دراسات إسلامية

بفضل القرآن الكريم : كانت علوم العربية

 

بقلم : أ. د. محمد بلاسي (*)

 

     القرآن الكريم كتاب مشعّ تنطلق منه كلّ العلوم؛ لتعود إليه لتفسّره! «فالدراسات العربية نشأت بفروعها المختلفة، متعلقة بالقرآن الكريم، كتاب الله العزيز، فكأن القرآن هو المحور الذي دارت حوله تلك الدراسات المختلفة، سواء فيها تلك الدراسات التي تتعلق تعلقاً مباشراً بتفسير القرآن، وتوضيح آياته، وتبيين معناه، واستنباط أحكام الشريعة منه، أو تلك التي تخدم هذه الأغراض جميعها، بالبحث في دلالة اللفظ، واشتقاق الصيغ، وتركيب الجمل، والأسلوب والصور الكلامية، واختلافها باختلاف المقام، حتى تل الدراسات التي تتعلق بالرسم الإملائي، والفلك، والرياضة، واستكناه أسرار الطبيعة. كل هذه الدراسات قامت أساساً؛ لخدمة الدين الإسلامي، ولغرض فهم القرآن الكريم، مصدر التشريع الإسلامي، ودستور المسلمين»(1)

     واللغة العربية «لم تصر لغة عالمية حقّاً - كما يقول نولدكه -: إلا بسبب القرآن والإسلام؛ إذ تحت قيادة قريش، فتح البدو سكان الصحراء، نصف العالم لهم وللإيمان؛ وبهذا صارت العربية لغة مقدسة كذلك»(2)؛ فأجهد العلماء أنفسهم في دراستها، واستكناه أسرارها؛ ليقفوا على مواطن الإعجاز في كتاب الله العزيز(3).

     ولا شكّ أنّ الحفاظ على كتاب الله تعالى- ودينه كان السبب القوي لنشأة الدراسات اللغوية عند العرب، بعد أنْ نشأ الاختلاط بين العرب و العجم إثر الفتوحات الإسلامية، وخيف على الإسلام وكتابه من أثر ذلك؛ وقد برزت نتيجة لذلك فروع الدراسات اللغوية، والتي يُعَدّ أهمّ مجالاتها ما يلي ـ وبإيجاز - :

     أ - المعاجم العربية :

     حيث ذهبت طائفة من العلماء إلى البادية؛ لأخذ اللغة من الأعراب الفصحاء، وتدوينها صافيةً، لم تشبها شوائب العجمة التي بدأت في الدخول إليها من الأقطار المفتوحة. ومن العلماء الأجلاء الذين أبلوا بلاءً حسناً في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي، والأصمعي، ويونس بن حبيب الضبّي، وأبو زيد الأنصاري وغيرهم(4).

     في الوقت الذي أخذ الناس في الصدر الأول للإسلام، يسألون كبار الصحابة عن تفسير بعض آيات القرآن الكريم، وغريب ألفاظه .

     وتحدثنا الروايات الإسلامية عن الصحابي المشهور «عبد الله بن عباس» بأنه كان يُسأل عن معنى ألفاظ معينة من القرآن الكريم، فيفسرها للناس، ويستشهد على تفسيرها بأبيات من الشعر العربي .

     وبذلك يمكننا أنْ نعدّ تفسير ابن عباس للقرآن، على هذا النحو، نواة للمعاجم العربية(5).

     ب - الأدب العربي :

     لقد شعر العلماء منذ الصدر الأول للإسلام بحاجتهم إلى الشعر العربي؛ للاستعانة به في فتح مغاليق الألفاظ والأساليب الغريبة الموجودة في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة؛ فأكبّوا عليه يروونه ويحفظونه ويدرسون أساليبه ومعانيه وما يدور فيه من ذكر لأيام العرب ووقائعهم. ولولا هذا الباعث الديني؛ لاندثر الشعر الجاهلي، ولم يصل إلينا منه شيء(6).

     يقرّر هذه الحقيقة أبو حاتم الرازي؛ فيقول: «ولولا ما بالناس من الحاجة إلى معرفة لغة العرب، والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن، وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة والتابعين، والأئمة الماضين؛ لبطل الشعر، وانقرض ذكر الشعراء، ولعفى الدهر على آثارهم، ونسي الناس أيامهم»(7).

     ويقول ابن عباس - رضي الله عنه -: «إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب»(8).

     ج - علوم القراءات وعلم الأصوات :

     من المعلوم أنّ موضوع علوم القراءات: بيان الوجوه التي قرئت بها آي الذكر الحكيم، وقد ظلت موضوعات هذه البحوث يأخذها الناس عن القرّاء عن طريق التلقين، حتى جاء العصر العباسي، فعكف العلماء على تدوينها، وضبط قواعدها، ونقد أسانيدها فقطعوا بها شوطاً كبيراً في سبيل الكمال(9).

     وللقراءات أهمية خاصة؛ حيث حفظت لنا أصوات اللغة العربية عبر أربعة عشر قرناً؛ حتى لتمثل - في معظمها - النطق العربيّ الأصيل؛ ومن هذا المنطلق أمكن تحديد معالم الصوتيات العربية، ومناهجها ونتائجها، فيما يعرف لدى المحدثين باسم «الفوناتيك»(10).

     د - النحو والصرف :

     ولو نظرنا إلى النحو العربي، لوجدنا أنّ الغيرة على القرآن الكريم، وصونه من التحريف على ألسنة الأعاجم؛ كان السبب في وضع قواعده .

     وتروي لنا الأخبار أنّ أبا الأسود الدؤلي، كان أول من وضع النحو، وأنّ السبب في ذلك أنه سمع قارئاً يقرأ (.. أَنَّ اللهَ بَرِيْءٌ مِنَ الْـمُشْرِكِيْنَ ورَسُوْلِهِ)(11)، بكسر اللام من: «رَسَولُه»؛ فغضب لذلك؛ وكان هذا حافزاً له على وضع مبادئ النحو(12).

     هـ - علوم البلاغة :

     أمّا دراسة الأسلوب، أو ما عرف عند العلماء فيما بعد، بعلوم البلاغة، وهي علوم البيان والمعاني والبديع، فتذكر المصادر العربية، أنّ أبا عبيد معمر بن المثنى، كان من أوائل من ألّف فيها، وغايته توضيح الأساليب القرآنية(13).

     فَيُرْوٰى أنّ الفضل بن سهل أرسل في طلب أبي عبيدة من البصرة، فلما قدم عليه سأله عن قوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِيْنِ). وقال له: «إنما يقع الوعد والإيعاد (يعني في القرآن الكريم) بما قد عُرِفَ مثله، وهذا لم يُعْرَفْ». فقال له أبو عبيدة: «إنما كلّم الله - تعالى - العرب على قدر كلامهم؛ أما سمعت قول امرئ القيس:

     أيقتلني والمشــرفيّ مُضاجعي

                    ومسنونة زرق كأنياب أغوال

     وهم لم يروا الغول قط؟ ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوْعدوا به. فاستحسن الفضل ذلك». وقد قال أبوعبيدة بعد ذلك: «وعزمت من ذلك اليوم أنْ أضع كتاباً في القرآن الكريم، في مثل هذا وأشباهه، وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة، عملت كتابي الذي سمّيته: المجاز»(14).

     و - الكتابة العربية ( الضبط والإعجام ) :

     وللخليل بن أحمد الفراهيدي جهد معلوم في شكل الحروف على نمطها المتعارف الآن؛ إذْ أنّ الخط العربي كان في صدر الإسلام خلواً من الشكل والإعجام، فجاء أبوالأسود الدؤلي ليجعل النقط ضبطاً للحروف، فعلامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وعلامة الكسرة نقطة تحته، وعلامة الضمة نقطة وسطه، وجعل التنوين نقطتين. ثم جاء نصر بن عاصم، فأعاد النظر إلى الخط بتوجيه من الحجاج بن يوسف فأشار بنقط الإعجام بعد أنْ كانت الحروف كلها مهملة؛ فوضع نقطة تحت الباء، ونقطتين تحت الياء، وواحدة فوق النون، واثنتين فوق التاء، وثلاثة فوق الثاء وهكذا ... فاختلط نقط الشكل بنقط الإعجام، و وقع الناشئون والكبار أحياناً في لبس مما يقرءون، ولكن الله - عز وجل - هدى الخليل بن أحمد إلى أنْ يميّز بين الشكل والإعجام؛ فجعل النقط للإعجام وحده، أما الشكل فوضع له ما نعرفه الآن من علامات الفتحة، والضمّة، والكسرة، والسكون، والشدّة للمضعف، والشرطتين للتنوين، وجعل للهمزة رأس عين «ء»، فكان مجموع ما تم له وضعه ثماني علامات، هي: الفتحة والكسرة والضمة والسكون والشدة والهمزة والصلة حرف: «صـ» والمدّة. وترك كتاباً يتضمن ذلك فلم يزد أحد عمّا فعل.. (15)

     ومع أنّ الخليل بن أحمد، قد وضع هذا الشكل المريح، فإنّ العلماء غبروا زمناً طويلاً، لا يجرؤون على استخدامه في ضبط النص القرآني، ويفضلون عليه النقط اتباعاً للسلف، ويسمون ضبط الخليل شكل الشعر؛ وكل ذلك لصيانة القرآن الكريم، عن أنْ يتعاوره المتعاورون بالتبديل والتغيير(16) .

     يقول أبو عمرو الداني: «وترك استعمال شكل الشعر، وهو الشكل  الذي في الكتب، الذي اخترعه الخليل، في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها، أولى وأحقّ؛ اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين، واتباعاً للأئمة السالفين»(17).

     وهكذا نرى أنّ القرآن الكريم، كان محوراً لجميع الدراسات العربية، التي قامت في الأساس لخدمته، ومن بينها الدراسات اللغوية، ولولاه لاندثرت اللغة العربية الفصحى، وأصبحت لغة أثرية، تشبه اللاتينية أو السنسكريتية التي حلت محلها الهندية(18).

     ولله در ابن خلدون؛ حيث قال في مقدمته: «تختلف لغة العرب لعهدنا، مع لغة مضر، إلا أنّ العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلنا، حمل على ذلك الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك، ويدعونا إليه»(19).

*  *  *

 

(1)    فصول في فقه العربية : د. رمضان عبد التواب ، ص 108 ، الطبعة السادسة ـ الخانجي بالقاهرة ، سنة 1420هـ .

(2)    اللغات السامية : للمستشرق الألماني نولدكه ، ترجمة د. رمضان عبد التواب ، ص 79 ، القاهرة 1963م .

(3)    فصول في فقه العربية : ص 109 .

(4)    علم اللغة بين القديم والحديث : د. عبد الغفار حامد هلال ، ص 32 ، 47 ـ بتصرف ـ ، الطبعة الثانية ـ مطبعة الجبلاوي ، سنة 1406هـ . والمدخل إلى البحث اللغوي : د. محمد السيد علي بلاسي ، ص 12 ، الطبعة الأولى ـ المطبعة العصرية ببيروت ، سنة 1419هـ .

(5)    فصول في فقه العربية : ص 109 ، 110 .

(6)    المرجع السابق : ص 111 .

(7)    كتاب الزينة : لأبي حاتم الرازي ، تحقيق حسين الهمداني ، 1/ 116 ، القاهرة 1957 ، 1958م .

(8)    الإتقان في علوم القرآن : لجلال الدين السيوطي ، 1/ 119 ، القاهرة سنة 1368هـ .

(9)    علم اللغة : د. علي عبد الواحد وافي ، ص 71 ، 72 ، ط9 ـ دار نهضة مصر ، د.ت .

(10)  علم اللغة بين القديم والحديث : ص 53 ، 54 .

(11)  سورة التوبة : من الآية 3 .

(12)  فصول في فقه العربية : ص 112. وانظر هذه الرواية في أخبار النحويين البصريين : للسيرافي ، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي وطه الزيني ، ص 12.  والفهرست : لابن النديم ، ص 66، القاهرة 1348هـ . ونزهة الألباء في طبقات الأدباء : لابن الأنباري، ص 3 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ القاهرة 1967م .

(13)  فصول في فقه العربية :ص 112 ، 113 .

(14)  يراجع ؛ معجم الأدباء : لياقوت الحموي ، 19/ 158 ، القاهرة 1936م .

(15)  مجلة الوعي الإسلامي : العدد 218 ، ص 121 ، 122 . ولمزيد من التفصيل ؛ يراجع : بحوث ومقالات في فقه العربية : د. محمد السيد علي بلاسي ، ص 113 وما بعدها ، الطبعة الثانية ـ وزارة الإعلام العمانية ، سنة 1997م .

(16)  فصول في فقه العربية : ص 114 .

(17)  المحكم في نقط المصاحف: لأبي عمرو الداني، تحقيق الدكتور عزة حسن، ص 27، دمشق 1960م .

(18)  فصول في فقه العربية : ص 115 .

(19)  المقدمة : لابن خلدون ، ص 615 ، ط. القاهرة سنة 1327هـ .

*  *  *

 

 

ذوالحجة 1431 هـ = نوفمبر- ديسمبر 2010م ، العدد :12 ، السنة : 34



(*)      3 شارع الشهيد محمد عبده – قسم النحال – الزقازيق –  جمهورية مصر العربية ..

          جوال : 0123526898 (002)  فاكس : 0552281805 (002)