ابن سيرين وتعبر الرؤيا

 

بقلم : الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ الرياض

  

 

  

 

 

       إذا كان يوسف عله السلام، قد خصّه الله سبحانه بتعبير الأحلام، كما جاء في خبر ذلك، في سورة (يوسف)، فإن الله يخص بعض عباده بفطنة وذكاء في كل وقت وزمان، بل في كل مجتمع، ويأتي تعبير الرؤيا كفلق الصبح.. وهي خصوصية يحث الإسلام على احترامها وعدم التسرع فيها، كما نلمس اليوم من أناس يعجلون في التعبير، ويجازفون في إصدار الأحكام .

       مع أنه روي ممن يعبّرون الأحلام، بأن للرؤيا خصائص، منها أن يكون الرّايء صحيحاً ولا مرض به، صلى العشاء في جماعة ونام على وضوء وذكر الله وقرأ آية الكرسي عند نومه، وأن يكون الوقت بين شدة الحر، وشدّة البرد، وأن يكون في وقت جني الثمار..

       أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر أن الرؤيا على جناح أو رجل طائر، ومن رأى رؤياً في منامه، فليذكر الله ثم ينقلب على جنبه الآخر، ويذكر الله ويستعيذ بالله من شرّها، ويسأله خيرها، ولايخبر أحدًا، فإنها لاتضره وأن الرؤيا غير الحلم.

       ومحمد بن سيرين، هو مولى أنس بن مالك رضي الله عنه. كان أبوه سيرين من سبي عين التمر، أسره – كما قال ابن كثير- خالد بن الوليد في جملة السبي، فاشتراه أنس ثم كاتبه، وقد ولد له من الأخيار جماعة، منهم محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة كلهم تابعيون ثقاة أجلاء رحمهم الله. قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان وتوفى عام 110هـ وصفه هشام بن حسان بأنه أصدق من أدرك من البشر، فكان إذا ذكر عنده رجل بسوء، ذكره بأحسن ما يعلم، وقد وهبه الله بصفات كثيرة من السمت والخشوع والهدي، فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله، وكان يدخل السوق نصف النهار، فيكبر الله ويسبحه ويذكره، ويقول: إنها ساعة غفلة الناس، وفي هذا يقول: إذا أراد الله بعبده خيرًا جعل له واعظاً في قلبه يأمره وينهاه، كما أنّه يرى من ظلم الإنسان لأخيه، أن يذكر عنده بأسوأ ما يعلم نه، ويكتم خيره.

       ويعد محمد بن سيرين من الزاهدين الورعين، حيث يرى العزلة عن الناس عبادةً حتى إنه إذا ذكر الموت. مات منه كل عضو على حدته، وفي رواية: كان يتغير لونه، ويُنكر حاله، حتى كانه ليس بالذي كان ..

       وقد أعطاه الله فراسةً عجيبةً في تعبير الرؤيا، حيث كان يُضرَبُ المثل به، في هذا.. من حيث قوة الإصابة وتمكين القدرة ليأتي جوابه كفلق الصبح، وإذا سأله شخص عن رؤيا، يقول له: اتق الله في اليقظة ولا يضرك ما رأيت في المنام. وفي هذا الموقف، سأنقل للقارئ الكريم بعضا من تعبيراته للرؤيا التي عُرِضَتْ عليه، حسبما ذكر ابن كثير – رحمه الله- في تاريخه ليقف القارئ على الموهبة التي منحها الله لمحمد بن سيرين في هذا المجال، كما أنه قد ألف كتابًا صغيرَ الحجم، عن آراء ابن سيرين في الأحلام وتعبيره لها.. ومن ذلك:

       - أن رجلاً قال له يوماً: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال له: فتش على امرأتك، فإنهاأمّك ففتش.. فإذا هي أمه، وذلك أن الرجل اُخِذَ من بلاده سبيًّا وهو صغير، ثم مكث في بلاد المسلمين، إلى أن كبر ثم سبيت أمّه فاشتراها جاهلاً أنها أمه، فلما رأى هذه الرؤيا، وذكرها لابن سرين، فأمره أن يُفتش في ذلك الأمر، ففتش، وبأن له حقيقة الأمر حيث وجد الأمر على ما ذكره بأن زوجته هي أمه، وظهر التعارف بينهما.

       - وقال له آخر: رأيت كأني دُست بقدمي، أو قال: وطئتُ تمرةً، فخرجت منها فارةٌ: فقال له تتزوج امرأة، أو قال: تطأ امرأةً صالحةً تلد بنتاً فاسقة، فكان كما قال.

       - وقال له رجل آخر: رأيتُ كان على سطح بيتي حبّات شعير، فجاء ديك فلقطها، فقال له: إن سرق لك شيء فأتني فوضعوا بساطاً على سطحهم سرق فجاء إليه وأخبره، فقال: اذهب إلى مؤذن محلتك فخذه منه، فجاء إلى المؤذن فأخذ البساط منه .

       - وجاء إليه رجل فقال له: رأيتُ الحمام تلقط الياسمين، فقال له: مات علماء البصرة .

       - وأتاه رجل فقال: رأتُ رجلاً عريانًا واقفًا على مزبلة، وبيده طنبور يضرب به، فقال له ابن سيرن: لاتصلح هذه الرؤيا في زماننا، إلا للحسن البصري، وهو والله الذي رأيت، فقال السائل: نعم. قال لأن المزبلة الدينا، وقد جعلها تحت قدميه، أما عريه: فتجرّه عنها، والطنبور الذي يضرب به هي المواعظ التي تقرع بها آذان النّاس.

       - وجاء إليه رجل فقال: يا ابن سيرين، رأيت كأني أستاك، والدم يسيل من فمي، فقال له: أنت رجل تقع في أعراض الناس، وتأكل من لحومهم .

       - وقال له آخر: رأيتُ كأن لحيتي قد طالت، حتى جززتها، ونسجتها كساء وبعته في السوق، فقال له: اتّق الله فإنك شاهد زور.

       - وجاءه يومًا رجل، فقال يا ابن سيرين، لقد رأيت كأني أرى اللؤلؤ في الحمأة، (الحمأة الطين الأسود المنتن) فقال له: أنت رجل تضع القرآن، والعلم عند غير أهله، ومن لا ينتفع به.

       - وجاءته امرأة، فقالت رأيت كأن سنورًا – وهو من أسماء القطّ – أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال لها محمد بن سيرين رحمه الله سرق لزوجك ثلاثمائة درهم، وستة عشر درهمًا؟ فقالت صدقت فمن أين أخذته؟ قال: من هجاء حروفه، وهي حساب الجمل: فالسين ستون والنون خمسون، والواو ستة، والراء مائتان – والجمّل هو المعروف عند العامة في نجد بحساب الريحاني أو حساب الأرقام – ثم قال لها: وذلك مجموعة ثلاثمائة وستة عشر (316)، ثم قال لها: ما لون السنور؟ قالت: أسود. قال السارق عبد في جواركم، فألزموا العبد الأسود الذي كان في جوارهم، وضرب حتى أقرّ بالمال المذكور. ولكل موقف عند ابن سيرين – رحمه الله – تعبير، ولكل فصل من فصول السنة قرينة، فقد قال له رجل: رأيت لحيتي قد طالت، وأنا انظر إليها، فقال له: أمؤذن أنت؟ قال: نعم: فقال له: اتق الله ولا تنظر إلى دور الجيران، عندما تصعد للآذان (البداية والنهاية لابن كثير 274:9).

صدق وهو كذوب

       جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استعمله حارسا على الصدقة، وكانت الصدقة ذلك الوقت عندما تُجبى، تجمع في المسجد، وفي الليل كان أبو هريرة، حارسًا أمينًا يقظاً، مهتمًا بما أوكله إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه في إحدى الليالي، شخص صار يحثو من هذه الثمار، فأمسكه أبو هريرة رضي الله عنه، وقال له: لأبلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنك، فقال: دعني فإني محتاج وفقير وذوعيال ولن أعود!

       فتركه أبوهريرة – رضي الله عنه – لما قال من حاجته وفقره، وعياله الذين قد يكونون جياعًا، وأوعده بأنه لن يعود، وصدقه.. ولما أصبح سأله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله الكريم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة)؟ فأخبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما قال: وإنه رحمه وعطف على عياله، وإنه لن يعود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَمَا إنّه سيعود) .

       وفي الليلة الثانية ترصّد له أبو هريرة، فلما جاء وبدأ يحثو من هذا الطعام، أمسكه وقال له: أما إني سأبلغ عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وعدت بأنك لن تعود، وها أنت قد عدتَ، فقال مثل مقالته السابقة في الليلة قبلها، وأنه لن يعود.. وبعدما أصبح سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة)؟ فأخبره بما قال، وإنني رحمته فخليت سبيله، ووعد ألايعود، فأجابه – صلى الله عليه وسلم – بقوله الكريم: (أَمَا أنه سيعود)، وفي الليلة الثالثة ترصد له فجاء في موعده، وعمل كما عمل في الليلتين السابقتين، فأمسكه أبو هريرة، قائلاً: هذه المرة الثالثة التي تعد وتخلف أنك لن تعود، وتعود.. فقال له: يا أبا هريرة دعني أعلمك بكلمات تنفعك ولا يقربك شيطان ويكون عليك من الله حارس، إذا قلتها في الصباح حتى تمسي، وإذا قلتها في المساء حتى تصبح؟ قال أبو هريرة: نعم، فقال: آية الكرسي: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فقرأ الآية كلها (البقرة 255)، فأخبر بذلك رسول الله في الصباح.

       فقال صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب، أتدري من تخاطب منذ ثلاث ليال: إنه شيطان وفي رواية إنه إبليس). وجاء عند بعض العلماء حكاية مماثلة، مضمونها أن رجلاً ذهب مبكرا لصلاة الفجر، وفي الطريق وقع في ماء خارج من أحد البيوت، فتخوّف من النجاسة، فرجع إلى بيته، واغتسل وغيّر ثيابه، ثم أعاد الوضوء، وذهب للمسجد فوقع مرةً ثانيةً، فعاد إلى بيته وعمل مثل ما عمل في الأولى .

       وذهب إلى المسجد وفي الطريق لقي شخصًا، ومعه فانوس يضيء له الطريق فقال: من أنت أيها الرجل الذي أضأتَ الطريق؟ قال: أنا إبليس بعدما توضأتَ الأولى غُفِرَ لك جميع ذنوبك، وفي الثانية غُفِرَ لك ولأهل بيتك، وجئتُ إليك لأساعدك مخافةَ أن يُغْفَرَ لأهل البلد كلهم .

*  *  *

محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير  2008م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 32