السعيدُ من بقي مُتَوَازِنًا في حالتي السرَّاء والضَرَّاء

 

 

 

إن ملابساتِ الوفاء والجفاء التي يمرّ بها المرأُ في مِشْوَار الحياة الطويل أو القصير؛ ورغادةَ العيش أو المعيشةَ الضنيك؛ والرخاءَ الاقتصادي أو الأزمةَ الاقتصادية؛ ومراراتِ الحياة أو حلاواتها؛ وتواصلَ الانتصارات والاكتسابات، أو توافرَ الشقاوات والحرمانات؛ وتكاثرَ إشراقات النجاح، أو استمرارَ إظلامات الخيبة؛ وفيضاناتِ السرور والابتهاج، أو طغياناتِ الحزن والألم؛ ولمساتِ الاستقبال الحانية، أو صدماتِ التنكّر القاسية؛ وابتساماتِ الأيّام والليالي أو تجهمّاتِ الأوضاع والظروف؛ هذه وغيرها من المواقف التي قد لا يَعُدُّها عادٌّ، تُغَيِّر المرأَ من داخله وربّما من ظاهره، وربّما تَقْلِبه رأسًا على عَقِب وظهرًا لبطن؛ فلا يبقى على ما كان عليه من ذي قبلُ، حتّى يحدث أنّه من رآه وجرَّبه في حالته الأولى، ثمّ اتّفق له أن يُجَرِّبه في حالته الثانية، يصبح لايكاد يُصَدِّق أنّه يتعامل مع ذاك الإنسان الذي، سَبَقَ أن تَعَامَل معه من قبل. أي أن الأحوالَ ذات السرور الغامر أو ذات الحزن الأليم تنحت من الإنسان إنسانًا آخر لايُشْبـِهُه إلاّ في صورة اللحم والدم .

 

فمن لم يتغيّر بعدَ مواقف الشدّة الشديدة هذه أو مواقف اللِّين الليِّن هذه، فمعنى هذا أنه أحدُ إنسانين: أَبْلَهُ مُغَفَّل لايتأثـّر بشيء، لأنه لا وعيَ لديه ولا إدراكَ ولافهمَ يُحَرِّكه ولا عقلَ يَهُزُّه لدى السرور أو الألم؛ أو أثبتُ إنسانٍ فهو أقدرُ على التعامل مع كلا النوعين من الظروف المشار إليها، دون أن تؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا. إنه لايوجد إلاّ قليلاً، وهو عظيمٌ حقًّا؛حيث استطاع أن يؤثر في الظروف دون أن تؤثر هي فيه. وعظمتُه لا ترجع إلى شخصه وصفاته بمثل ما ترجع إلى توفيق الله عزّ وجلَّ وحكمته البالغة في خلق هذا النوع الفريد العظيم من الإنسان مثله الذي يثبت على حاله ثبوتَ صخرة الوادي التي لاتزيلها من مكانها السيولُ الجارفة وتياراتُ المياه المتدفقة من الجبال .

 

مررتُ في حياتي بالنوعين كليهما من المواقف، كما مَرَّ بها كثيرٌ ممّن عاصرتُهم من الأقران والزملاء ومن غيرهم، كما أن الكثيرَ منهم لم يمرّوا إلاّ بأحد من النوعين من الأحوال. وكانت المواقف السلبيّة أكثر وأكثف حضورًا في ساحة حياتي الممتدّة على خمسة عقود والنصف، ولم تكن المواقف الإيجابيّة إلاّ قليلَ الحضور؛حيث إنّ الله قَدَّرَ لي أن أعيش حياةَ الشقاء والمعاناة منذ أن كنتُ في المهد صبيًّا؛ فقد انحسر ظلُّ الأبوّة عن رأسي وأنا ابنُ ثلاثة شهور، ومات جدّي رحمه الله – والد أبي رحمهما الله – ووالدُه رحمه الله حيٌّ يُرْزَق، فاحتجب نصيبُه من الإرث حسبَ ما تقرّر في الشريعة من حجب الحفيد اليتيم من الإرث. وتوالى الشّقاءُ بالنسبة إلى معايشتي للحياة، حتى كان طريقي إلى تحصيل ما حصّلتُه من التعليم يبدو لي كأنّي أشقّه من الصخر؛ لأنّ مجرد عيشي واجتيازي سبيلَ الحياةَ كانّ شاقًّا للغاية، فضــلاً عن أن أمارس "ترفَ" تحصيل التعليم، وتثقيف النفس. وكنتُ أجتاز رحلةَ التحصيل بين شوك وقتاد؛ إذ تعرّضتُ لبعض الأمراض المستعصية، وتحمّلتُ كبيرَ عناء في علاجها. وتخرجّتُ حاملاً شهادة "العالم" التي يحملها المتخرجون في هاتي الجامعات الإسلاميّة الأهليّة. وما إن أمضيتُ بعضَ السنوات في ممارسة التدريس والكتابة، حتى أُصِبْتُ بداء السكّري ذي العوارض المرضيّة المتزايدة؛ فخلالَ السنوات القليلة اصطلحتْ عليّ الأمراض التي اشتدّت وتزايدت مع مرور الوقت وتقدّم السنّ. هذا إلى شَظَف العيش وأنواع البؤس .

 

وأكون كافرًا بنعمة الله عَزَّ وجلَّ إذا لم أذكر أنّه تعالى أكرمني بكثير من النعم التي كانت معنويّة – وهي أكثر قيمة ونفعًا وبقاءً – أكثر من أن تكون ماديّةً، وفَرَّجَ عنّي كثيرًا من الكُرَب، وأزال عني كثيرًا من المخاوف، وآتاني بعضَ الرفاهية التي ما كان لي بها عهدٌ في ماضي حياتي.

 

وهذه إشارةٌ خاطفةٌ إلى جوانب كل من المواقف السلبيّة والإيجابيّة في حياتي، وإبانةٌ سريعةٌ لما قلتُه: من أنّ الأولى كانت كثيرة شديدة، وأن الثانية كانت قليلة طفيفة .

 

ولكنّ هذه وتلك لم تُغَيِّرني – ولله الحمدُ والمنّةُ والفضلُ في كلّ ما وُفِّقْتُ له – ولم تجعلني أتحوّلُ كثيرًا عن شيمتي الطيّبة؛ فبقيتُ لحدّ مستطاعٍ لكل من عرفتُه في حياتي على الموقف الجميل الذي تعاملتُ به معَه، أوّلَ ما تعرّفتُ عليه. إذا صافيتُ أحدًا عندما كنتُ حَدَثًا، لم تُكَدِّرْ صفوَ لوح قلبي صروفُ ليالي الدهر، حاولتُ جهدي أن أحتفظ بهذه المصافاة له رغمَ محاولة أحداث الزمان أن لا أبقى عليها. وظلتُ أدعو اللهَ ربّي أن يعينني على البقاء عليها لحين يأتي موتي. ويبدو كأنّه جَلَّ شأنُه وعَظْمَ برهانُه قد تقبّل دعوتي هذه. وتلك نعمةٌ جليلة من النعم الكثيرة التي أكرمني الله بها بدون حول مني ولاقوة ودونما جدارة؛ فلك ربِّ! الحمدُ الذي لامُنْتَهىٰ له دون مشيئتك .

 

لستُ عظيمًا؛ حيثُ ادّعيتُ أن من لايسقط أمام مكر الأيّام والليالي، ومواقفها الإيجابيّة المُغْرِية، ومواقفها السلبيّة المؤلمة، فهو عظيم؛ لأني لستُ ممن لايسقط أمام أيّ من نوعي المواقف أيَّ سقطة، ويثبتون أمامَها ثبوتًا كاملاً كالراسي من الجبال أو الثابت من صخر الوادي؛ ولكنّي – وقد شَهِدَ الله – لستُ كمن يَتَلَوَّنُون تَلَوُّنَ الحِرْبَاء؛ حيث أحاول دائمًا أن لايُجَرِّبَ منيّ عارفٌ بي متعاملٌ معي موقفًا جافًّا، بعد ما جَرَّب مني في السابق موقفًا رطبًا؛ فإن نجحتُ في ذلك وأتيتُ على مستوى ما أردتُ، فذاك؛ وإلاّ فإنّ لي أجرَ النية وثواب الإرادة الحسنة؛ فإنّ اللهَ لايُكَلِّفُ نفسًا إلاَّ وُسْعَها.

 

لستُ قصدتُ في هذه السطور – واللهُ يعلم السرَّ وأخفى – أن أُثـْبـِت فضيلتي على غيري أو أُعَدِّد في هذه المقالة الخفيفة حسناتي وعوامل تفوّقي، وأعوذ بالله من شرّ نفسي؛ فإنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ مارحم ربّي؛ وإنّما قصدتُ أن أذكر أن الناس في الأغلب رهنٌ بحكم الأوضاع والملابسات، مُسَيِّرون بها في أكثر الأحوال، ومحكومون بالصروف والحوادث؛ فالسرّاء تُؤَثِّر فيهم، والضرَّاء تُؤَثِّر عليهم، والشمسُ تترك فيهم أثرَها، والظلُّ يفعل فيهم فعلَه، فكلُّ من الآلام والأحلام لابدّ أن تجعل الإنسانَ – وهو أكثر الحيوانات وعيًا وإدراكاً وتأثيرًا كما شاءت حكمة الله – يتفاعل معها و يستجيب لدواعيها، وينصهر في بوتقة تأثيرها قليلاً أو كثيرًا. ولا يجوز لإنسانٍ أن يدّعي أنّه فوقَ كلّ تأثير تُحْدِثه الحوادثُ سلبيًّا كان أو إيجابيًّا؛ ولكنّ بعض المحظوظين لاتُبْطِرهم السرَّاءُ ولا تُدْهِشهم الضرَّاءُ بشكل ينسون جميعَ العلائق ومقتضياتِها، والأواصر وحاجاتِها؛ وإنما يقدرون في كلّ من السرَّاء والضرَّاء أن يظلّوا في طَوْرِهم،ويعرفوا لحدّ مستطاع لكلّ ذي حقّ حقَّه، ولكل ذي فضل فضلَه؛ فيحاولون قدرَ ما يستطيعون أن يؤدّوا ما عليهم نحوَه من الحقّ، ولا ينجرفوا مع الواقع مهما كان جارفًا.

 

والناسُ في الأغلب ينجرفون مع الواقع، ولا يضبطون أنفسهم لدى شدّة السرَّاء أو الضرّاء؛ فيخرجون من طورهم، ويَنْسَوْن لكلّ ذي فضل فضلَه؛ فإن أثـْرَىٰ أحد بعد شدّة البؤس، أوإن أفقر بعد الثراء الفاحش، أو نُزِعَتْ منه السيادة بعد ما كان يعتلي عرشَها، أو سُلِبَ نوعًا من السلطة أو الصلاحيّة كان يمارســه من قبل، أو عضّتْه الأمراضُ المتتابعةُ وكان صحيحًا مُعَافىً، أو لسعتْه مُعَقَّدَاتُ الأمور، وشدّةُ الأحوال، بعدما كان بمنأى عن كل التعقيدات والاختلاجات؛ أو كان عكسَ ذلك كلّه؛ فصار سيّدًا مُطَاعًا بعدما كان رجلاً عاديًّا أو وضيعًا مُهَانًا من سَقْط البشر، وكان مُحْتَرَمًا؛ وفاز بالاحترام وكان لايُؤْبَه له؛ وعُيِّنَ مسؤولاً عن أمر ذي بال، وكان من قبل سائلاً مُتَسوِّلاً؛ فهذه الأحوالُ وغيرُها تجعله تتغيّر طبيعةً وسلوكاً وممارسةً.

 

فإن كان مُتَوَاضِعًا، يُصْبـِحْ يَتَجَبَّر وَيَتَكَبَّر؛ وإن كان ضحكوكاً، صار عَبُوسًا مُتَجَهِّمًا؛ وإن كان حسنَ السلوك، يصبح سَيِّ العمل والتعامل؛ وإن كان يُؤَدِّي الحقَّ إلى صاحبه، يَصِرْ مُجْحِفًا به غَامِطاً له. كما يَحْدُثُ عكس ذلك.

 

ولكنّ أناسًا كثيرين يثبتون في الأحوال كلها: خيرها وشرِّها؛ فلا يتغيّرون، أو يتغيّرون يسيرًا، لايبدون للآخرين متغيّرين بشكل ينتبهون له، ويعترضون عليه، ويسيئون من أجله الظنّ بهم في حالة التغيّر السلبيّ، أو يدهشون من أجله كثيرًا في حالة التغيّر الإيجابيّ، ويقولون: ما أقدر الأحوالَ على التغيير ونحت نوع آخر من الإنسان من الإنسان الذي جَرَّبُوه من قبلُ؟!.

 

إن الشريعة عَلَّمْتنَا أن نكون مُعْتَدِلين ونبقى على حالة التوازن في كل من أحوال الخير والشرّ؛ فلا تُبْطِرنا السرَّاءُ ولا تُدْهِشنا الضرَّاءُ؛ بل نكون شاكرين في حالة السرَّاء، ونكون صابرين محتسبين في حالة الضرَّاء؛ فكلتاهما من قبل الله عَزَّ وجلّ، ليعلم أننا متقيدون بأمره ونهيه، حتى نكون مَرْضِيِّيْن لديه في جميع الأحوال.

اللّهمّ عونَك ونصرَك .

 

أبو أسامة نور

 

 (تحريرًا في الساعة 12 من يوم الأحد: 10/محرم  1429هـ الموافق 20/1/ 2008م)

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3  ، السنـة : 32.