الاستشراق والاجتهاد الفقهي

(2/2) 

بقلم : الأستاذ الدكتور محمد الدسوقي / جمهورية مصر

 

 

ثالثًا: الاستشراق والفقه الإسلاميّ:

 

لم يكتف الاستشراق بمحاولة هدم مصادر الاجتهاد والطعن في صحتها، وكذلك تشويه صورة الفقهاء، وإنما حاول أيضًا أن ينفي عن الفقه الإسلاميّ أصالته ويثبت أنه كان عالة على القانون الرومانيّ(1)، بل إن من المستشرقين من غلا غلوًا كبيرًا، وذهب إلى أن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الرومانيّ للامبراطورية الشرقية معدلاً وفق الأحوال السياسية للبلاد العربية .

         

وجملة الأدلة التي يأخذ بها هؤلاء المستشرقون في دعواهم تقوم على ما رأوه من الشبه بين بعض أحكام التشريع الإسلامي والقانون الروماني، ثم إلى ما يحدثه – بلا ريب – التقاء الحضارات والعادات والأعراف القانونية من تأثير متبادل.

         

ولكن هل هذا التشابه – إذا كان موجودًا – يدل على التأثر أو أن الفقه الإسلامي ليس إلا القانون الروماني مع شيء من التعديل في بعض النواحي؟

         

إن الإجابة عن هذا السؤال هي من النفي بلاريب، فإن الوضع الصحيح الذي يُقرّره علم الاجتماع فعلاً أنه متى التقت حضارتان لأمّة غالبة وأمة مغلوبة كان التقليد – حين يوجَد – من الأمة ذات الحضارة المغلوبة، لأن المغلوب مولَع أبدًا بتقليد الغالب .

         

ومما يدل على نفي تأثّر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، وجود نظم في ذلك القانون، لا يَعرفها هذا الفقه، مثل نظام التبني لولد معروف نسبه، والوصاية على المرأة، حتى لا تستطيع التصرّف إلاّ بإذن صاحب الوصاية عليها، وكذلك وجود نظم في الفقه الإسلامي لا أصل لها في القانون الروماني، مثل الوقف والشفعة وموانع الزواج بسبب الرَّضاع وفضلاً عن ذلك لايُقيم القانون الروماني علاقة بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية بخلاف الفقه الإسلاميّ فإنه لا يفصل بينهما والفقه الإسلامي يقوم على أساس المساواة بين الأفراد أمام القانون، وهذا غير موجود في القانون الرومانيّ.. إلى غير ذلك من العوامل التي تُؤكّد النشأةَ الخاصة للفقه الإسلاميّ وأن ما زعمه المستشرقون من نسبة قواعد. هذا الفقه أو صوره إلى مصدر رومانيّ إنما هو وهم واهم.

         

وقد حاول المستشرقون – في إثبات ما ذهبوا إليه من نفي أصالة الفقه الإسلامي إن في مصدره وقواعده أو في تدوينه وتبويبه – التركيز على ثلاثة من أعلام الفقهاء: بقصد تشويه الجهد العظيم الذي قام به هؤلاء الفقهاء وإثبات أنهم كانوا عالة على غيرهم من اليونان والرومان .

         

وأول هؤلاء الفقهاء هو الإمام الأوزاعيّ المتوفّىٰ 157هـ فقد ذهب بعض المستشرقين – دون دليل – إلى أن هذا العالم درس الفقه البيزنطي في مدرسة بيروت القانونية، وظنَّ هؤلاء المستشرقون أن نشأة الأوزاعيّ في بيروت تعضد زعمهم وتجعل لرأيهم حجة مقبولة .

         

ولكنّ هذا الزعم لا يسنده دليل، وهو مجرد ظن آثم، لأن مدرسة بيروت القانونية لم يكن لها وجود في القرن الثاني(2) الهجري، والتراث الفقهيّ للإمام الأوزاعيّ لا يحتوي على ما يفيد أنه تأثـَّر باتجاه غير إسلامي في آرائه. ومن يقرأ ما تركه هذا الإمام من مؤلَّفات وعلى رأسها كتابه في السير ورد الإمام أبي يوسف عليه، لا يخالجه ريب في أن الأوزاعيّ لم يتأثر بالقانون البيزنطي، وأن فقهه يقوم على الأثر أكثر من قيامه على الرأي، فهو ينتمي إلى مدرسة الحديث وإن عَدَّه ابن قتيبة في كتابه "المعارف" من فقهاء الرأي.

         

أمّا الفقه الثاني الذي يرى المستشرقون أنه تأثـّر بمصادر غير إسلامية في مؤلفاته الفقهية فهو الإمام محمد بن الحسن الشيبانيّ المتوفّىٰ 189هـ، هذا الإمام هو أول من دَوَّنَ الفقهَ الإسلاميَ على منهج علمي، لم يسبق به، كما أنه أول من كتب في العلاقات الدوليّة كتابة علمية دقيقة شاملة، بحيث عُدَّ في الأوساط الدولية في العصر الحاضر أولُ رائد في مجال التأليف في القانون الدوليّ، وأنشئت باسمه جمعيّات متعددة في بعض بلدان أوروبا وأمريكا تحمل اسم "جمعية أصدقاء الشيباني للقانون الدوليّ".

         

ماذا قال المستشرقون عن هذا الإمام؟ لقد راعهم أن يكون الإمام الشيبانيّ بعبقريّته الفذّة قد دَوَّنَ الفقهَ الإسلاميَ تدوينًا علميًا رائعًا، وكتب في العلاقات الدولية كتابة شاملة، فحاولوا أن يُقَلِّلُوا من أهمية ما قام به من جهد علمي، وأن يثبتوا أنه لم يكن مجدِّدًا ومبتكرًا؛ وإنما سار على الطريق الذي سلكه من سبقه، واستفاد من تراث علمي غير إسلامي، فقد قالوا إنه في تبويبه وترتيبه للفقه الإسلامي تأثر بترتيب كتاب "المشنا اليهوديّ" فهو – إذن – مُقلِّدٌ وليس مجدّدًا .

         

وكتاب "المشنا" هذا يضمّ السنّة الموسوية، وقد قام بشرحه عدد من الأحبار، وسمّى الشرح بـ"الجيمارة" ومن المشنا والجيمارة يتألف "التلمود". وهو يُعْتَبَرُ مرجعُ اليهود في أحكام العبادات والمعاملات، وهذا التلمود لم يكن مكتوبًا باللغة العربيّة، ولم ينقل إلى هذه اللّغة إلا في أوائل القرن الرابع الهجري، فكيف استطاع الإمام الشيباني أن ينسج على منواله في ترتيب المواد الفقهية، وقد عاش في القرن الثاني، ولم يكن يعرف لغة غير العربية، حتى يمكن أن يقال إنه اطَّلَعَ على التلمود بلغته الأصلية؟ فدعوى تأثـّر الإمام الشيبانيّ بالمشنا لا أساس لها، لأنه لا يُوجَد دليل علميّ عليها.

         

ومن المصادفات أن الذين أسلموا من علماء اليهود لم يكن من بينهم من تَخَصُّص في دراسة التلمود أو الشريعة الموسويّة، حتى يكون هذا مسوغًا للظن بأن التراث اليهوديّ في مجال التشريع انتقل إلى المسلمين عن طريق هؤلاء الذين ارتضوا الإسلام دينًا .

         

وثالث الفقهاء الذين كثر كلام المستشرقين عنهم هو الإمام الشافعي المتوفّىٰ سنة 204هـ، وهذا الإمام يُعَدُّ أولُ من كتب في علم أصول الفقه كتابة متكاملة وصلت إلينا، وهذا العلم مفخرة الفكر الإسلامي، فهو يؤصل لمنهج البحث الفقهي تأصيلاً رائعًا، يشهد لعلماء المسلمين بأنهم كانوا الرُوَّاد لغيرهم في هذا المجال. مجال الكتابة في المناهج العلمية.

         

ولأن الشافعي كان أول من دَوَّنَ هذا العلمَ، كان الهجوم عليه، وكان الاتّهام بأنه كان يعرف المنطق اليونانيّ حين وضع رسالته في الأصول، وأنه درس القانونَ الروماني في مدرسة بيروت، فأقدرته هذه الدراسة على منهجه العلمي الدقيق في التأليف، وهذا كله غير صحيح فما عرف الشافعي المنطق اليونانيّ ولا درس في مدرسة بيروت، لأنها لم تكن موجودة في القرن الثاني.

         

إن الإمام الشافعي وُلِدَ في "غزة"، وعاش أيامه الأولى في البادية، يدرس العربية وأدبها، ثم طلب العلم بعد ذلك على أئمة علماء عصره في الحجاز والعراق، وتولّى بعض الأعمال في اليمن، ثم أقام مدة في العراق، وكان له في هذا القطر مذهب فقهيّ، عُرِفَ بالمذهب القديم: لأنه بعد أن ترك العراق، ورحل إلى مصر أنشأ فيها مذهبًا آخر، سمى بالمذهب الجديد، وكان مَرَدُّ الاختلاف بين المذهبين إلى اختلاف الأعراف بين أرض الرافدين ووادي النيل، وما وقف عليه الشافعي من سنن وآراء لم يكن على علم بها من قبل، فكيف استطاع الشافعي أن يدرس الفقه البيزنطيّ كما يدّعي المستشرقون.

         

إن كل الحقائق الموضوعية تؤكّد أصالة الفقه الإسلامي، كما تؤكد أن فقهاءنا الأعلام في آرائهم ومؤلفاتهم لم يتأثـّروا بمصادر أجنبية، وكل ما صدر عن الاستشراق في هذا الموضوع لا دليل عليه، وهو ضرب من سياسة نفى كل فضل للمسلمين، وأن كل ما قَدَّموه من تراث علمي لم يبتكروه، وإنما نقلوه عن سواهم. ولكن هيهات أن تحجب مثل هذه الآراء الفاسدة الحقيقة الخالدة.

         

وخلاصة القول أن الفكر الاستشراقيّ في موقفه من الاجتهاد من خلال تلك الآراء التي سبقت الإشارة إليها لم يكن موضوعيًّا لأنه لم يمارس البحث للوقوف على ما في الإسلام من حقائق، وإنما زاوله كلون من ألوان الفكر التاريخيّ، وهو لظروف نشأته ومجافاته للمنهج العلمي – لايبذل جهدًا لمعرفة الحقيقة – وإنما لإقامة الأدلة على صحة ما درج عليه من مبادئ وأفكار خاصة .

         

ولا ألُوْمُ الاستشراق على ما قام به فهو يخدم أمته وعقيدته على النحو الذي يراه، ولكني ألوم الذين فتنوا بالفكر الاستشراقي فراحوا يركضون وراءه ويمكنون له كما ألوم كلَّ مسلم يعي عدوانية هذا الفكر ويقف موقفًا سلبيًا منه.

*  *  *

الهوامش :

(1)        انظر العقيدة والشريعة في الإسلام لجولدزيهر ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى وآخرين .

(2)    لقد دمرت مدرسة بيروت القانونية قبل الفتح الإسلامي لبيروت بنحو قرن. وانظر بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني للدكتور صوفي أبوطالب ص52.

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3  ، السنـة : 32.