الاستشراق والاجتهاد الفقهي

(1/2)

 

بقلم : الأستاذ الدكتور محمد الدسوقي / جمهورية مصر

  

 

  

 

 

       يقتضي الحديث عن موقف الفكر الاستشراقيّ من الاجتهاد الفقهيّ تناول عِدة قضايا تقدم في مجموعها تصورًا متكاملاً عن هذا الموقف، لأن ذلك الفكر في حديثه عن الاجتهاد كان يحاول أن يَهدم الأساس الذي ينهض عليه، ويطعن في الآثار التي تمخضت عنه، ويُشوّه جهد العلماء الذين كان لهم دور بارز في قوته والدعوة إليه .

       وأما تلك القضايا التي يقتضي منهج البحث الحديث عنها ولو على وجه الإجمال فأهمّها ما يلي:

       أولاً: الاستشراق والشريعة الإسلامية .

       ثانياً: الاستشراق والدراسات الأصولية.

       ثالثاً: الاستشراق والفقه الإسلامي .

أولاً: الاستشراق والشريعة الإسلامية:

       لايعرض الحديث عن الاستشراق والشريعة الإسلامية لكل ما جاء عن المستشرقين من حيث مصدر هذه الشريعة وعمومها وخلودها وصلاحيتها للتطبيق الدائم، وإنما يعرض في لمحات إلى ما صدر عنهم من أراء حول الشريعة الغرّاء تتعلق بالاجتهاد أو تشير إليه .

       إنّ جَمهرة المستشرقين يعزون تخلّف المسلمين وضعفهم وركود ريحهم في العصر الحديث إلى الشريعة الإسلامية؛ لأنها جمعت بين أمور المعاش والمعاد، وأن أحكامها سَرمديّة لا تتغيّر ولا تتبدّل، ولهذا لا تراعي في تطبيقها اختلاف الأزمان والبيئات(1). وفضلاً عن ذلك فهي شريعة لا تعرف حرّية الفكر، ولا تؤمن بتطوّر العلم، ولذا كانت متحجّرة، لا تستجيب لكل جديد من المعرفة، ويرجع ذلك إلى الإيمان في هذه الشريعة بالقضاء والقدر الذي حمل المسلمين على الجمود والركود(2).

       وجاء في محاضرة ألقاها «رينان» في السربون أن الإسلام لا يُشجّع على العلم والفلسفة، والبحث الحرّ؛ بل هو عائق لها بما فيه من اعتقادات للغيبيّات وخوارق العادات، والإيمان بالقضاء والقدر، ومن اشتغل بالفلسفة من المسلمين اضطهد وأحرقت كتبـــه، وما وصل إليه هؤلاء في الفلسفة فيس له قيمة كبيــرة، وقــال: وما يتميـــز به المسلم هـو بغضه للعلم واعتقـــاده أن البحث كفر، وقلة عقل لا فائدة فيه(3).

       كذلك حاول بعض حكّام الغرب - وهؤلاء لايعرفون عن الإسلام إلا ما يُردّده الاستشراق من أباطيل – أن يلصق بالتشريع الإسلامي تهمة التحجّر والتخلّف للمسلمين في العصر الحاضر(4).

       فالاستشراق يقضي على الشريعة بأنها جامدة وتحارب التطـور العلمي وتنفر من كل تغيير وتجديد، لأنها جمعت بين أمور الدين والدنيا، ولأن مبادئها وأحكامها تَعوق حركة العقل في البحث والتفكير.

       وهذا الموقف من الاستشراق يدحضه أن البشرية قبل نزول الشريعة الإسلامية كانت تعيش في ظلمات العقائد والقيم والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة بدأت البشرية عهدًا جديدًا من التقدّم والحضارة الإنسانية، والغرب نفسه ما كان له أن يتحرّر من أوزار العصور الوسطى، لولا الشريعة الإسلامية لأنها شريعة العقل والعلم والمساواة والعدالة، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر بالنظر والتفكير، وطلب العلم من المهد إلى اللحد كثيرة، لا يماري فيما تدعو إليه كل من يحترم عقله، ويأخذ نفسه بالمنهج العلمي الذي يقوم على الموضوعية والأمانة والدّقة والحرص على معرفة الحقيقة دون نظر إلى مصدرها أو قائلها.

       على أن الاستشراق فيما ذهب إليه من مزاعم وآراء فاسدة لا يريد للأمة الإسلامية أن تنهض وتتقدّم، وإنما كان يحاول من وراء تلك المزاعم والآراء أن يتخذ المسلمون القوانين والتشريعات الغربية دستورًا لحياتهم، وقانونًا يطبِّقونه في كل شؤونهم(5)، وهي محاولة تتغيا أن يتخلى المسلمون عن دينهم وأحكام شريعتهم لأن الاستشراق يُدرك أن مناط قوة المسلمين وعزتهم وتأبيهم على الخضوع لغيرهم في اعتصامهم بدينهم وهو لا يريد لهم أن يكونوا أقوياء وأعزة .

       إن الاجتهاد الفقهيّ هو الذي أثمر تلك الثروة الرائعة من الاجتهادات والآراء التي عالجت كلّ مشكلات الأمة علاجاً يشهد للفقهاء بسعة الأفق وأصالة النظرة العلميّة ودقة الاستنباط وسلامته من الأهواء(6) وهم قد بلغوا في هذا مالم تبلغه أمة قبلهم ولا بعدهم(7).

       والاستشراق في حملته على الشريعة ورميها بالجمود والتحجّر يُلغي كل ثمرات الاجتهاد الفقهي ويحكم عليه بأنه اجتهاد لم يقدّم جديدًا مفيدًا في مجال التشريع، وأن على الأمة الإسلامية أن تتخلى عن الاهتمام بدراسة التراث الفقهي فلا جدوى من دراسته، وعليها أن تُولّي وجهها نحو القوانين والتشريعات الغربية حتى تلحق بركب الأمم المتقدمة، وتسهم بدور إيجابيّ في الحضارة المعاصرة .

ثانيًا: الاستشراق والدراسات الاصولية :

       يُعدُّ علم الأصول منهج البحث والاجتهاد الفقهي، وكتابات المستشرقين في هذا العلم قليلة بالنسبة لما كتبوه في سائر العلوم الإسلامية، ومع قلة هذه الكتابات تحمل من الخطورة مالا يقلّ عن خطورة كل ما كتبوه في غيره من هذه العلوم، بل إن الأفكار والتصورات التي بنوا عليها آراءهم المشوّشة في العقيدة والتشريع الإسلاميين أنما بنيت على نظرتهم وتصورهم لمفاهيم أصول الفقه وقضاياه(8).

       والذي يتتبّع ما كتبه المستشرقون في أصول الفقه يلحظ من أول وهلة سوءَ النية، فهم قد اهتموا بمصادر التشريع أو الأدلة، ولكنهم لم يتكلموا في الأحكام والدلالات اللّغوية والمقاصد التشريعية، وهذا الاهتمام بالأدلة دون الأحكام يُشير إلى حرصهم على هدم الدليل أو التشكيك في صحته لأن هدم الدليل أو الطعن فيه يعني بطلان ما بني عليه من أحكام .

       إن أدلة الأحكام هي النص الشرعيّ قرآنًا أو سنة، ثم الاجتهاد في نطاق هذا النص، وللاجتهاد وسائل متعددة حرَّر علماء الأصول الكلام فيها، وإن كان بينهم اختلاف في بعضها من حيث الأخذ به في الاجتهاد والاستنباط .

       وأول أدلّة الأحكام، ومصدرها الرئيسي هو القرآن الكريم والمستشرقون في حديثهم عن هذا المصدر ينطلقون من مبدأ الاعتقاد ببشرية القرآن، وهم فيما ذهبوا إليه قد تباينت أراؤهم في تحديد هذا المصدر وإن كانوا مُجمعين على أنه ليس هو الوحي الإلهي .

       فمن السمتشرقين مَن رأى أن القرآن قد تأثـّر بالبيئة الجغرافية والحياة الدينية والثقافية للعرب(9)، فالقرآن من ثمَّ وحي البيئة الصحراوية بهجيرها وحياتها الاجتماعية ومفاهيمها الدينية والفكرية، وهو لهذا لا يصلح لغير البيئة التي انبثق عنها، وانعكست قيمها وظروفها على ما اشتمل عليه من أحكام وتشريعات، وهذا يعني أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست عالمية .

       ومن المستشرقين مَن ذهب إلى أن مصدر القرآن هم الحنفاء(10)، ومنهم من زعم أن التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية كانت مصدر كل ما اشتمل عليه من أحكام وآداب(11).

       فالاستشراق في حديثه عن مصدر القرآن قد اختلف في تحديد هذا المصدر، ومرَّد ذلك إلى أن المستشرقين بدأوا دراستَهم للقرآن وهم يعتقدون ببشريته «وكذب» محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته فراحَ كل منهم يُنقّب عن مصدر لهذا الكتاب فكان التناقض والاضطراب في بيان ذلك المصدر مما يؤكّد أنهم في دراستهم للمصدر الأول للأحكام ناكبون عن المنهج العلمي ومكبلون بمعتقداتهم وأهوائهم .

       وإذا كان الاستشراق قد اضطربت أقواله في تحديد مصدر القرآن فإنه في حديثه عن أحكام هذا الكتاب المُعجز قد جاء تعبيرًا عن ذلك الاضطراب في تحديد المصدر، فمثلاً بروكلمان عقد فصلاً في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية عن تعاليم محمد» أعطى فيه صورة مشوَّهة لأركان الإسلام وهو في هذا لا ينفك مذكّرًا بأن هذه الأركان قد انبثق عنها فكر محمد، ومُعظمها قد استقاه من التوراة والإنجيل وعادات الأمم الخالية ومعتقداتها .

       وبلـغ التعصب ببعض المستشرقيــن أن ذهب إلى أن اشتمال القرآن على مبادئ عادلة وفضائل كاملة لا يعني أنه من عند الله ويوازن بين القرآن والتوراة والإنجيل، ويرى أنهما أرقى من القرآن، فالتعاليم التي جاء بها أشرف من تعاليمه، ومن ثم فليس وحيًا إلهيًا، وإنما هو تلفيق من شتّى المصادر الدينية وغيرها(12).

       وقد هاجم جوستان لوبون أحكام القرآن الكريم باعتبارها أهمّ عامل من عوامل الانحطاط الفكريّ لدى المسلمين(13).

       وكان موقف الاستشراق من السنة النبويّة كموقفه من القرآن الكريم، فهذه السنة التي تَفصل وتُبيِّن أحكام هذا القرآن ليست صحيحة، وقد قام المسلمون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم بوضع الأحاديث وكان للأهواء والمنافع الشخصيّة والاختلافات السياسية من وراء ظاهرة الوضع؛ لأن تفرُّق المسلمين بعد الفتنة الكبرى وظهورَ الأحزاب المختلفة نَجَم عنه صراع الافتراء، انتصارًا للاتّجاهات المتباينة والآراء المتعارضة .

       ومن المتسشرقين الذين كان لهم ضلع كبير في الطعن في السنة وأنها لا تُعدّ مصدرًا صحيحًا للأحكام «جولد زيهر» و«شاخت» فقد ذهب الأول إلى أن الأحاديث جاءت نتيجة للتطور الديني والسياسي في القرنَين الأول والثاني وأن الأحاديث الموضوعة لا يمكن إسنادها إلى الأجيال المتأخّرة وحدها. وهذه إما قالها الرسول أو من عمل رجال الإسلام القدامىٰ، وأن الأحاديث مع هذا أخذت من العهد القديم والجديد وفلسفة اليونان وحكم الفرس والهنود.. إلخ(14).

       وأما شاخت فيصفُ علماءَ المسلمين كافة في القرون(15) الثلاثة الأولى بأنهم كانوا كذَّابين غير أمناء، وأن الأحكام الفقهية لاترجع إلى أصول دينية وإنما ترجع إلى أحاديث مكذوبة، وضعها الفقهاء واخترعوا لها أسانيد، ويقول في هذا: إن أكبر جزء من أسانيد الأحاديث اعتباطيّ، ومعلوم لدى الجميع أن الأسانيد بدأت بشكل بدائي، ووصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري(16)، وما قاله كل من جولد زيهر وشخت لا يطعن في صحة السنَّة فحسب وإنما يصور الأجيال الأولى في تاريخ الأمة الإسلامية بأنها لا تؤتمن على الدين، وأن الصراع بينها كان من أهم أسباب الافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إشارة صريحة إلى أن قبول الأمة لكل ما نُقِل عن تلك الأجيال يحتاج إلى إعادة نظر.

       ويتّضح مما أوردته عن النص الشرعي من آراء للمستشرقين أن هذه الآراء لاتقوم على منهج علميّ(17) من جهة، وأنها كانت تريد للأمة أن تنفض يدها من تراثها وجهد علمائها من جهة أخرى، وأن الاجتهاد الفقهي لم يعتمد على نصوص صحيحة، وأن كل استنباطات الفقهاء لا وزن لها، ولا يجوز الأخذ بها.

       وكما كان للاستشراق موقفه المتحامل على المصدر الأول للأحكام كان له هذا الموقف من الاجتهاد ووسائله، فقد خاض في قضايا أصولية لا يعرفها معرفة دقيقة، وذهب إلى أن الفقهاء قد لجأوا إلى تلك الوسائل نصرة لمذاهبهم لا أداة علمية للبحث الفقهي .

       وإذا كان الاجتهاد من حيث هو بذل للجهد واستفراغ للوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي نوعًا واحدًا فإنه من حيث كيفيته ينقسم قسمين:

1-           اجتهاد فردي .

2-           اجتهاد جماعي .

       ولا فرق بينهما من حيث الوسائل التي يعول عليها في الاستنباط، ويصبح الفرق بينهما منحصرًا في أن الأول يصدق على كل اجتهاد لم يثبت اتفاق المجتهدين فيه على رأى في المسألة، على حين أن الثاني يعرّف بأنه كل اجتهاد اتفق المجتهدون على رأي في المسألة(18).

       * وأهمُّ وسائل الاجتهاد بنوعيه: القياس والمصلحة والاستحسان والعرف.

       وكان للفكر الاستشراقيّ آراؤه في هذه الوسائل، وقبل الإشارة إلى طرف من هذه الآراء أورد بعض ما جاء عن هذا الفكر في الإجماع الأصوليّ(19)، والاستشراق في حديثه عن هذا الإجماع لا يفرق بين ماهو معلوم بالدين بالضرورة ويذكر على أن الأمة أجمعت عليه وبين الإجماع بمفهومه الأصوليّ كما أن منهم من يذهب إلى اعتبار العوام من أهل الاجماع، ويرى بعضهم أن نظرية الإجماع كانت من عوامل الجمود في الاجتهاد الفقهي، لأنها أكدّت الرأي القائل بغلق باب الاجتهاد، وهذه النظرية ليس لها مستند من الوحي الإلهي، وقد قرّرها النظر التشريعي التقليديّ، فهي نظرية انتحلها الفكر الفقهيّ، ومن ثم كانت في أصل نشأتها نظرية بشرية أو إنسانية، ولذلك كانت نظرية دخيلة مستوردة لا يعرفها الفقه الإسلامي(20).

       وموقف الاستشراق من الإجماع كما أومأت إليه يُعبّر عن اضطراب في الفهم، وعدم معرفة صحيحة به، ومحاولة للحكم عليه بأنه كان من عوامل التخلّف الفقهي، فضلاً عن أنه لا ينهض على أصل من الوحي الإلهي، وهذا كله خطأ في التصور أو فساد في الرأي.

       وإذا كان القياس أقلَّ المصادر الأصولية تعرّضًا للهجوم والتشويه من قبل المستشرقين ويُقرّرون أنه مصدر محكَم ومأمون للوصول إلى الحكم الشرعي، فإن منهم مع هذا من يحاول أن يجعل القياس كالرأي وأن الإمام الشافعي اصطنع لفظ القياس بدل الرأي، يقول شاخت: طريقة القياس هي بالضرورة طريقة الرأي، اصطنعها (أي الشافعي) تحت اسم القياس لأن الناس كانوا أقلّ تطوّرًا من هذا الاسم، وهذا الكلام ليس بصحيح على إطلاقه، فالقياس الأصولي له ضوابطه وأركانه والرأي كلمة عامة ليس لها ضابط كالقياس .

       كذلك يذهب شاخت إلى أن القياس عند الشافعي مرادف للاجتهاد، وهو يريد من وراء هذا القول أن يلزم الشافعي المساواة بين القياس والرأي والشافعي لم يقل بذلك، وإنما قال الاجتهاد القياس، وهو بهذا يُشير إلى أن القياس نوع اجتهاد، بدليل أنه في الرسالة(21) عرَّف القياس واشترط له شروطاً تنفي اختلاطه بمفهوم الاجتهاد عامة.

       على أن عدم تعرّض القياس للهجوم من المستشرقين مرده إلى أنهم حاولوا أن يجعلوا منه دليلاً وافدًا على الشريعة والفقه الإسلامي، وحاولوا أن يُعطوه أهمية خاصة من أجل إضعاف التعويل على القرآن والسنة النبويّة في الاجتهاد واستنباط الأحكام(22).

       وأما المصلحة المرسلة، وهي كل مصلحة لم يشرع الشارع حكمًا لتحقيقها ولم يدلّ دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، والاستحسان وهو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كليّ إلى حكم استثنائيّ لدليل رجح هذا العدول(23). فقد خلط بينهما بعض المستشرقين، ومنهم من ذهب إلى أن المصلحة ضربٌ من الهوى والرأي، وأنه يحكم بها وإن كانت معارضة للقواعد العامة للتشريع، ومن المستشرقين من يرى أن المصلحة المرسلة والاستحسان من عمل الفقهاء، لدعم أقوالهم المبنية على الرأي، ويزعم كل من بيرل وشاخت، أن المصلحة والاستحسان يرجعان إلى المنطق الإغريقيّ والقانون اليونانيّ.

       وقد قالا بذلك للوصول إلى أن هذه الأدلة دخيلة يرفضها التشريع الإسلامي، وأن الأحكام المترتّبة عليها قد ألصقت بالفقه مما حمل الفقهاء بعد ذلك على محاولة دعمها بوضع أحاديث تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم(24).

       ومثل هذه الآراء إذا كانت تعبِّر عن جهل بمفهوم المصلحة والاستحسان فإنها أيضًا تؤكّد أن القائلين بها يريدون تشويه جهد الفقهاء في الاجتهاد، فهم قد لجأوا إلى أدلة لايعرفها الفقه. وهم إلى هذا انتحلوا أحاديث لإضفاء صفة الشرعية على آرائهم، فكل ما صدر عنهم من آراء اجتهادية ليس لها صفة شرعية ولا يجوز الأخذ بها.

       وإذا كان للعرف الصحيح احترامُه وتقديرُه في مجال استنباط الأحكام وتطبيقها تحقيقًا لمعاني اليسر ورفع الحرج والضيق التي جاءت بها النصوص فإن الفكر الاستشراقيّ ذهب إلى خضوع الاجتهاد للبيئة وإن كانت في مفاهيمها مناقضة للمبادئ الشرعيّة، ولم يفهم مغزى مراعاة الأعراف وتنوع البيئات. وتغيّر الزمان في الاجتهاد. وأن هذا لا يعدّ خضوعًا للبيئة، وإنما يعدّ آية من آيات المرونة في البحث، وتأكيدًا على أن الفقه لا يعرف الجمودَ وأن الشريعة السمحة التي عبّر الفقه عن فهم لنصوصها وقواعدها الكلية صالحة للتطبيق في كل مصر وعصر، ولكن الاستشراق يبغي نفي هذه الصلاحية، ومن أجل ذلك كانت تفسيراته وآراؤه في الدراسات الأصولية التي هي منهج الاجتهاد والتي تدور في فلك اتهام الشريعة بمحاربة التفكير، واتّهام الفقهاء بضيق الأفق(25)، وعدم الأمانة والصدق فيما عوَّلوا عليه من مصادر لاجتهاداتهم .

*  *  *

الهوامش :

(1)     انظر: حاضر العالم الإسلامي للمستشرق لوثروب ج2 ص 343، فقد كتب الأمير شكيب أرسلان تعليقًا ممتعًا حول موضوع جمود الشريعة وفند مزاعم المستشرقين في هذا .

(2)         انظر: معالم الشريعة الإسلامية للدكتور صبحي الصالح، ص162، ط. بيروت .

(3)         انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث للدكتور أحمد أمين، ص86.

(4)         انظر: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للأستاذ عباس محمود العقاد. ص 343 ط. بيروت .

(5)         انظر: الاستشراق والمستشرقون وجهة نظر الدكتور عدنان محمد وزان، ص 150 العدد 24 من سلسلة دعوة الحق.

(6)         انظر: الإسلام وموقف علماء المستشرقين للدكتور عبد الحميد متولى، ص14.

(7)         انظر: حاضر العالم الإسلامي، المرجع السابق ص 346.

(8)         انظر: مجلَّة الوعي الإسلامي، العدد 216، ص88 .

(9)         انظر: الظاهرة الاستشراقية للدكتور ساسي سالم الحاج، ط. مركز دراسات العالم الإسلامي. مالطا ج1 ص 320.

(10)   الحنفاء جماعة كانوا يعتقدون بوحدانية الله ولم يعبدوا الأصنام، وكانوا قلة يُعَدّون على الأصابع، وكانت عقيدتهم يلفها الغموض فيما يتعلق بوجود الله ووحدانيته، (وانظر: مدخل إلى القرآن الكريم للدكتور محمد عبد الله دراز. ص131) ط. دارالقلم، الكويت .

(11)     انظر: الظاهرة الاستشراقية، ج1/393.

(12)     انظر: الاستشراق والإسلام للأستاذ زكريا هاشم، ص153 ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة .

(13)     انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث للدكتور أحمد أمين، ص 332.

(14)   انظر: الظاهرة الاستشراقية، ج1 ص 498 والردّ على أباطيل المستشرقين حول مصدر القرآن الكريم جاء في دراسات كثيرة منها: الظاهرة القرآنية لمالك بن نبى، والنبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز.

(15)     انظر: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، ج1 ص63.

(16)     المصدر السابق، ص 104.

(17)     انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، للدكتور مصطفى السباعي. فقد أبطل افتراءات المستشرقين بأسلوب علمي سديد.

(18)     انظر: أصول التشريع الإسلامي للأستاذ علي حسب الله. ص107، 108 د. 4 دار المعارف .

(19)   يُعرف الإجماع الأصوليّ بأنه اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور بعد وفاته على أمر من الأمور، والاجماع بهذا التعريف لم يتحقق في تاريخ الأمة (وانظر: علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف).

(20)   انظر في تاريخ التشريع الإسلامي، تأليف المستشرق الإنجليزي كولسون، ترجمة وتعليق الأستاذ الدكتور محمد سراج، ومراجعة الأستاذ الدكتور حسن الشافعي، ط، دارالعروبة بالكويت، ومجلة الوعي الإسلامي، العدد 248 ص21.

(21)     انظر الرسالة ص 217، 476، 598 تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر .

(22)     انظر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 242 ص 25.

(23)     انظر: علم أصول الفقه للشيخ خلاف، ص 85، 89.

(24)     انظر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 248 ص 16، 21.

(25)     انظر: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار للدكتور محمد البهى، ص 85، 158.

 

محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير  2008م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 32