الهجرة بين النسخ والإحكام

 

بقلم : الأستاذ الدكتور محمد الدسوقي

  

 

  

 

 

       يُطْلَقُ النسخ بمعنى الرفع والإبطال، ويعرف اصطلاحًا برفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر، فإذا ورد نص شرعي وعمل به، ثم ورد بعد العمل به نص آخر يرفع حكم النص الأول في كل ما يتناوله أو في بعضه، سمّى هذا الرفع نسخًا، وسمّى النص الثاني ناسخًا، والنص الأول منسوخًا.

       أما الإحكام فيُطْلَقُ بمعنى الإتقان، فالقرآن كله محكم في صياغته ومعانيه، أي متقن لا يلحقه نقص واختلاف، أو دخل أو خلل أو باطل، فلا تفاوت فيه في النسق والإعجاز، ولا يأتيه بالباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما يُطلق الإحكام على ما يقابل المنسوخ، فالحكم المحكم هو الذي لم يتطرق إليه الإلغاء والإزالة، والآية المحكمة هي التي لم ينسخ تلاوتها أو موضوعها.

       وكانت الهجرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فرضًا على المؤمنين كافة، وكان من لم يهاجر من المؤمنين فلا ولاية بينه وبين إخوانه من المهاجرين والأنصار، وذلك لكي يستطيع المؤمنون في المدينة أن يكونوا قوة وطلائع للدولة الجديدة التي تحمى الحق وتنصر العدل، وتأخذ على أيدي المفسدين والمشركين، حتى لاتكون فتنة، ويكون الدين كله لله.

       وهذه الهجرة المباركة قد فرضت على المؤمنين فرضًا، وأكرهتهم الجاهلية ببغيها وعتوها على ترك ديارهم وأموالهم وأهليهم، وهم مع هذا كانوا فرحين بها مستبشرين، لأنهم ينصرون الله ورسوله، ويجاهدون في الله حق جهاده .

ثمرات الهجرة :

       وأثمرت الهجرة ثمراتها الطيبة فقامت في المدينة أول دولة إسلامية حققت في أمد وجيز- على الرغم من كيد اليهود والمنافقين وتآمر المشركين في الجزيرة كلها – أعمالاً خالدة، وانتصارات باهرة، كان قمتها فتح مكة في العام الثامن بعد الهجرة، وتطهير البيت الحرام من الأوثان والأصنام.

       وبعد هذا الفتح المبين ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وبعد أن دالت دولة الشرك والبغي، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» رواه الإمام مسلم في صحيحه .

       ويذهب كثير من العلماء إلى أن المراد بنفي الهجرة بعد الفتح هو نفي الثواب العظيم الذي اعدّه الله للمهاجرين الأولين، فمن هاجر بعد الفتح فثوابه لن يكون كثواب هؤلاء المجاهدين السابقين، ومعنى هذا أن الهجرة الجماعية لم تنسخ بهذا الحديث، وأن النفي فيه ليس منصبًا على وقوع الهجرة بعد الفتح، ولكن على الثواب الذي يناله المهاجرون.

       وليس فيما ذهب إليه هؤلاء العلماء في تأويل الحديث، وقصر النفي على ثواب المهاجرين حجة تطمئن إليها النفس، وينزل عند حكمها العقل، فالحديث واضح في نفي الهجرة بعد الفتح، وحمل هذا النفي على معنى خاص دون دليل قاطع لا سبيل للأخذ به.

       إن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت تحولاً جماعيًا من وطن إلى وطن لا فرارًا وهروباً، ولكنها كانت أمرًا لا مفر منه، كما كانت أسلوبًا عمليًا في نشر الإسلام والدعوة إليه بعد أن فقد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمل في مكة، فقد صيرها المشركون بيئةً فاسدةً لا تصلح لنشر الرسالة الخاتمة والدعوة الجديدة، فهل تظل مثل هذه الهجرة الجماعية، ويظل التحول الجماعي من وطن إلى وطن قائمًا بعد الهجرة وبعد أن أصبح للمسلمين شوكة ودولة؟

       وقد يقول قائل: إن الظروف التي الجأت المسلمين قبل الهجرة قد تتحقق في عصر ما بالنسبة لمجموعة من المسلمين في وطن ما، فتكون الهجرة فرضاً عليهم وإن كان جزاؤهم عليها لا يصل إلى جزاء من هاجروا من مكة إلى المدينة .

       ومثل هذا القول غير صحيح، وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث إلا لإبطال مثل ذلك الزعم وإدحاضه، ولنفي كل الأسباب التي أدت إلى الهجرة قبل الفتح من الضعف والقلة وصلف الطغاة .

       إن هذا الحديث يُرشد المسلمين إلى حقيقة يجب أن تكون ماثلة أمام كل مسلم حتى لا ينسى رسالته في الحياة، وحتى يكون دائماً صورة حية للإنسان الكريم العزيز الذي يخوض الغمرات زودًا عن كيانه ووجوده ودفعًا لكل إثم أو ضيم قد ينزل به .

       وهذه الحقيقة التي يرشد إليها الحديث هي أن المسلم لايفرط في وطنه ولا يستسلم لعدوه، وعليه أن يتخذ العدة التي تكفل له الحياة التي خلق من أجلها وأمر بالحفاظ عليها والموت دونها وهي حياة العزة والكرامة ﴿وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوْلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلـٰـكِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ﴾ المنافقون: آية8 .

       إن الهجرة في عصر البعثة فرضتها ظروف معينة وقد ذهبت تلك الظروف بعد فتح مكة، فإذا جدت بعد ذلك للمسلمين فبإثم ما اجترحت أيديهم وما فرطوا في أمر دينهم وأنفسهم ذلك الدين الذي يدعو إلى القوة في كل مجالات الحياة حتى يكون للمسلمين دائمًا منزلة القيادة والريادة والشهادة على غيرهم .

       والجهاد في الإسلام ما كان ماضيًا إلى يوم القيامة إلا لدفع كل اعتداء تتعرض له الأمة الإسلامية، وما نال هذه الأمة في تاريخها القديم والحديث من ظلم واضطهاد حتى طردت من الأندلس بعد أن عاشت هناك نحو ثمانية قرونٍ، وحتى طردت من فلسطين وقامت فيها دولة من اللصوص والقتلة والعصابات التي تخطط في حقد وكيد لقيام إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات – وما حدث كل هذا إلا لأن المسلمين تفرقوا ونسوا أو تناسوا أن دينهم دين قوة في العقيدة والبدن والعدة والوحدة .

       إن الأمة الإسلامية صاحبة رسالة خالدة، ولن تستطيع حمل هذه الرسالة وتبليغها والدفاع عنها إلا إذا كانت قوية يخشى بأسها ويخطب ودهــا، على أن القوة الإسلامية إنما هي لخير البشرية وسعادتها، فهي قوة لا تسعى لاستغلال الشعوب، وانتهاك حرمات الإنسان ولكنها سلاح يحمي الحق وينصره ويقضي على الظالمين والقاسطين والذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون .

       إن ذلك الحديث الشريف حين ينسخ الهجرة بعد الفتح فإنه ينسخ كل الأسباب التي كانت من وراء الهجرة قبله، ويُشير إلى ما يجب أن تكون عليه الأمة الإسلامية من القوة والإعداد للجهاد في كل وقت حتى تدفع عن أرضها الغزاة، وحتى تكون على أهبة الاستعداد للنفير وحمل السلاح إذا ما اعتدى على بلد مسلم، وحتى لو وقع هذا الاعتداء على فرد واحد ﴿وإذا استنفرتم فانفروا﴾.

       إن الهجرة الجماعية والتحول من وطن إلى وطن منسوخة وملغاة بنص الحديث الشريف ولا يقول بغير هذا مسلم يؤمن بالعزة الإسلامية والأخوة الدينية، وحب الجهاد والإستشهاد في سبيل الله .

       أما الهجرة الفردية فمازالت محكمة أو باقية، كالهجرة من أجل طلب العلم فالإسلام دين العقل والعلم والتدبر، وطلب العلم في هذا الدين من المهد إلى اللحد، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، وكذلك الهجرة خوف الفتنة في الدين، فعلى كل مسلم أن يهجر كل وطن لا يحقق له الحرية الدينية، لأن الإسلام يرفض المهانة والذلة في الدين والدنيا، والمسلم يجود بكل ما يملك فداء لعقيدته وكرامته، ومن ثم لا يقبل أن يحيا بين قوم ينالون من حريته الدينية وإن كان يرفل في رغد العيش ومتاع الحياة الدنيا .

       وإذا كانت الهجرة الفردية باقية فإن هجرة المساوئ والتوبة منها يجب الإسراع إليها والحرص عليها، وقد أشارت بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى هذه الهجرة الدائمة إلى يوم القيامة يقول الحق سبحانه في مطلع سورة المدثر: ﴿يَا أيُّها الْمُدَّثـِّرْ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَأهْجُرْ* وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ* وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ المدثر: الآيات 1-7.

       وألاية الأولى من هذه الآيات الكريمة نداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا هذا النداء من الله لرسوله بأن ينهض لنذارة البشرية، وإيقاظها من سبات الجهل والمنكر وتوجيهها إلى طريق الخلاص والسعادة في الدارين.

       والآيات الخمس التي وردت بعد ذلك تعد دستور الدعوة الخاتمة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، ومن بين تلك الآيات الآية التي تأمر بهجر الرجز، وهو في أصل معناه العذاب، ثم كثر استعماله في كل ما أوجب العذاب وأدى إليه من المعاصي والآثام .

       روى الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي أبى معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت يا رسول الله: بايعه على الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد مضت الهجرة بأهلها»، قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: على الإسلام والجهاد والخير. قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع، قال: صدق.

       وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث فضالة بن فاقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب».

       وهذا واضح في أن الهجرة الباقية إلى يوم القيامة هي هجرة المساوئ والتوبة منها لا هجرة الأوطان ، والتخلي عنها، فهذه كما أسلفت نسخها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاهجرة بعد الفتح».

       وأخيرًا فإن الهجرة من مكة إلى المدينة لا تعد سابقة للمسلمين في هجرة أوطانهم إذا ما تعرضوا للاضطهاد، لأن تلك الهجرة كانت لها أسبابها الخاصة التي أصبحت الأمة بعد الفتح يجب ألا تتعرض لها عن طريق هجرة الضعف العقلي والعلمي والحضاري والحزبي، وهجرة التمزق والتفرق والضعف الخلقي حتى يكون المسلمون دائمًا آذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير  2008م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 32.