمله من دلالات في المعنى وإيقاع النسق العام تتلاقى في عبارات بحكمها رنين الإيقاع وتتوالى منظومة الألفاظ والعبارات في سياق دلالي فتعطي للمعنى عمقًا، وللاداء تصويرًا ينفذ إلى القلب فيهزه. وإلى الوجدان فيرققه.

     وتآلف المعاني مع الألفاظ، يُعطي التوحد في التعبير، ويُبرز الجانب الجمالي الكامن فيه. بحيث يبدو التكامل بين اللفظ والمعنى اندماج كامل في النسق والدلالة، (وكأن المعاني جاءت مؤاخيةً للألفاظ، وكأن الألفاظ قطعت لها، وسويت على حجمها)(1).

     وجمال التعبير لا يتأتّى من توالي الألفاظ أو العبارات، فمجرد السرد اللفظي لايدل على جمال في ذاته، أو روعة في أدائه.. وإنما يتحقق ذلك من خلال التناسق في الدلالة، والتآلف في المعنى، والتناغم في النسق. فليست للألفاظ جماليات خاصة بها.. تلازمها كلما استخدمت، أو نُطق بها. فاللفظ لاتكمن فصاحته وبلاغته في ذاته، فقد يجمل، وقد يقبح حسب الأسلوب وطريقة الأداء. فليس للألفاظ حسن ذاتي منفرد، وإنما حسنها يكمن في تآلف الدلالة وانسجام المعنى، مع تلاؤم في الحروف وبُعد التنافر، وتمايز في الصورة، وتواصل في الإيقاع.

     فإذا وجدت الألفاظ وفق المعاني، والمعاني وفقها، لايفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر كما يرى الباقلاني والتوافق هنا ينسحب أيضًا على الجانب التعبيري الخاص بالصوت الموسيقي، والإيقاع المناسب.. فالحروف والكلمات والعبارات ألحان لغوية تبدو في ائتلافها وتآلفها كأنها قطعة واحدة.

     إن كل لفظ قرآني له معناه الخاص به، يتجلى فيه هذا الإشعاع التصويري الجميل الذي عبر الجمل والتراكيب، فتتآخى المعاني وتتلاقى الألحان في انسجام وتوازن، ويصاحب ذلك كله الصور الخيالية الجميلة المنبثقة من هذا التآلف المنسجم، ومن هذا المعنى المطلوب.

     واللفظ في القرآن له تفرده ودقته من حيث المعنى والدلالة والسياق، مما ينتفي معه الترادف.. وإن لاح الأمر من حيث الشكل.. فالسياق يضفي على اللفظ مصاحبات دلالية وتصويرية تعطيه ملمح التفرد والتميز..

     وثمة ألفاظ تتردد متكررة في آيات القرآن الكريم، وتحمل دلالات متفردة لاتتعداها إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن يتصورها الإدراك الفكري وتصبح متلائمةً تمامًا مع المعنى والسياق الذي وردت فيه..

     ومن ثم تصبح الدقة الدلالية في اختيار اللفظ ملمحًا أسلوبيًا متفردًا.

     .. فمثلاً قد يتبادر إلى الذهن أن كلمتي «الرياح» و«الريح» بمعنى واحد. وأن الترادف قائم مشترك بينهما.. ولكن السياق القرآني استخدم كلاً منهما في مجال تعبيري خاص..

     ولنلق نظرةً على الكلمتين:

     قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(2).

     صدق الله العظيم.

     نحن أمام مشهد كوني، يتسم بالحركة والحياة والتدفق. والإنسان يستشعر من خلال حركة الأحياء هذا الإيقاع الجميل الذي ينتظم المشهد كله بجزئيات الصورة الثلاث.. الرياح الماء الثمرات .. صورة حسية متلاحمة في تمازج لا ينفصل.. تشهد برحمة الله وفعله. ولقد وردت كلمة «الرياح» في مقام الخير والرحمة والنعمة.

     وتمثّلت حركة الرياح في صورة حسية عاقلة تحمل البشري وتستجيب لنداء الربوبية في عبودية مسخرة وفي استسلام كامل، تبشر برحمة الله، فتدفع أمامها في حركة متوازنة مقصودة سحابًا ثقالاً ممتلئةً بالخير العميم الذي سرعان ما ينهمل ماءً يحمل النماء والحياة للأرض الجدباء فاقدة الخصوبة والنماء.. وإذا بهذا الموات ينشقّ عن حياة بهيجة، وتنطلق النباتات من كل نوعم وشكل، زاهية، متألقة، متخمة بالثمار.

     وأمام هذه الصورة المشهدية الحية التي لاتخطئها عين ولا ينكرها عقل يأتي الربط بين الحياة الناشئة بقدر الله في الأرض وبين البعث يوم القيامة وفق قدر الله ومشيئته. ويرى الزمخشري في مجال الرأط بين الحسيّ والمعنويّ، أنّه (لا فرق بين الإخراجين إذ كل واحد منهما إعادة للشيء بعد إنشائه)(3).

     ولقد تكرَّر هذا الربط بين الحسي المُشَاهَد والمعنويّ المغِيب في آيات كثيرة في القرآن الكريم. وكانت الصورة الحسية التي تبدأ (بالرياح) المبشرة بالنعيم والخير مدخلاً إلى تأكيد المعنى العميق وراء المشهد المحسوس كله.. ويصبح الموقف كله تدليلاً بالصورة والحركة والمعانية على البعث والإحياء في الآخرة.

     يقول ابن كثير (وهذا المعنى كثير في القرآن، يضرب الله المثل ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها، ولهذا قال.. لعلكم تذكّرون)(4).

     ولقد وشت الألفاظ المكونة للحركة والصورة بالدلالة الدينية في إيقاع منسجم فألفاظ الصورة الكلية الأولى هي: الرياح سحاب ماء أرض موات ثمرات..

     أما الدلالة الدينية فوشى بها لفظ (نخرج الموتى) أي البعث.

     ولعلنا نلاحظ أن حركات التواصل في النماء على الأرض، مفضلة في حركة الحياة.. من حيث التطويل، والتجزئ والتتابع السببي.. الذي يغلفه جميعًا قدرة الله ورحمته.

     أما الدلالة الدينية فقد جاءت قصيرةً، موجزةً، حاسمةً لاتحتاج إلى شرح أو تجزئ أو تطويل. فدلالة القدرة على البعث لاح منها دلالة القدرة على الحياة في الأرض .

     (وإن القدر الذي يَجْرِي بإخراج الحياة من الموات في الدنيا، لهو ذاته القدر الذي يُجْرِي الحياة في الموتى مرةً أخرى.. والناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة، ويغرقون في الضلالات والأوهام)(5).

     وهكذا رأينا كيف قامت كلمة «الرياح» بهذا الدور المبشر بالنعمة والرحمة في حركة قدرية متواصلة، وكيف كانت مفتتح الحياة الحسية والمعنوية معًا.

     .. ولنأخذ نموذجاً آخر يوضح الدلالة المعنوية القرآنية لاستخدام كلمة «الرياح» وكذلك الربط بين المشهد المحسوس والمعنوي المغيب.

     قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾(6).

     الآية الكريمة وردت في سورة «فاطر». وهي سورة لها نسقها الخاص في الموضوع والسياق العام. وهي ذات إيقاعات مؤثرة تهز القلب البشري وتوقظه من غفلته وهو يتأمل هذا الكون الفسيح ويتدبر قدرة الله وآياته المبثوثة فيه. وتستمد هذه الإيقاعات الموحية اتساقها من ينابيع الكون وهي تنطبع على صفحة القلب في مجتلى بصري محسوس فهذا الكون الهائل تتجلى فيه يد القدرة الإلهية.. وما الآية التي نحن بصددها إلا جزئية صغيرة من هذا الكون.

     فنحن أمام مشهد محسوس نرى فيه بعين البصر الرياح المرسلة، وهي ليست أية رياح وإنما هي الرياح التي تحمل في حركتها الخير والنعمة.. وتتحرك في جنبات الكون الفسيح فتحمل مع كل حركتها أولى بشائر الرحمة الإلهية.. وهي تثير السحاب، تجمعه وتكثفه، وتدفعه إلى بلد ميت، شاء الله له أن تدب فيه الحياة. وكما أحيا الله الأرض يحيي الموتى من القبور.

     ولعل الارتباط بين الحسي والمعنوي واضح تمامًا كما أدركناه في الآية السابقة.

     كما أن الهدف من هذا الربط يتمثل في لفت الذهن من المحسوس المُشَاهَد الذي لايختلف عليه أحد.. إلى المعنوي المغيب الذي يتجادل الناس حوله.

     (روى الإمام أحمد عن أبي رُزين العقيلي قال: قلت يارسول الله: كيف يُحيي الله الموتى؟. وما آية ذلك في خلقه؟. فقال: (أما مررت بوادي أهلك مُمحِلاً، ثم مررت به يهتز خَضِرًا؟. قلت: نعم يارسول الله. قال: فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آية في خلقه(7).

     وهكذا تهتز الأرض وتربو وتخرج من كل زوج بهيج بعد موات وجدب. وكانت الرياح في فعل الخير الأول الذي ساق النعيم معه..

     وهذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن لأنه واقع ملموس، ولأنه يهز القلب حين يخترقه الجمال، فيسعى إلى تلمس المشاعر النيرة وراء المشهد بما يحمله من بهجة وزينة وثمر.. وبما يوحى به من عقيدة البعث التي لاتحتاج إلى مكابرة جاهل أو عناد مشرك غافل.

     (والقرآن يتخذ مُوْحَيَاتِه من مألوف البشر المتاح لهم، مما يمرون عليه غافلين. وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون)(8).

     ونلاحظ في الآية وصف الرياح بالإثارة، كما وصفت في الآية السابقة بالبشرى.. فتحددت الدلالة في الأولى تحديدًا واضحًا، مما استدعى التفصيل والتجزئ. أمّا في الآية التي نحن بصددها، فنلمس إيجازًا واضحًا في متواليات حركة النمو.. حيث تحددت في جزئيات ثلاثة رياح/ سحاب/ إحياء الجدب.. وكأنما الآية تسرع لتأكيد الفكرة الدينية والتي تسعى إلى إبرازها الآية.. وهي «النشور».. ومن ثم جاءت «النشور» بالمعنى المراد تمامًا.. وهو البعث في حين كان إخراج الموتى صورة فعلية حركية تحدد المراد أيضًا وهو البعث.. وفي مجال دلالة الماضي والمضارع في الآية.. من حيث إن.. المضارع «تثير» توسط بين الماضي في «أرسل» و«أحيينا».. يقول صاحب الكشاف. مبررًا هذا التناول في زمن الفعل، فبين أنه جاء على هذا الوضع (ليحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية، بحال تستغرب أو تهم المخاطب)(9) ولا شك أن إرسال الرياح وسوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بالمطر بعد الجدب من الدلائل على القدرة الإلهية الباهرة، فتلاءم زمن الماضي معها من حيث الإرسال والإحياء؛ ذلك لأنه أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه.. ومن ثم يتحدد التشبيه (كذلك النشور) وتنكشف الدلالة الدينية العميقة وراء المشهد ككل.

     كما أن لفظ «يثير» يوحي بملحظ علمي يرى أن حركة الرياح بين السخونة والبرودة وبين حركتها الصاعدة والهابطة وسيلة لتكثيف البخار، وتثقيله سحابًا ممتلئًا بالماء، يتساقط لتكتمل دورة الحياة من جديد.. رياح، سحاب، ماء، أرض.. وهكذا..

     .. ومع أن الآيتين قد ربطت بين الحسي والمعنوي وأبرزتا دلالة الخير والنعمة والرحمة إلا أن كلمة «الرياح» قد تأتي دون أن يكون هناك هذا الربط؛ بل تكتفي بدلالة المعنى فيها..

     قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾(10).

     وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(11).

     وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾(12).

     في آية الحجر توضيح لفعل الرياح وأثره العميم على الناس. فالماء نعمة كبرى أنعم بها الله على مخلوقاته. ودور الرياح في إحداث هذه النعمة لاينكر. والرياح تنطلق وفق نواميس كونية، حاملة الماء وفقًا لها أيضًا، ثم يتساقط الماء؛ فيعم الخير. ويصير هذا الماء الساقط من السحاب الملقح، ماءً عذبًا صالحًا للشرب والسُّقيا.

     ثم تُظْهِرُ الآية القدرة الإلهية في خزنه وحفظه وعجز البشر عن ذلك.. فنعمة الماء التي بشرت بها الرياح وأحدثتها إنما هو قدر الخالق الذي أبدع خلقه.

     ولعلنا نلاحظ حَصْرَ النعمة في الماء.. وهنا ملحظ علمي وراء تعبير «الرياح لواقح» فهي تشير إلى تلقيح السحابة السالبة بالسحابة الموجبة. فالملاقحة هنا بين سحاب وسحاب ينتج عنها كهرباء.. فكأن الملاقحة وسيلة لتكثيف السحب ثم انهمارها.. وتلفتنا الآية إلى أهمية الرياح في حركتها وهبوبها في تلقيح النباتات وكل ذلك نعم إلهية. وتسيير الرياح للسحاب المبشر بالخير، تصاحبه دلالات أخرى، منها إفادة الكائنات الحية من التسيير. فاللقاح ينتج الماء، كما يساهم في إخصاب البذور والنباتات والزهر. فيبدو الجمال والمنفعة معًا (آية الروم) فيتذوق الإنسان جمال الكون والطبيعة ويذوق من خيراتها الحسية ما يمتعه ويسعده. كما تعطي الآية ذاتها نعمة الحرمة والتواصل والانتقال بفعل الحركة المنبعثة من هبوب الرياح. فتمخر السفن البحار في حركة دائبة.. فيحقق الناس ما يحبون مما يتوجب شكرهم على نعم الله.

     .. وقد يعطى السياق القرآني دلالةً مغايرةً للمعنى المراد.. فتصبح الرياح وقفًا على حركتها الذاتية إذ تعطى المعنى الحسي وهو الحركة.. مجرد الحركة.. وهي نعمة تقف وراء حركة التسيير كلها.. برغم تجرد السياق من نعم أخرى كالمطر والإخصاب والإحياء المرتبطة بالرياح.

     قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾(13).

     يهدف القرآن الكريم من خلال استخدام التشبيه إلى التصوير والتأثير معًا. ومفردات الصورة الجمالية هنا مستقاة من الطبيعة بعناصرها المختلفة. والدقة في التشبيه تعطي للمعنى وضوحًا وتأثيرًا نفسيًّا قويًا.

     والصورة التي أمامنا تتناول حال الدنيا الفانية بحال النبات وقد جف فأضحى هشيمًا تطيره الرياح.

     ولكن «الرياح» كعنصر فاعل في الصورة يعطي سرعة الحركة الدالة على سرعة الزوال والتلاشى. فإذا كانت الرياح سابقًا عنصرًا بناءً للحياة في بهجتها ونمائها وجمالها، فهي هنا تحمل دلالة تلائم السياق العام الذي تضمنته الصورة الجميلة.

     فالمشهد الطبيعي كله مشهد سريع لايستغرق الطول أو التفصيل. ولكنه قصير كأنه يمر أمام العين كلمحة.. تلك اللمحة التي تتأكد باختزال الصورة لكل أنواع التفصيل والتجزئ وتجريدها من مكونات الصورة بامتدادها الزماني وتراخيها في التتابع الزمني والمكاني.. والإبقاء على العناصر الملائمة للهدف الديني.. وهو سرعة زوال الحياة وفنائها.

     فالماء ينزل.. نزولاً حركيًّا يتلاءم مع الحركة الكلية للصورة. والنبات يختلط مجرد اختلاط في حركة تداخل، تعطينا النتيجة فجأةً باختزال حاسم للحركة في الزمن. لنصل إلى النتيجة وهو الهشيم.. ليأتي دور الرياح في حركة حاسمة مقصودة قوية تذروه هباءً. فالسياق كله حركة، ومن ثم حملت الرياح معنى الحركة فقط.. وساهمت في معنى القصر وسرعة التلاشى. وبيان قدرة الله على الإفناء والإحياء، ولايعجزه شيء في الأرض أوالسماء.

     يقول «الزمخشري» في توضيح الصورة التشبيهية «شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها، وما يتعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات يكون أخضروارفًا ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن»(14).

     ولقد تَوَافَرَ للصورة التعبيرية كلُّ عناصر الجمال التعبيري من صدق ودقة وجمال فني، وبرز الجمال الفني في دقة التعبير عن السرعة الخاطفة المثيرة لمدركات الخيال.

     «وقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشهد كما استخدمت وسائل العرض الفنية لهذا الغرض. فهذا «التعقيب» الذي تمثله هذه «الفاء» في تتابع المراحل، يتفق مع طريقة العرض السريعة. ثم هذا الماء النازل لاتختلط به الأرض فتنبت؛ بل يختلط به نبات الأرض مباشرةً. وهذه حقيقة، ولكنها حقيقة تعرض في الوضع الخاص الذي يحقق السرعة المطلوبة.(15).

*  *  *

الهوامش:

القرآن المعجزة الكبرى.. محمد أبو زهرة ص95.

الأعراف آية 57.

الكشاف ج2 ص 66.

مختصر ابن كثير. محمد علي الصابوني ج2 ص 27.

الظلال ج3 ص 1300.

سورة فاطرة آية 9.

صفوة التفاسير ج2 ص 567.

الظلال ج5 ص 2929.

الكشاف ج3 ص 269.

سورة الحجر الآية 22.

سورة الروم الآية 46.

سورة الفرقان الآية 48.

سورة الكهف الآية 45.

الكشاف ج2 ص 392.

التصوير الفني – سيد قطب ص 129.

*  *  *

 

 

ذوالحجة 1431 هـ = نوفمبر- ديسمبر 2010م ، العدد :12 ، السنة : 34