اللحن في العربية وغيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

(1/2)

 

بقلم : الأديب الإسلامي العربي الكبير                          

معالي الدكتور الشيخ عبد العزيز عبد اللّه الخويطر 

الرياض ، المملكة العربية السعودية                    

  

 

  

 

 

       من عمق الوطنية أن يهتم المرء بلغته، والاهتمام باللغة العربية بمتاز عن اللغات الأخرى، في نظرنا، فإن الاعتناء بها دليل الدين، والتمسك به، والغيرة عليه، ودليل الوطنية أيضًا، لأن اللغة العربية هي وعاء الدين، وهو وعاء شريف ونبيل، لأنه وعاء القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

       وإذا كان هناك من حرص في أن يكون المرء يقظاً في عصور الإِسلام المتأخرة، لكثرة الأخطار الت بدأت تحف باللغة، من كثرة الوافدين إلى البلاد العربية، أو الداخلين في الإٍِسلام، فإن المسلمين الأوائل، منذ زمن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – كانوا يقظين ومنتبهين لكل زلة في اللغة يسمعونها، وكل خطأ في حقها يرتكب أمامهم .

       وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كثيرًا ما يغضب على من يلحن ، وله مواقف مشهورة في هذا، تدل على وعي تام بما قد يأتي به السكوت على اللحن، والتهاون في تصحيحه؛ ولهذا كان لا يتوانى عن اتخاذ العقاب البدني، فيضرب مرتكب اللحن كما حدث مع كاتب أبي موسى الأشعري، ولعل القارئ يعذر عمر عندما يرى فداحة اللحن الذي ارتكبه الكاتب :

       «رُوِيَ أن كاتبًا لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : «من أبو موسى؟» .

       فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنهما – «إذا أتاك كتابي هذا فاضربه سوطاً واصرفه عن عملك».(1)

       ويعلق صاحب كتاب «تنبيه الألباب» على هذا الخبر بقوله:

       «فلو لم يكن اللحن عند عمر – رضي الله عنه – ذنبًا يستوجب به العقوبة من الله – تعالى – لما أمر بضربه وصرفه، هذا مع أه لم يلحن في كتاب الله – عز وجلّ – ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو لحن فيهما لكان ذنبـه أعظم، وكانت العقوبة له ألزم»، فقد رُوِيَ عن الحسن أنه قال:

       «من لحن في القرآن فقد كذب على الله – عز وجل –» .

       ورُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»(2).

       ولعل ما أرعب عمر من لحن كاتب أبي موسى هو أن يتدرج الأمر إلى اللحن في القرآن والسنة، فيدخل اللاحن في المحذور.

       وإذا تركنا هذا النوع من اللحن جانبًا، والتفتنا إلى ما ليس بلحن، ولكن الأمر فيه يرجع إلى الذوق، وحسن التعبير، وجدنا أن هذا النوع أيضًا مما يقصدون من ورائه صفاء اللغة وضياءها، غيرة عليها، وظنًا بها عن أن يتسبب أحد في نقـدها، واتهامها، وهناك قول يُرْوٰى عن أبي بكر، ويُرْوٰى مثله تمامًا عن مر، وتقارب القولين يدل على أن القائل أحدهما، وأن الراوي وهم فنسبه إلى الآخر، أو أن هذه ظاهرة بدأت تظهر في هذه الفترة، فصار كل غيـور يسارع إلى تصحيح العـامـة فيها حتى لا تستشري:

       «مرّ رجل بأبي بكر، ومع ثوب، فقال:

       أتبيع الثوب؟

       فقال: لا عافاك الله!

       فقال أبوبكر – رضي الله عنه – :

       لقد علمتم، لو كنتم تعلمون. قل: لا، وعافاك الله.»(3).

       وفي رواية أن الحوار كان كما يلي:

       «مر رجل بأبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ومعه ثوب، فقال له أبوبكر :

       أتبيعه ؟

       فقال: لا، يرحمك الله!

       فقال أبوبكر: لو تستقيمون لقُوِّمَتْ ألسنتُكم، هلا قلت: لا، ويرحمك الله!»(4).

       وفي رواية ثالثة :

       «رأى أبو بكر – رضي الله عنه – رجلاً بيده ثوب، فقال:

       هو للبيع؟

       فقال: لا، أصلحك الله!

       فقال – رضي الله عنه – : هلا قلت: لا، وأصلحك الله! لئلا يشبته الدعاء لي بالدعاء عليّ».(5)

       أما ما جاء مرويًا عن عمر فهو كما يلي:

       «روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال لرجل :

       أتبيع هذا الثوب ؟

       فقال: لا، عافاك الله!

       فقال: لقد علمتم ما لو تعلمون، قل:

       لا، وعافاك الله»(6).

       وهذه الواو ذات أهمية كبرى، فهي، كما رُوِيَ، تجعل الدعاء للشخص إذا أُثـْبِتَتْ، وعليه إذا حُذِفَتْ، وقد مدح المأمون جمال وجودها في القصة الآتية:

       «وحُكِيَ أن المأمون سأل يحيى بن أكثم عن شيء، فقال:

       لا، وأيد الله الأمير!

       فقال المأمون: ما أظرف هذه الواو! وما أحسن موضعها!».

       والمبرد يروى أن الذي سأله الخليفة المأمون هو يحيى ابن المبارك، ويرويها كالآتي:

       «سأل المأمون يحيى بن المبارك عن شيء، فقال: لا، وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين!

       فقال: لله درّك ما وضعت واوٌ قط موضعًا أحسن من موضعها في لفظك هذا! ووصله وجمله»(7).

       وقد تغزل الصاحب ابن عباد بهذه الواو فيما روي عنه:

       «كان الصاحب ابن عباد يقول:

       هـذه الواو أحسن من واوات الأصداغ»(8).

       وأحيانًا يكون الاستدراك مهمًّا، لأنه يحمي أس الدين، ويبعد خطأ فيه جسيمًا، قد لا يتنبه له الإِنسان، فيأتي فقيه ينير له الطريق، ويوقفه عن أن يتردى في حفرة غفل عنها؛ والقصة الآتية تُري مداخل الشبه الت يمكن أن يقع فيها الإنسان دون أن يعلم .

       وهذه أمور في بلادنا – والحمد لله – أصبحت واضحةً يعرفها الطالب في سني دراسته الأولى، لعناية الغيورين على الدين، وحرصهم على زرع بذور العقيدة الصافية في أنفس الصغار، وإبعاد الشبه، خاصةً ما يدخل في نطاق الشرك بنوعيه، وهي ميزة يمتاز بها المتعلم في المملكة، مما قد يخفى على خريج جامعة في البلدان التي لا تلتفت لهذا الأمر، ولا تعتني به. والقصة الآتية تبيّن زلقًا وقع فه شخص تداركه فيه آخر، ونبهه إلى ما غفل عنه:

       «قال رجل من بني مجاشع:

       جاء الحسن في دم كان فينا، فخطب، فأجابه رجل بأن قال: «قد تركت ذلك لله ولوجوهكم».

       فقال الحسن: لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم، وآجرك الله! »(9).

       والحسن أدرك الخطأ في إشراك وجوه القوم مع الله – سبحانه وتعالى – في درجة واحدة ، وفي هذا مع الشرك وإثمه الكبير، نقص في الحياء، وتطاول على مقامه – جل وعلا – .

       وهذا الاستدراك السريع لم يجعل الجملة تسلم دينًا ولكنـه جعلها تلبس حليةً لغويةً جميلةً.

       واستعمال كلمـة «ثم» في مثل هذه الحالات التي تعطي الإلـٰـه – عز وجل – حقّه من التميـز والعلو، وتضع الخلق في موضعهم من التدني بالنسبة لـه، أمـر اهتم به الشيخ محمـد بن عبـد الـوهاب – رحمـه الله – وهو ما تعلّمـه من أساتذتـه الأحيـاء منهم والأموات، فكان من أصول دعوته، ومما أخذ به نفسه من محاربته، لانتشاره في ذلك الزمن، وغفلة العلماء عنه، أو تساهلهم في أمره، أو خوفهم من الغائلة فيما لو أظهروا رأيهم وحاربوه، في مجتمع ألفه .

       والاستدارك لا يقتصر فقط على الألفاظ وما يأتي في ظلها من معاني تتأثر بها، بل يأتي أيضًا في المعاني، وما أشرفه حين يأتي كذلك! والقصة التالية تُري نبل القصد من الاستدراك، وما يرجوه صاحبه ن أجر عليه، وبعد عن الرياء والنفاق :

       «قال حصين بن عبد الرحمن :

       كنت عند سعيد بن جبير فقال:

       أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟

       قلت أنا، ثم قلت: إني لم أكن في صلاة، ولكن لدغت .

       قال: وكيف فعلت؟

       قلت: استرقيت ...»(10).

       خاف سعيد بن جبير أن يتبادر إلى ذهن سامعيه أنه كان ساهرًا يصلي، فتلحقه شبهة الرياء، فبادر ينفي ذلك، ويبعد عن سامعيه إثم الظن، ومثله لو كان ساهرًا يصلي لما أشار إلى ما يدل على ذلك، لأن عمله مثل أمثاله من البررة إنما هو لوجه الله، وما دام كذلك فلا بد من إخفائه إلا على من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء – سبحانه وتعالى – .

       فهذا استدراك لم يكن في اللفظ وإنما في الحال والمعنى، وفيه من الجمال ما استحق أن يُدَوَّنَ وَيُرْوٰى.

*  *  *

الهوامش :

(1)         تنبيه الألباب: 290، انظر أيضًا: ربيع الأبرار: 1/634.

(2)         تنبيه الألباب : 90.

(3)         البيان والتبيين : 1/261، تدريب الناشئين: 61.

(4)         الكشكول : 373.

(5)         لطائف اللطف : 27.

(6)         محاضرات الأدباء: 30.

(7)         تاريخ بغداد: 14/148؛ ترجمة يحيى بن مبارك اليزيدي، أخبار الظراف: 92.

(8)         الكشكول: 1/373.

(9)         البيان والتبيين : 1/261.

(10)     قصص الأنبياء لابن كثير: 374.

*  *  *

محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير  2008م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 32