أهمية التاريخ الإسلامي

 (1/2)

 

بقلم : الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب

  

 

  

 

 

       وإذا كنا قد ألمحنا إلى أهمية التاريخ بصفة عامة، فأهمية التاريخ الإسلامي – لاشك – تفوق كل أهمية، ذلك أن التاريخ الإسلامي في واقع الأمر، هو الإسلام مطبقًا منفذًا، واقعًا، فتشويه التاريخ الإسلامي يؤدي بالضرورة إلى تشويه الإسلام، ودع عنك ما يقوله بعض الذين سقطوا أسرى تشويه التاريخ الإسلامي: (من أن هناك فرقًا بين الإسلام والمسلمين، وأن الإسلام يحكم على المسلمين، ولا يحكم المسلمون على الإسلام) فهذا القول – على وجاهته – غاية ما يصل إليه أصحابه، أن الإسلام منهاج رباني سماوي ولكنه (مثالي) ينوء البشر بتطبيقه، وتقعد بهم نوازعهم، وشهواتهم عن القيام به والسمو إلى ما يدعو له، ويرمي إليه.

       هذا غاية ما يمكن أن يصلوا إليه، وهو كما ترى خطر ماحق، ولذلك رأينا – فعلاً وواقعًا – من يحاج الدعاة إلى تطبيق الإسلام وتحكيمه بهذا التاريخ المشوّه وهم في نفس الوقت يعظّمون الإسلام، ويمجّدونه، بل يعتقدون أنهم – بوقوفهم في وجه الدعاة، ومقاومتهم تحكيم الإسلام، وتطبيق شرائعه، يدفعون عن الإسلام، ويحمونه من التشويه والتضليل، كتب أحدهم – وهو ليس من أصحاب الأقلام المعروفة بمناوأتها للإسلام؛ بل معروف بعداوته للأقلام المنحلة، والمنحرفة، والملحدة، كتب مقالاً طويلاً جاء فيه: (على مدى ألف وأربعمائة عام، والملوك والخلفاء يدّعون أنهم يحكمون بالإسلام، فإذا هم يجعلون الشريعة وسيلتهم إلى كل ما تعرف أنهم صنعوه بعباد الله الأبرياء المسلمين، وغير المسلمين .

       أذكر هارون الرشيد وسرفه، أذكر المأمون، وفقهاء الإسلام، وما صنع بهم من أجل قضية كلامية، أيّ إسلام تريدون؟ إسلام بني أمية الذين فعلوا ..... إسلام العباسيين الذين فعلوا ..... إسلام المماليك الذين فعلوا ..... إسلام العثمانيين الذين فعلوا ..... إسلام ... أم إسلام ..... إن عمر بن الخطاب كان فلتة .. ألا ترى أن دين الله الأقوم ينبغي أن يظل صلة بيننا وبين الله بغير قسر ولا إجبار وإذا كان الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم، في آيات شريفة كثيرة، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، فمن سمح لكم أن تبلغوا، وما أنتم بمبلغين، أو أن تحاسبوا وما أنتم بآلهة(1).

       ولتتأكد أن تشويه التاريخ الإسلامي، هو تشويه للإسلام نفسه، نسوق لك ما قاله الكاتب المصري – سلامة موسى – الذي يجعلونه أحد (الشوامخ) وأبطال عصر التنوير، قال بعد أن تحدث عن الاستبداد، وطبيعة البداوة العربية، التي ترضاه وتقبله، وتعيش به، قال: (ومن جهة أخرى، نرى أممًا مسلمةً كثيرةً، بعدت عن الروح العربية، ولكن بقي لها استبداد الخلافة .

       وقد يقال: إن القرآن لم ينصّ على الخلافة، وهذا صحيح، ولكن الإنجيل أيضًا لم ينصّ على البابوية، فكما أنه لايمكن تخلي المسيحية من تبعات البابوية، فكذلك لا يمكن أن يخلي الإسلام من تبعات الخلافة، والحقيقة أن البابوية والخلافة ترجعان إلى التقاليد المأثورة لا إلى الإنجيل ولا إلى القرآن .

       وقد انتفع الإسلام من عدم وجود الكهنة في نظامه ولكن بقاء المسحة الدينية على الخلافة، كاد يزيل هذه الميزة التي للإسلام على المسيحية(2)، هكذا تبعات الخلافة وفسادها سببه الإسلام، وهو المسؤول عنها، والخلافة هي البديل الإسلامي، للكهنوت والفساد البابوي) أرأيت؟؟!!.

اتجاه المستشرقين للتاريخ :

       لأهمية التاريخ هذه، ولأثره في الأمة، اتجه المستشرقون في أبحاثهم إلى التاريخ، حتى جاءت معظم أعمالهم، سواء الأبحاث أم التحقيق والنشر، أم الترجمة، معظمها في مجال التاريخ(3)، ونعني التاريخ بمعناه العام، التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري، والاجتماعي، وتاريخ الفرق والمذاهب، والفكر والفن والعلم، وتاريخ الرجال والطبقات، ومعاجم البلدان.

       وفي اهتمام المستشرقين بالتاريخ، وتوظيفهم له، واعتمادهم عليه لتحقيق مآربهم، اتخذوا مناهج وطرقًا تؤدي بهم إلى ما يريدون.

       ويمكن أن نتبين ملامح هذه المناهج إذا ميزنا فيها بين جانبين:

       أ – المنهج من حيث الشكل الخارجي (ونعني بذلك اختيار الموضوعات، وترتيب الاهتمام بها، وطريقة تناولها بصفة عامة).

       ب – المنهج من حيث استكمال شروطه، والالتزام بقواعده .

       وسنحاول أن نلقي نظرات سريعةً على الجانبين نتبين بعض الملامح في كل منهما، على قدر ما تسمح به هذه العجالة.

أولاً: المنهج من حيث الشكل :

       (أ) الاهتمام بتاريخ الفرق والصراع بينها، وعوامل نشأتها، ومحاولة إثارة أخبارها، ووضعها في بؤرة الشعور، لدى الأمة الإسلامية، وتلك مكيدة، كادها أسلاف لهم من قبل، حين جلس ذياك اليهودي يحكي أخبار (يوم بعاث) حتى أوْقَدَ نار العداوة بين الأوس، والخزرج من جديد، وكادت تكون فتنة، لولا أن تداركها النبي صلى الله عليه وسلم.

       (ب) العناية بتاريخ الزندقة والزنادقة، وإبرازهم في صورة أصحاب الفكر الحر، وقادة الفكر، ولهم في هذا الباب دأب عجيب غريب وتستطيع أن تمد يدك إلى أي كتاب مما يتناول أعمال المستشرقين لترى ذلك واضحًا جليًّا، فهذا (هنري كوربان) يعيش حياته مع رفيق عمره – على حد تعبير الدكتور عبد الرحمن بدوي(4) (السهروردي المقتول) فيدرس كتبه ويترجم رسائله، ويحقق وينشر مؤلفاته وكأنه وجد في هذا (السهروردي) الزنديق، الذي عاش زمن الحروب الصليبية، ولم يتورع عن أضاليله وأباطيله، التي كان ينفثها في المجتمع الصامد المثابر المصابر، أمام الهجمة الصليبية الشرسة، مما استحق عليه القتل جزاء زندقته، كأن هذا المستشرق (كوربان) وقع على كنز، فراح يعكف على تراث هذا الزنديق، وكان من أثر ذلك أن تسرّبت هذه الأفكار على أسنّة أقلام المثقفين المعاصرين، فإذا بأحدهم – وهو يكتب عن بعض القضايا الأدبية يطالعنا بعنوان بارز لإحدى مقالاته:

       (إعدام حكيم الإشراق .. كان أبشع ما اقترفته يدًا صلاح الدين الأيوبي) .. وهكذا استطاع (كوربان) أن ينتقم من صلاح الدين الأيوبي أبشع انتقام، وأن يحدث في ثقافة هذا الكاتب المسلم، هذا الصدع الخطير وأن يضع المثقفين أمام هذه المفارقة العجيبة المؤلمة: بين قهر حرية الفكر والرأي، وقهر الصليبيين.. فصلاح الدين قاهر الصليبيين، هو في الوقت نفسه قاتل (السهروردي) قهرًا للرأي، ووأدًا لحرية الفكر، وعليكم أن تختاروا معشر المثقفين، بين قهر الفكر، وقهر الصليبيين !!.

       وكنت قد كتبت تعليقًا بمجلة الأمة القطرية عدد 50 ص 96، بعنوان (أصول الأفكار، وجذورها) حاولت فيه أن أبحث عن أصل هذه الفكرة – اتهام صلاح الدين، بوأد الفكر، وقتل السهروردي – وردها إلى منبتها وجذورها، ويومها وقفت بها عند سلامة موسى(5)، حيث رأيتها في كتابه (حرية الفكر وأبطالها في التاريخ: 133) إذ قال: (ويجب ألا ننسى أن السهروردي قتل بأمر صلاح الدين الأيوبي .. فقد كان رجلاً كرديًا غير مثقف، فاستطاع الفقهاء أن يؤثروا فيه، ويُزِيِّنُوا له قتل السهروردي)..

       ويومها لم أكن قد اطلعت على ما كتبه المستشرق (كوربان) عن السهروردي، لأعلم أن (سلامة موسى) متكئ عليه في هذا الكلام، وأن أصل الفكرة، وجذورها ترجع إلى أبعد من سلامة موسى، ترجع إلى (كوربان).

       وهكذا إذا استحال عليهم أن يجدوا مغمزًا في صلاح الدين الأيوبي عن طريق التاريخ السياسي، واستعصى عليهم إنكار بطولاته، وفروسيته ونبله، ومروءته، وكرمه، وشرفه، نقبوا في تاريخ الفكر لذلك العصر ليجدوا حادثة (السهروردي) الملحد، فيضخموها، ويكبروها ويجعلوا من الملحد بطلاً، ومثالاً لحرية الرأي، والفكر، التي لم يصبر عليها صلاح الدين الأيوبي، (الكردي الجاهل) فأمر بقتل ذلك (الحكيم)!!!.

       ومما يدخل في هذا الباب – أعني توظيف تاريخ الفكر واستخدامه – ما قام به (ماسينيون) من دراسات وأبحاث حول (الحلاج)، يقول أستاذنا الدكتور محمود قاسم: (..إن الاستعمار الفرنسي للجزائر استطاع بجبروته وعسفه أن يفرض لغته على كثير من المثقفين في الجزائر وشمال إفريقية، غير أنه لم يستطع أن ينال كثيرًا من العقيدة الإسلامية، رغم ما بذل المختصون في شؤون الثقافة من محاولات لفصم العقلية الجزائرية عن طريق تمجيد التصوف الكاذب، وإشاعة الخرافات والأباطيل، على نحو ما نراه في مؤلفات (لويس ماسينون) الذي خصص حياته للكتابة في الحلاج(6) فجعله صورةً من المسيح في الإسلام، واعتقد أن ماسينيون، ما كان يعني بالحلاج قدر عنايته بتنفيذ مخطط استعماري أحكم صنعه، فقد ملأ كتابه الضخم عن الحلاج بحشد هائل من الخرافات والترهات والأباطيل، حتى يعمق الهوة بين طائفتين توجدان بالجزائر، طائفة تتمسك بالقديم فتنساق حسب ظنه، إلى اعتقاد أن هذه الخرافات والهذيانات، هي صميم الإسلام، وطائفة مثقفة بالثقافة الحديثة تتجه من جانبها إلى السخرية، والزراية بهذا الإسلام الخرافي؛ بل من الإسلام كله)(7).

       ومن المعروف أن (لويس ماسينيون) هذا (كان مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية لشؤون الشمال الإفريقي، والراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، وحين قامت الحرب العالمية الأولى – وكان قد تزوج منذ شهور – التحق بالجيش الفرنسي، وخاض معركة الدردنيل ضد الخلافة العثمانية، برتبة ضابط في جيش المشرق، ثم رأيناه مع الجيش الذي دخل القدس في سنة 1917م بقيادة اللورد (اللنبي)(8).

       ولعل من هذا الباب – عبثهم بتاريخ الفكر والعلم – ما قام به المستشرق (كراوس)، ذلك الصهيوني التشيكي الأصل، الذي عمل أستاذًا للغات السامية في جامعة القاهرة من سنة 1936-1944م حيث عثر عليه وقد شنق نفسه في مسكنه بالزمالك .

       عُني هذا المستشرق بتاريخ العلوم عند المسلمين، (وأكبّ على دراسة الكيمياء عند العرب، وركز بحثه على رسائل جابر بن حيان في الكيمياء، وانتهى في بحث نشره 1930م بعنوان (تحطم أسطورة جابر بن حيان) إلى القول: بأن الرسائل العديدة المنسوبة إلى جابر بن حيان، هي في الواقع من تأليف جماعة من الإسماعيلية)(9).

       هكذا، إنكار لوجود جابر بن حيان عبقري الكيمياء المسلم، وتمجيد (للإسماعيلية) تلك الفرقة الباطنية المنشقة المنحرفة، عن عقائد الإسلام وتعاليمه.

       فإذا علمنا أن هذا المستشرق كان عضوًا في عصابة (اشترن) الصهيونية، التي عملت مع زميلتيها (عصابة الهاجاناة) و (عصابة أرجوان زفاي) على إنشاء إسرائيل في سنة 1948م وذلك بالقتل والإرهاب وسفك الدماء، ويرجح الدكتور عبد الرحمن بدوي، وقد كان صديقًا لهذا المستشرق، ومساعدًا له في بعض أبحاثه، أن السبب في انتحاره هو (أن القرعة وقعت عليه، لتكليفه من العصابة بقتل (اللورد موين)، الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط، الذي خيل إلى عصابة (اشترن) أنه عقبة في سبيل النشاط الصهيوني، لإيجاد دولة إسرائيل، بدعوى أنه يمالئ العرب(10)، أو في القليل يحارب الإرهاب الصهيوني ضد الإنجليز في فلسطين آنذاك، التي كانت ماتزال تحت الانتذاب البريطاني، وتبعًا لذلك كان على (كراوس) أن يختار بين الاشتراك في عملية الاغتيال، أو أن ينتحر، وهو على الحالين مقتول، فيبدو أنه آثر الاختيار الثاني، أعني أن يقتل نفسه بنفسه، بدلاً من أن يشترك في قتل (اللورد موين) مما سينجم عنه إعدامه أيضا، كما حدث لمن نفذوا عملية الاغتيال)(11).

       فهذا التاريخ (الناصع) لهذا المستشرق، يدلك على قيمة أمانته العلمية، حين ينكر شخصية (جابر بن حيان) ويدعي أنه أسطورة على حين ينسب علمه إلى فرقة منحرفة، ضالة مضلة، وهي فرقة (الإسماعيلية)! والذي يجمع الأعمال الاستشراقية حول الإسماعيلية، من أبحاث ودراسات، وتحقيقٍ لرسائلها، وترجمات لها، وتاريخ لرجالها، يهوله لا شك حجم هذه الأعمال، ويدرك بأدنى تأمل ما يريده المستشرقون من وراء هذه الأعمال، وهذه الفرقة.

       (ج) الفقز وراء العصر الإسلامي، والاهتمام بالتاريخ القديم، لأقاليم دار الإسلام إحياء للفرعونية، والبابلية، والآشورية، والفينيقية، ونحوها، إثارة للنعرات الإقليمية، وتمزيقًا لجسد الأمة الإسلامية.. ونظرةً إلى أعمال أحد المؤتمرات الدورية التي يعقدها المستشرقون – وهو المؤتمر الخامس عشر، الذي انعقد في (كوبنهاجن) سنة 1908م – تريك – صدق ما أقول، فقد كان جدول أعمال هذا المؤتمر على النحو التالي:

(1)   التاريخ البابلي.

(2)   آثار مصر التاريخية.

(3)   تاريخ مصر القديم واكتشاف البردي.

(4)   المدافن الملكية من السلالة الرابعة عشرة.

(5)   المدافن الملكية من السلالة الخامسة.

(6)   اكتشاف الكرنك .

(7)   أميرات مصر وملكاتها القديمات .

(8)   ما بين الكتب المقدسة والآثار المصرية.

(9)   مشروعات اليهود الدينية.

(10) حفريات أريحا والآثار الكنعانية.

(11) النظام الكنائسي في آسيا في القرن الرابع عشر.

(12) رسوم الملك جوستينيان.

(13) فضل الكنسية في إبطال الرق في القرون الوسطى.

(14) تاريخ الشرق والإسلام.

(15) اقتصاد العرب المالي في يد الفتح المصري.

(16) تاريخ بني إسرائيل.

(17) هيكل جزيرة أسوان وآثارها المكتشفة(12).

       وقد بذلوا جهودًا مضنيةً في البحث والتنقيب، والدراسة، والإشادة بهذه الحضارات البائدة، والتنويه بشأنها، وإغراء أهل كل إقليم بماضيه القديم حتى صارت الفرعونية في مصر مثلاً تناطح العروبة، وأصبح قرن الشر يطلع علينا من آن لآخر، في صورة هذا السؤال :

       فرعونيون أم عرب؟ وهكذا في كل أقاليم ديار الإسلام!!.

       وعلى حين كانت الثقافة، وكان التعليم، يتجاوز العصور التي قبل الإسلام ويوجز الحديث عنها، بدأ الاهتمام بها، ووضعها في مركز الشعور وتستطيع أن تتبين ما أقول إذا قرأت هذا الكلام لطهٰ حسين، قال: (ولم ينس الفتى – يقصد نفسه – يومًا خاصم فيه ابن خالته، الذي كا طالبًا في دارالعلوم، ولج بينهما الخصام، فقال الدرعمي للأزهري: ما أنت والعلم، إنما أنت جاهل لاتعرف إلا النحو والفقه، لم تسمع قط درسًا في تاريخ الفراعنة، أسمعت قط باسم رمسيس أو أخناتون؟ وبهت الفتى حين سمع هذين الاسمين.. وحين سمع ذكر هذا النوع من التاريخ، اعتقد أن الله قد كتب عليه حياةً ضائعةً لا غناء فيها، ولكنه يرى نفسه ذات ليلة في غرفة من غرفات الجامعة يسمع الأستاذ أحمد كمال رحمه الله، يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، ويذكر رمسيس وأخناتون، وغيرهما من الفراعنة، ويحاول أن يشرح للطلاب مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية، ومنها اللغة العربية، ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة المصرية القديمة يردها إلى اللغة العربية مرة وإلى العبرية مرة، وإلى السريانية مرة أخرى، والفتى دهش ذاهل، حين يسمع كل هذا العلم.. وهو يعود إلى بيته ذلك المساء، وقد ملأه الكبر والغرور، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخرًا منه ومن دار علومه، التي كان يستعلي بها عليه، وهو يسأل ابن خالته، أتتعلمون اللغات السامية في دارالعلوم؟ فإذا أجابه بأن هذه اللغات لاتدرس في دار العلوم، أخذه التيه، وذكر العبرية والسريانية، ثم ذكر الهيروغليفية وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون)(13).

       وهكذا كان الأزهريون لايسمعون باسم رمسيس وأخناتون، وكانت دار العلوم تمر على تاريخ الفراعنة مر الكرام، فلما جاءت الجامعة المصرية، وجاءت مناهج المستشرقين، صار تاريخ الفراعنة، وحضارة الفراعنة، ولغة الفراعنة محل عناية بالغة، جعلت للفرعونية مكانًا ومنزلةً، مما أدى إلى أن تصير الفرعونية توجهًا مطروحًا بين التوجهات، ثم إحياء لإقليمية ضيقة ذات حدود محصورة مقصورة، وما حدث في إحياء الفرعونية حدث مثله مع البابلية، والآشورية، والفينيقية، وأخواتها، مما نجني ثماره علقمًا بهذا التشرذم الذي نعيشه الآن .

*  *  *

الهوامش :

(1)     بتصرف يسير من مقال الأستاذ ثروت أباظه – أمين اتحاد الكتاب (جريدة الأهرام) القاهرية 12/4/1987م، وتأمل العبارات لترى النظرة الغربية للدين ولصلته بالحياة .

         وانظر أيضًا: أحمد بهاء الدين: جريدة الأهرام 15/5/1987م لترى نفس الرؤية النصرانية الغربية للدورة في الحياة

(2)     حرية الفكر وأبطالها في التاريخ: 66، 67.

(3)     انظر بحثاً لنا بعنوان: المستشرقون والتراث – لترى مدى هذا الاهتمام في مجال التحقيق والنشر، حيث بلغت نسبة المنشور في التاريخ 73٪ .

(4)     راجع موسوعة المستشرقين: 335-341.

(5)     كاتب مصري، توفي سنة 1958م ذو نزعة صليبية تغريبية، لا يخفى عداوته وتحقيره، لكل ما هو شرقي، كان صاحب هدف وغاية، تتولى دارالمستقبل للنشر بالقاهرة والإسكندرية، نشر مؤلفاته، وإذاعتها، تحت عنوان (تراث من الكفاح الهادف)، واقرأ عنه بعض إشارات في كتاب أستاذنا محمود محمد شاكر (أباطيل وأسمار) وعندها تعرف طبيعته وغايته وهدفه.

(6)     مما يذكر بأسى، أن عالمًا جليلاً مستنيرًا، أسرف على نفسه وعلى قرائه، ذات حديث إلى مجلة إسلامية كبرى، فمجد المستشرقين، وما قاموا به من عمل في سبيل خدمة ثقافتنا وتاريخنا، ولما أراد أن يستدل على قوله لم يجد إلا عمل (ماسينيون) في تراث الحلاج ودراسته، وهذا يشهد بما وقعنا فيه من تغرير وخداع.

(7)     د. محمود قاسم – الإمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية: ص 7 وانظر الفصل الثاني من ص 35-70 دارالمعارف القاهرة 1979م .

(8)     لمزيد من التفصيل، انظر: عبد الرحمن بدوي – موسوعة المستشرقين 365-370 دكتور محمد البهي – الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي 556، دونالدمالكولم رايد، جامعة القاهرة، والمستشرقون، ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم، بحث منشور بمجلة الثقافة العالمية عدد 38 ص 18، 19، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت .

(9)     د. عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين 326.

(10)  قلت: بل كان قتله في القاهرة لمجرد إحراج مصر مع بريطانيا، وتحميل مصر – التي كانت في صراع مع بريطانيا بسبب الجلاء – مسؤولية قتله، الذي كان ممكنا أن يؤدي لولا أن لطف الله بمصر وقبض على قاتليه الصهيونيين – إلى تذرع بريطانيا بهذا الحدث، كما تذرعت بأمثال له من قبل – إلى فرض سيطرة وقيود تأديبية على مصر.

(11)  د. عبد الرحمن بدوي – معجم المستشرقين: 325-330.

(12)  نجيب العقيقي – الاستشراق والمستشرقين: 1103، 1104.

(13)  انظر: دونالدمالكولم رايد – جامعة القاهرة والمستشرقون – ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم – بحث نشرته مجلة الثقافة العالمية عدد 38 ص 11 يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.

 

محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير  2008م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 32.