الاجتهادُ ودستورُ المجتهدين ولمحاتٌ من شمائله صلى الله عليه وسلم

 (1/2)

 

بقلم : فضيلة الشيخ إبراهيم السوقي / جمهورية مصر العربية

  

 

  

 

 

       في الحديث: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات»، وهي المسائل التي لم تقع «كما نهى عن كثرة السؤال وعضل المسائل» أي التي يشق فهمها، كما قال: «إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال»، وعنه صلى الله عليه وسلم «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»، وعنه أيضًا صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس جرمًا من سأل عن شيء لم يحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته».

       وطالب بالبعد عن الاختلاف والتفرق في الدين، قال تعالى: ﴿إنَّ هَذِه اُمَّتُكُمْ اُمَّةٌ وَاحِدَةٌ﴾ المؤمنون: آية 52، وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ آل عمران: آية 103، وقال: ﴿إنَّ الَّذِيْنَ فَرَّقُوا دِيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ الأنعام: آية 159، وقال: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولـٰـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ آل عمران: آية 105، وأمر برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة عملاً بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُوْلِ﴾ النساء: آية 59، وقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَيْء فَحُكْمُه إِلَى اللهِ﴾ الشورى: آية 10، وذلك لأن الدين قد فصله الكتاب كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ النحل: آية 89، وقال: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ الأنعام: آية 38، وبيَّنته السنة العملية، قال تعالى: ﴿إنّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا اَرَاكَ اللهُ﴾ النساء: آية 105.

       وبذلك تمّ أمره، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْنًا﴾ المائدة: آية 3، وبين يدي ذلك كله فلا معنى للاختلاف ولا مجال له، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِيْنَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بِعِيْدٍ﴾ البقرة: آية 126، وقال سبحانه : ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُوْنَ حَتّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ النساء: آية 66.

       وعن هذا جرد الصحابة ومن بعدهم من القرون، ولم يقع بينهم اختلاف إلا في مسائل معدودة، كان مرجعه التفاوت في فهم النصوص، وأن بعضهم كان يعلم منها ما يخفى على البعض الآخر، فلما جاء أئمة المذاهب تبعوا سنن من قبلهم.

       وقد بذل هؤلاء الأئمة أقصى ما في وسعهم في تعريف الناس بهذا الدين وهدايتهم به، وخوفًا من أن يعتقد مقلدوهم عصمتهم كانوا يدعون الناس إلى الاستعانة على ما يدينون به من أحكام إلى فهم أحكام الله والمصدر الذي منه أخذت هذه الأحكام .

الدين وتطور المجتمعات

       ومع كل ذلك وما أُثِرَ عن الصحابة وما انتهى إليه الأئمة فيما ترى بين أيدينا من المذاهب الفقهية التي جمعت بين العبادات والمعاملات في إطار ما هُدُوّا إليه عن طريق النصوص من كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف الصالح، فإن سنة الحياة أنها لا تدوم على حال واحدة ولها شأن لا يتغير، وإنما الأمر كما أثر عن أولي العلم في قولهم: «تَحْدُثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفتن» وأمام تطور المجتمعات فإنه من واجب العلماء أن يتخذوا من وسائل العلم، والمعرفة ما يصبحون به أهلاً للاجتهاد في ضوء القواعد الكلية القائمة على هدي الأصول التي تُسْتَقَىٰ منها الأحكام من الكتاب والسنة .

       وفي حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: «بم تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد؟». قال: بسنة رسول الله، قال: «فإن لم تجد؟». قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضى الله ورسوله». رواه أبوداود والترمذي، وقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص بعد أن نهته قريش عن كتابة ما يسمعه منه صلى الله عليه وسلم: «أكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مِنِّي إلا الحق» رواه أحمد بإسناد صحيح .

       فإذا كانت نصوص القرآن والسنة متناهية فإنَّ الأحداث غير متناهية، فلابد من وجود الاجتهاد لاستخلاص أحكام لأحداث لم تقع في عصر التشريع، وقد جاء في الحديث: «إنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ» رواه الترمذي، وقال حسن صحيح .

بيان للناس

       ولقد استمرّ الاجتهاد بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، حيث مارسه الصحابة وبخاصة الخلفاء الراشدون، كما مارس التابعون الاجتهادَ ونبغوا ونبغ فيه كثيرون، واستمرّ الباب مفتوحًا تحقيقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» رواه الحاكم وصححه، وبعد اتساع العمران، وانتشار الحضارة، واتساع نشاط الحركة العلمية، والاتجاه لتدوين السنة كان هناك جوٌّ مُهَيَّأٌ بشكل أكبر للاجتهاد، وظهر اختلاف في الرأي حول ما يعتمد من السنة وأقوال الصحابة، وحول الأخذ بالقياس والإجماع.. الخ.

       على أثر ذلك بدأ التفكير في إيجاد دستور سليم يلزمه المجتهدون حتى لاينحرفوا عن الصراط المستقيم، وهو علم «أصول الفقه»، وكان أول ما وضع في ذلك «الرسالة» للإمام الشافعي، وفي هذا الجو ظهر نوابغ للفكر في جهات متعددة اتخذ الناس منهم معلمين يتلقون منهم ويدوِّنون، خاصة ما يغطي كثيرًا مما يحتاجون لمعرفته، وما يفترض من أحداث مستقبلة فكفوهم مئونة عن حكم الدين فيها حين تقع ومن أبرز هؤلاء النوابغ، ومالك في المدينة، والأوزاعي في الشام، والشافعي والليث بن سعد في مصر.

       ولبعض هؤلاء تلاميذُ نشروا فقههم، كما كان هناك غيرُهم من أصحاب المذاهب البائدة كالطبري وداود الظاهري، هؤلاء الأئمة كانت تسود بينهم روح التسامح. وكان من قواعد البحث العلمي عندهم قولُ بعضهم: «رأيي صواب يحتمل الخطأَ، ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصوابَ، وتخطئته لرأي غيره هي في ظنه وليست عن يقين، وكذلك تصويبه رأي نفسه».

       ولقوة إيمانهم بهذا الأدب لم يوافق الإمام مالك رحمه الله على أن يفرض الخليفة العباسي كتاب «الموطأ» على الناس ليدينوا بما فيه، على الرغم مما في ذلك الكتاب من تكريم وشهرة له، وقال في هذا الشأن: إن العلماء تفرقوا في الأمصار، ولايعدم أن يكون عند أحدهم ماهو أحسن مما عندي، فكيف يلزمهم برأيه مع احتمال خطئه؟ فكل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، إلا المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم .

واقع المسلمين وواجبهم

       ومع طول عهد التقليد، وتنفس حركة التطور عن أحداث ومشاكل جديدة تتطلب وقفة لاستخلاص حكم شرعي فيها تحقيقًا لعالمية الإسلام وخلوده، ولكون القرآن فيه تبيان لكل شيء فإن القول بإغلاق باب الاجتهاد ليس على إطلاقه، وإنما هو قول مُنْتَزَعٌ من واقع المسلمين، لا من أصول الشريعة؛ وذلك أن الكفاءات التي يحق لها أن تباشر الاجتهاد رأسًا من القرآن والسنة ندرت أو قلّت، وإذا كانت موجودة فقد ضعفت فيها روح البحث والتوفر على الاستنباط خشيةَ التورط في خطأ يكون عليها وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، وكان من أثر ذلك ظهور حركات جديدة بعضها يطالب بالتحرر من القيود المذهبية، ونادى بها، وإلى جانب هؤلاء من نادى بالتحرر المطلق والوقوف جنبًا إلى جنب مع أئمة النقد الأولين، بل لم يقنع بعضهم بذلك، فجعل نفسَه ندًّا للصحابة في أخذهم مباشرةً من كتاب الله وسنة رسوله دون اعتبار لما يُسَمَّىٰ بالإجماع ونحوه.

الاجتهاد والتطوير

       ومن ثم فإن القول بإغلاق باب الاجتهاد مبنيٌّ على واقع المسلمين، لا على أدلة سمعية من القرآن والسنة. وذلك يعني أنّ الاجتهادَ ضرورة من ضرورات التطور في المجتمعات البشرية، وتشهد له الأدلة النقلية، ولذا وضع العلماء شروطاً واحتياطات لممارسة هذه المهمة الشائكة، تتيح لكل من تتوافر فيه أن يجتهد، وليس هذا موضعها، ومن أرادها فليرجع إلى مظانّها في أصول الفقه وغيرها، وعليه فإن من يرى في نفسه الأهلية للاجتهاد مِمَّن توافرت فيه شروطه فإن عليه – كما أرى – أن يجتهد لنفسه ولغيره ممن لا يستطيعون .

       ومن هنا فلا يجوز أن يُرْمَى الدينُ بالعقم والتخلّف عن مواكبة التطور؛ فهو لايمنع ذوى الكفاءة من التفقه في الدين، ومادمنا لا نستطيع أن نكون عند المستوى المطلوب فالواجب أن نعرف للأقدمين حقَّهم، وأن نرجع إليهم فيما نحتاج إليه، وفي المستصفى للإمام الغزالي: «العامي يجب عليه الاستفتاءُ واتباع العلماء».

       وبهذا التيسير ساس الإسلامُ ورسولُه الأمةَ بكل ما يصلح به أمرها دينًا ودنيًا، فما من خير إلا دعا إليه، وما من شرٍّ إلا حذّر منه، وصدق الله العظيم القائل: ﴿حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوفٌ رَحِيْمٌ) التوبة: آية 128، وإن ذلك ليفرض علينا طاعته والاستجابة لدعوته، والتنبيه إلى أن في ذلك الحياةَ الحقيقية للإنسان، وهي التي أشار إليها سبحانه في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الأنفال: آية 24.

       وقد قال بعض العلماء إن استجابة المؤمنين لحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشمل كلَّ شيء حتى إنه كان إذا دعا شحصًا وهو يصلي يجب عليه أن يستجيب له، وأنّ الصلاةَ لاتبطل بإجابته، بل له أن يبني على ما كان صلى ويتم، واستدلّوا على ذلك بحديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد بن المعلى t قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صلّيْتُ، قال: فأتيتُه فقال: «ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت يارسول الله، إني كنت أصلّي، قال: «أو لم يقل لك الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمُنُوا اسْتَجِيْبُوا للّهِ ولِلرَّسُوْلِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيْكُمْ﴾؟ ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد». قال: فأخذ بيديّ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله: إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: «نعم، الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» ابن كثير ج1.

       وروى الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم دعا أُبَيّ بن كعب وهو في الصلاة، وذكر نحو ما ذكره الإمام أحمد عن أبي سعيد وصححه، وفي الحديث أن الأمر يقتضي الفور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاتب الصحابي على تأخير إجابته، وفيه أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لاتفسد الصلاة، وذلك عند جماعة من الشافعية وغيرهم. المنار ج9 ص 583.

       وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيْظاً﴾ النساء: آية 80. وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ النساء: آية 59.

       وقد أعاد لفظ «الطاعة» لتأكيد طاعة الرسول لأنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وهذا البيانُ بإرشاد من الله تعالى باتباعه لاينافي التوحيدَ ولاكون الشارع هو الله تعالى وحده، وقد يأمر بأشياء وينهى عن أشياء باجتهاده، ولم يقم دليلٌ على أن الأمر للإرشاد أو الاستحباب والنهي للكراهية والاستهجان، وقد وجبت طاعته في العبادات وغيرها لأنه إمام الأمة وحاكمها.

       وقد أجمع المسلمون علىأن الله تعالى لايقر رسله على خطأ في اجتهادهم، بل يبين لهم ذلك مع ذكر العفو في نحو قوله تعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ التوبة: آية 43، حين أذن لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك أو يقرهم مع العتاب حين وافق أبابكر الصديق على قبول الفداء من أسرى بدر بقوله تعالى :﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الأنفال: الآيات من 67-69، ولا يدخل في هذا المقام الأمور الدنيوية المختلفة كالعادات والزراعة.. ونحوها، فطاعته صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوةً عامةً من أمر الدين الذي بعثه الله به كبيانه لصفة الصلاة وعددها، والمناسك ولو بالفعل مع القول، لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وقوله: «خذوا عني مناسككم»، ومقادير الزكاة وغير ذلك من الأمور العملية الدينية المتواترة، وكذا أقواله المتواترة التي أمر بتبليغها فيما تدل عليه دلالةً قطعيةً .

       أما غير القطعيّ رواية كأحاديث الآحاد ودلالة كما لو كانت محتملة للتخصيص أو للتقييد.. الخ فهو محل الاجتهاد، فكل من ثبت عنده شيء منها ينبغي الاهتداء به فيما دل عليه من الأحكام الخمسة: الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة، لأن الأمور العملية الاجتهادية يكتفي فيها بالظن الراجح في الدليل ودلالته، ولكن لا يملك أحد من المسلمين أن يجعل اجتهاده تشريعًا عامًا يلزم به غيره، أن ينكر عليه مخالفته أو مخالفة من قلده إلا الأئمة أولو الأمر، فتجب طاعتهم في اجتهادهم في أحكام المعاملات القضائيّة والسياسيّة إذا حكموا بها لإقامة الشرع، وصيانة النظام العام، وعلى هذا كله جرى السلف الصالح وجميع أئمة الأمصار.

       أما من يقولون إن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما كانت تجب طاعته في عهده ولا يجب العمل بعده إلا بالقرآن وحده – يقول صاحب المنار – فهم زنادقة ضالون مضلون، يريدون هدم الإسلام بدعوى الإسلام، بل تجب طاعة الرسول كما أطلقها الله تعالى، ويجب التأسى به في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة (المنار ج9 ص 583، 584.

       وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ النساء: آية 64، وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى يارسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري.

       وعن المقدام بن معديكرب t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنِّي أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شعبان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه، وما وجدتم به من حرام فحرّموه، وإنما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرَّم الله» رواه البخاري ومسلم.

       وعن العرباض بن سارية t قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيحسب أحدكم متكئًا على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئًا إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، إنما لمثل القرآن أو أكثر، وإنَّ الله لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي فرض عليهم» رواه أبو داود – مصابيح السنة ج1ص 14.

       وعن أبي موسى الأشعري t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: إني رأيت الجيش بعينيّ وأنا النذير العريان، فالنجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا على مُهْلَتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذَّب ما جئت به من الحق» رواه البخاري ومسلم .

       ولذا، فإن محبته صلى الله عليه وسلم من الضرورة بمكان، إذ ليس يعدل ما جاء به – صلوات الله وسلامه عليه – في هذا الوجود شيء، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» رواه أحمد، قال القاضي عياض: «ومن محبته نصرة السنة والذَّبُّ عن شريعته وتمنى حضور حياته، فيبذل نفسه وماله دونه، فمن استكمل الإيمان علم أن حق النبي آكد من حق أبيه وابنه والناس أجمعين.. إنه مقدّم في الطاعة على النفس، قال تعالى: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الأحزاب: آية6، قال ابن كثير: «قد علم الله شفقة رسوله على أمته فجعله أولى بهم من أنفسهم وحكمه فيهم مقدم على اختيارهم لأنفسهم كما قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء: آية 65، وفي الصحيح أن عمر t قال: يارسول الله، والله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا ياعمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك» فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحبّ إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر».

       وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة»، اقرؤوا إن شئتم «اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِم»، فأي مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينًا أو ضياعًا فليأتني فأنا مولاه».

       وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواء تبعًا لما جئت به» مصابيح السنة ج1.

مكانته بين الأنبياء

       وعن مكانته صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ آل عمران: آية 81. قال: لم يُبعث نبي قط من لدن نوح إلا أخذ الله ميثاقه ليؤمنن بمحمد ولينصرنه إن خرج وهو حيٌّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ونصرونه إن خرج وهم أحياء.. الخصائص الكبرى للسيوطي.

       وقال علي بن أبي طالب وابن عباس – رضي الله عنهما – : «ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثـاقَ: لئن بعث الله محمدًا وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه» ابن كثير ج1.

*  *  *

*  *

محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير  2008م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 32