الجمال الإلهي وآثاره في الأنفس والآفاق

 

    بقلم :   أ. د. / محمد محمد أبوليلة

  

 

  

 

 

 

الجمال سرّ من أسرار القدرة الإلهية ودليل عليها، وهو يدرك بالحسن وبالقلب وليس من السهل تعريفه أو حدّه بأوصاف أو رسوم أو عبارات.

 

وكلّ ما قاله الفلاسفة والعلماء في تعريف الجمال لايعدو أن يكون تقريبًا لمعناه، على سبيل المثال، فإنّ الشريف الجرجاني يُعَرِّفُه بقوله: "الجمال من الصفات: ما يتعلّق بالرضا واللطف"(1).

 

فالجمال عنده صفة أو صفات تتعلّق بالرضا واللطف، وذلك جانب من جوانب الجمال، لأن مشاهدة الجمال وتَغَلْغُلَ أثاره في النفس يتولّد منه الرضا والسرور والراحة النفسية .

 

واللطيف: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى وهو من صفات التنزيه، ولهذا الاسم تعلّق كبير بالجمال الإلهي وبالجمال المبثوث في الكون.

 

ومن معاني اسم اللطيف، البر بعباده، الذي يلطف بهم من حيث لا يحتسبون، ومن لطفه تعالى إبداعه للأشياء على غير مثال وصنعها في أحسن صورة وأتم تركيب وأتقن أداء.

 

ويُعَرِّفُ الراغب الأصفهاني الجمالَ بقوله: "الجمال الحسن الكثير فهو هنا يعرّف الجمال بالجمال، أو يعرّف اللفظ بمرادف له، ولكي يبرز الأصفهاني قيمة الجمال فإنه استعمل كلمة "الكثير" على أن ميزان الجمال دقيق وحساس، وليس من السهل تقدير الجمال أو قياسه، إذ أن قيمته تندرج في طبيعته ولا تنفصل عن ذاته، حتى أن أثر الجمال في نفس المشاهد له، المنفعل به لا يخضع لتقدير أو قياس فهو شعور داخلي قد يترجمه صاحبه في عبارات أو إشارات، وقد يظهر في لغة الملامح والتقاسيم .

 

ويقسم الراغب الأصفهاني الجمال إلى نوعين:

 

أحدهما: جمال يخص الإنسان في نفسه أو بدنه أو فعله .

 

والثاني: ما يوصل منه إلى غيره، ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم  الذي أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: يا رسول الله! الرجل يُحِبُّ أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".

 

ومعنى بطر الحق هو أن يتكبر الإنسان على الحق فلا يقبله ولا يراه حقًا؛ بل يحوله إلى باطل. ومعنى غمط الناس هو أن تستهين بهم وتحتقرهم، وغمط النعمة عدم شكرها.

 

ويُعَرِّف ابن حزم الأندلسي الحسن بقوله: "الحسن هو شيء ليس له في اللغة اسم يُعَبَّرُ به عنه، ولكنه محسوس في النفوس باتفاق كل من رآه، وهو بُردُّ مكسوّ على الوجه، وإشراق يستميل القلوب نحوه، فتجتمع الآراء على استحسانه، وإن لم تكن هناك صفات جميلة، فكل من رآه، راقه واستحسنه وقبله، حتى إذا تأملت الصفات أفرادًا لم تر طائلاً وكأنه شيء في نفس المرئي يجده نفس الرأئي. وهذا أجلّ المراتب ثم تختلف الأهواء بعد هذا، فمن مفضل للروعة، ومن مفضل للحلاوة وما وجدنا أحدًا قط يفضل القوام المنفرد"(2).

 

ويعرّف الحلاوة بقوله: "الحلاوة رقة المحاسن، ولطف الحركات وخفة الإشارات، وقبول النفس لأعراض الصور، وإن لم تكن صفات ظاهرة"(3).

 

وجاء في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي في تعريف الجمال أنه بمعنى "الحسن، وحسن الصورة والسيرة، وأنه يُطْلَقُ على معنيين: المعنى الأول: صفاء اللون ولين الملمس وغير ذلك مما يمكن أن يكتسب، وهو بهذا المعنى على قسمين ذاتي وممكن الاكتساب .

 

وثانيهما: الجمال الحقيقي وهو أن يكون كل عضو من الأعضاء على الفضل وعلى ما ينبغي أن يكون عليه من الهيئة والمزاج. والجمال عند الصوفية عبارة عن إلهام الغيب الذي يَرِدُ على قلب السالك، والجمال الحقيقي عندهم صفة أزلية لله تعالى.

 

وفي الإنسان الكامل للجبلى: "جمال الله تعالى عبارة عن أوصافه العليا وأسمائه الحسنى، هذا على العموم: وأما على الخصوص فصفة الرحمة، وصفة اللطف، والنعم؛ وصفة الجود والرزاقية، وصفة النفع وأمثال ذلك فكلّها صفات جمال .

 

ويقول إن هناك صفات مشتركة في أسماء الله تتصل من وجه بالجمال ومن وجه آخر بالجلال، على سبيل المثال فإن اسم الرب يكون باعتبار التربية والإنشاء اسم جمال، وذلك لما يربى من اخلاق الجمال والكمال في النفس وهذا من معاني قوله تعالى ﴿إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ...﴾ فقد جاءت الآية تأمر بالقراءة وتعلم القرآن وهو الجمال المعجز. وجاء الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم  وهو الآية في الجمال والكمال، وأما إذا اعتبرنا الرب من جهة الربوبية والقدرة فإن اسم الرب يكون اسم جلال.

 

والجليل اسم للكامل في الذات. والصفات معًا. وهو يفيد كمال الصفات السلبية والثبوتية وهو أصل في الجمال الخلقي(4).

 

واسم الرب بهذا المعنى مثل اسم الله واسم الرحمن أسماء جلال، بخلاف اسمه تعالى الرحيم؛ فإنه اسم جمال، والرحمن هي منبع الأخلاق والقيم والجمال عند الفلاسفة هو إحدى القيم الثلاث التي تؤلّف مبحث القيم العليا، (الحق والجمال والخير).

 

والجمال عند المثاليين منهم "صفة قائمة ثابتة في طبيعة الأشياء وليست نسبيةً متغيرةً، وبالتالي؛ فالشيء الجميل جميل بذاته، وليس بالأوصاف التي تقال عنه، ولا يخضع الجمال في هذه الحالة لأحوال من يصدر الحكم أو ظروفه الخاصة، وعلى عكس ذلك يرى الطبيعيون من الفلاسفة أن الجمال اصطلاح أو مواضع بشري اتفق عليه مجموعة من الناس تجمعهم ظروف واحدة، وبالتالي؛ فإن الحكم بجمال الشيء أو قبحه يصبح نسبيًا يختلف باختلاف الأشخاص(5).

 

الجمال في القرآن الكريم

ذَكَرَ الله تعالى في عدّة مواضع من القرآن الكريم بلفظه. يقول تعالى عن الأنعام التي خَلَقَها وَسَخَّرهَا لصالح الإنسان ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيْهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُوْنَ* وَلَكُمْ فِيْهَا جَمَالٌ حِيْنَ تُرِيْحُوْنَ وَحِيْنَ تَسْرَحُوْنَ وَتَحْمِلُ أَثـْقَالَكُمْ إِلىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُوْنُوْا بَالِغِيْهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوْفٌ رَّحِيْمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيْرَ لِتَرْكَبُوْهَا وَزِيْنَةً وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعْلَمُوْنَ﴾ النحل: الآيات 5-8. فالأنعام تمثل لأصحابها قيمة مادية وقيمة جمالية فهم يسرّون عند النظر إليها ويطمئنون على مصدر رزقهم وراحتهم، وكذلك يسر بالنظر إلى هذه الأنعام كل من يراها لأن فيها دلالات على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره .

 

ويقول تعالى على لسان يعقوب u : ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيْلٌ وَّاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلىٰ مَا تَصِفُوْنَ﴾ يوسف: آية 18.

 

فالصبر الجميل هو الصبر على المفقود مع الثقة بالموعد ومعنى كلام يعقوب أي أنني سأصبر صبرًا جميلاً على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه ولم ترعوا حقي وحق أخيكم وحق التربية والنشأة حتى يفرج الله بعونه ولطفه، وسوف أستعين بالله على ما تذكرون من الكذب والمحال، حتى ينجلي الأمر.

 

وقد جاء في الآية 84 من السورة نفسها: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيْلٌ عَسىٰ اللهُ أَنْ يَّأتِيَنِيْ بِهِمْ جَمِيْعًا﴾.

 

فيعقوب هنا يصرح بقرب اجتناء ثمرة الصبر الجميل ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوْ بَثِّيْ وَحُزْنِيْ إِلىٰ اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَالاَ تَعْلَمُوْنَ﴾ يوسف: آية 86.

 

ويقول الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم  : ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُوْلُوْنَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيْلاً﴾ المزمل : آية 10 .

 

والهجر الجميل هو البعد عن المكذبين المعاندين بأدب ولطف، ودون عتاب أو لجاج.

 

وقد جاءت بعض الإشارات في القرآن إلى الجمال ولكن بعبارات غير مباشرة .

 

على سبيل المثال يقول تعالى عن يوسف u: ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هـٰـذَا بَشَرًا إنْ هـٰـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيْمٌ﴾ يوسف: آية 31.

 

أي أن يوسف قد تعدّى في الحسن أوصافَ البشر وأنه حقيق أن يُحَبَّ لجماله وكماله .

 

ويقول تعالى: ﴿اَلَّذِيْ خَلَقَ سَبْعَ سَمـٰـوَاتٍ طِبَاقًا مَاتَرٰى فِيْ خَلْقِ الرَّحْمـٰـنِ مِنْ تَفَاوُتٍ...﴾ الملك: الآيات 3-5، أي أن الناظر في خلق الله لا يرى فيه اختلافًا ولاتنافرًا، ولا نقصًا ولا عيبًا ولا خللاً ولا قبحًا، وهذه كلها تثبت جمال خلق الله وتمام تدبيره له وعنايته به .

 

هذا ما ورد في القرآن الكريم عن الجمال بلفظه وما في معناه وسوف نتناول الجمال بأوصافه وبالدعوة إلى التفكير فيه كما ورد في القرآن الكريم ولنبدأ كلامنا بالجمال في أسماء الله الحسنى .

 

أسماء الله الحسنى والجمال

من الأسماء الحسنى ما يتعلق بالجمال ومنها ما يتعلق بالجلال وسوف نقتصر هنا على بعض الأمثلة منها مبينين تعلقها بالجمال وآثارها في النفس الإنسانية .

 

النور

النور من أسمائه تعالى وقد قيل إنّ معنى النور هو الذي حَسَّنَ الأبشار (جمع بشر) بالتصوير، والأسرار بالتنوير، وقيل هو الذي أحيا قلوبَ العارفين بنور معرفته، وأحيا نفوسَ العابدين بنور عبادته.. وهو الذي يهدي القلوب إلى إيثار الحق واصطفائه ويهدي الأسرار إلى مناجاته واجتنابه وما لاحظ العبد من النور فإنه يَعرِف به الله، ويعرف نفسه، ويشاهد به آثار الجمال والجلال، ويزن به الأفعال والأقوال ويحدّد به موقعه من الحياة والدين، وبه يصير قادرًا على نقد ذاته وإصلاح أحواله: ﴿وَمَنْ لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَه نُوْرًا فَمَا لَه مِنْ نُوْرٍ﴾(6) النور : آية 40.

 

والنور جامع للجلال والكمال، وكل جميل في الوجود فإنما هو أحد انعكاساته وأمداده وفيوضاته. يقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمـٰـوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكـٰـوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِىْ زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِىْ اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ النور: آية35.

 

يقول نفطويه في أحد إشراقات هذه الآية، هذا مثلٌ، ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم  يقول: "يكاد منظره يدلّ على نبوته وإن لم يقل قرآنًا"، وقد سمى الله تعالى محمدًا بالنور وبالسراج المنير في موضعين من القرآن: ﴿يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَّمُبَشِّرًا وَّنَذِيْرًا وَّدَاعِيًا إِلىٰ اللهِ بِإِذْنِه وَسِرَاجًا مُّنِيْرًا﴾ الأحزاب: آية 46. ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِنَ اللهِ نُوْرٌ وَّكِتَابٌ مُبِيْنٌ* يَّهْدِيْ بِه اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ المائدة: الآيتان 15-16.

 

وذلك؛ لأن الله قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم  نورًا من نوره يهدي به الخلق إلى الله وإلى الصراط المستقيم.

 

البديع والقدّوس والسَّلام

ومن أسمائه تعالى التي تتعلق بالجمال البديع والقدوس والسلام، أما البديع فهو الذي ليس له مثال، وهو الذي يبدع الأشياء على غير مثال سابق في أجمل صورها. وأحكم صنعها يقول تعالى: ﴿بَدِيْعُ السَّمـٰـوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ البقرة: آية 117، والقدوس هو الطاهر الجميل المنزّه عن كل قبيح في ذاته أو في خلقه، والتقديس التطهير والتنزيه، ولا يصدر ذلك إلا عن جميل، وحظ العبد من هذا هو طهارة الظاهر والباطن، والسلام من أسماء الله تعالى ومن معانيه سلامته عز وجل في ذاته وأفعاله. وخلقه عن العيوب والقبائح.

 

فالله جميل، وكذلك فإن كل ما خلقه جميل باعتبار التجلي والصدور ومناسبة الخلق في عموم المبدعات وحظ العبد منه الشعور بالسلام والسكينة والتخلق بخلق الرحمة .

 

وأما اسم الخالق فيدل على كمال علمه تعالى وعلى قدرته على الإيجاد من عدم، والبارئ يدل على كونه موجدًا للذوات لا عن المادة، والمصور يدل على أنه هو الذي صوّر هذه الأشياء ووضعها بكيفياتها ووظائفها وآجالها، فالله تعالى لما أراد أن يخلق الإنسان عاقلاً فاهمًا مكلّفًا ومخاطَبًا فإنه قدر تركيب ذاته بقدر مخصوص وصفات معينة وألف أعضاءه على وجه محكم مطابق للمصلحة أو للأمانة التي حمله إياها، فالله تعالى هو الذي أحدث جسم الإنسان ومزاجه وتراكيبه وسائر الأسرار التي يشتمل عليها هذا الجسم(7)، وخلقه في أحسن تكوين وأجمل صورة، وهذا يتعلق باسمه المصور سبحانه وتعالى، وحظ الإنسان من هذه الأسماء القدرة على صنع الأشياء الجميلة على أحسن وجه ممكن له، والشعور بتجليات الكمال الإلهي في النفس أو في الكون.

 

وينبغي أن نعلم أنه ليس في خلق الله قبيح، وأما القبيح في الأشياء التي نراها فإنه يكون بالاعتبار لا بالذات فقبح المعاصي على سبيل المثال إنما ظهر باعتبار النهي ومخالفة أمر الله، وقبح الرائحة المنتنة إنما هو باعتبار من لم بولائها طبعه، وأما هي فعند الجعل وعند من يلائمها طبعه لها من المحاسن وهكذا(8).

 

جمال المخلوقات

جمال المخلوقات دليل على وجود الخالق تعالى وكماله وجلاله وقدسيّته، وعلى إبداعه في الخلق وعنايته بالمخلوقين، والله تعالى جميل في ذاته يحب الجمال في خلقه، وكل جميل في هذه الحياة الدنيا فإنه اسم وإشارة إلى الجمال المطلق الذي ادّخره الله تعالى للمؤمنين في الدار الآخرة حسن المؤمن دليله على ذلك .

 

والجمال دليل القدرة والإبداع والطهارة وهو عنوان الرقي والتحضر وهو أهم ما تُقَاسُ به وتُعْرَفُ من خلاله أخلاق الشعوب، وإذا ما تحققت معاني الجمال في حياة الناس تهذّبت مشاعرهم وترقّت أحاسيسهم وصفت عقولهم وتفتّحت مداركهم. فأقبلوا على الحياة وتنافسوا فيها وأبدعوا في العلوم والمعارف والصنائع، وزكت من ثم نفوسهم وأخلاقهم وتحسّنت طباعهم، والله تعالى هو مصدر الجمال وقد أمرنا عزّوجلّ أن نُجَمِّلَ ظاهرنا وباطنَنا وأن نطهر قلوبنا وأن نحافظ على جمال المخلوقات التي سخّرها لنا، وعلى نظافة البيئة التي أوجدنا فيها الله تعالى.

 

فهذا الكون الجميل خلقه الله تعالى على أحسن نظام وأتم صنعة وأجمل هيئة وأمرنا بالحفاظ عليه فقال: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوْا فِيْ الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ الأعراف: آية 56، وعرفنا تعالى أن ما يظهر في الأرض من قبح وفساد فإنه من فعل الإنسان ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بَمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ الروم: آية 41.

 

هذا الكون الذي خلقه الله لنا جميلاً مزدانًا متجددًا متنوعًا في الخلق والوظائف والهيئات والتراكيب والمنافع ينبغي أن نحافظ عليه، لقد خلق الله في هذا الكون كائنات من أنواع الحيوانات وأشكال الطيور وأصناف النباتات المتعددة والمتجددة، وهذه الكائنات والمخلوقات تضفى الزينة وتنثر البهجة والسرور على نسيج الحياة على سطح هذه الأرض، وتجدد نشاط النفس الإنسانية وتُثير الخيال وتنشط الحواس والأحاسيس فيقبل الناس على الحياة وتنشرح لها صدورهم، وتنفسح أمامهم آماد الآمال فينطلقون يعملون ويبدعون .

 

ولقد جعل الله تعالى الزمن فصولاً خريفًا تتساقط فيه الأوراق القديمة، وربيعًا فيه تزدهر الأشجار وتتفتح الأزهار وتنضج الثمار وتنشط الأطيار فتحلّق وتفرّد، وفيه تلبس الأرض كسوةً خضراء جديدةً، ويزداد رونقها نضرةً وجمالاً، وما هذا كله إلا لتجديد عزم الإنسان وتقليب أفكاره ودفعه إلى العمل والتجديد دفعًا. ولكل فصل من فصول العام سمائه المؤثرة في النفس والحس والخيال، ولكل فصل من فصول العام جوه ومدده، وللأبدان والأرواح والعقول حياة طيبة في هذه الأمداد.

 

ولقد خلق الله تعالى هذه الطبيعة على مثال رائع من تجديده النفسي والمحافظة على أسباب الجمال والطهارة وعلى نحو تتخلص فيه من النفايات والعوادم وإلا لاختنق الإنسان، إذ أن هناك في هذا الكون معامل طبيعية خلقها الله تعالى للتنظيف الذاتي للكرة الأرضية، فمن رياح تثير الفضلات وتذهب بالروائح النتنة والنفايات وتجدّد الهواء، ومن أمطار ترش الأرض أو نغسلها أو تثبت غبارها، وتلقح زروعها وتخرج كوامنها من الثمار والزروع والحشائش وغير ذلك مما يطيب أنفاس الحياة ويحافظ على جمال البيئة وينفع الإنسان .

 

وقد أمرنا الله تعالى بالنظافة وجعل النظافة من الإيمان وجعلها من فروض الدين فليست تصح صلاة المؤمن إلا بها كما أخبرنا الله تعالى أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين .

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ﴾ البقرة : آية 222.

ويقول: ﴿فِيْهِ رِجَالٌ يُّحِبُّوْنَ أَنْ يَّتَطَهَّرُوْا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِيْنَ﴾ التوبة: آية 108.

ويقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرًا﴾ الأحزاب: آية 33.

 

وأمرنا تعالى أن نتزيّن في الظاهر وأن نتجمّل وأن نحافظ على صحتنا ونضارة وجوهنا واعتدال أمزجتنا.

يقول تعالى: ﴿وَكُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلاَ تُسْرِفُوْا إِنَّه لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِيْ أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ الأعراف: آية 32.

 

ومظهر المؤمن ينبغي أن يكون جميلاً ومخبره يحب أن يكون حسنًا كذلك وأكله وشربه ينبغي أن يتوافر له حفاظًا على صحته وسلامته البدنية والعقلية .

 

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأجمل صورة سوّاه بقدرته هيئةً جميلةً وأعضاء متناسقةً متعاونةً خلقه من تراب من حمأ مسنون ومن ماء مهين ثم درجه في الخلق في بطن أمه حتى إذا ما اكتمل بناء جسمه خلقه خلقًا آخر فجعله حيًّا متحرّكاً سميعًا بصيرًا ثم عاقلاً متدبّرًا، ومُبدعًا متفنّنًا .

 

والإنسان محلّ إعجاز وموضع عبرة في خلقه ولذلك دعانا الله تعالى للنظر في أنفسنا فقال: ﴿وَفِيْ أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُوْنَ﴾ الذاريات: آية 21، ﴿سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِيْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ فصلت: آية 53.

 

فجعل الله تعالى في هذه الآية الإنسان مقابلاً للآفاق كلّها وذلك لأن الإنسان يشتمل على أسرار قد تعدل أسرار الكون، ولننظر إلى أي عضو في الإنسان مهما دقّ أو صغُر فإنّنا سوف نجد فيه آيةً عظمى ودلالةً كبرى ناطقةً بلسان الحال عن الخالق عزّ وجلّ .

 

ولننظر إلى العينين على سبيل المثال وهما متّصلتان بمخّ الإنسان اتصالاً مباشرًا فسوف نجد التنوّع والتناسق والأسرار العجيبة فيهما وفي موضعهما من الوجه لننظر كيف يتحركان وكيف يتقلبان وكيف يفتحان وكيف يغلقان بوّابتان طبيعيتان يتحكّم فيهما الإنسان ورموش مرصوصة متناسقة وحواجب تجملان وتحددان وتحميان العين، والعينان فوق أنهما يؤدّيان وظيفة الإبصار فإنهما موضعًا للسحر والدّلال، وفيهما يظهر حال الإنسان من حزن أو سرور أو يأس أو أمل أو غضب أو رضًا أو وعيد وتوعّد، وبالعينين ينظر الإنسان إلى صنع الله ومن النظر يأتي الفكر والتعقل والتدبّر.

 

ولننظر إلى شعر الإنسان الذي يتوزّع جسمه ويتدرّج من حيث الصغر والكبر والكثافة والخفة، والنعومة، والخشونة، وكيف أن مجاري العرق تكون بجانب مجاري الدم فينضح هذا ولا يشغب ذاك ولا يخرج أحدهما من مجرى الآخر ولا يختلط به، على الرغم من دقة العروق والشرايين وتلاصقها ناهيك باللبن كيف يُخرجه الله من بين فرث ودم سائغًا للشاربين .

 

ولننظر كيف يتنوع الماء داخلَ جسم الإنسان بين دم ولبن ودمع ولعاب ومخاط ومني وبول وعرق .

 

ومن رحمة الله تعالى أنه خلقنا على الفطرة ومن حيث الروح والقلب، وفي أحسن تقويم من حيث الصورة، وزودنا بوسائل الإدراك والفهم والتأمل والنظر وسائر الحواس وبالصوت، وما من عضو خلقه الله في جسم الإنسان إلاّ وله إلى جانب وظيفته قيمة جمالية تلك القيمة هي التي تفرق بين إنسان وإنسان، فتبارك الله أحسن الخالقين، والجمال ليس في تناسق الأعضاء وتماسكها فحسب وإنما هو أيضًا في الروح، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِيْنٍ* ثـُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِيْ قَرَارٍ مَكِيْنٍ* ثـُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثـُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنَ الْخَالِقِيْنَ﴾ المؤمنون: الآيات 12-14.

 

فالله تعالى قد خلقنا على هذا النحو الذي في الاثنين، ومن المادة التي ذكرها وحتى أخرجنا في هذه الصورة الجميلة، ولكي يعمق الله تعالى الإحساس بالجمال لدى أول مخلوقين، آدم وحواء أسكنهما الجنة قريبًا منه – عزّ وجلّ – وإذًا فالجمال أصل في خلق الإنسان والقبح عرض يكتسيه الإنسان بالإهمال والتفريط في حق الجمال، وما إن يفرط الإنسان في الحياة الجميلة الكريمة حتى تتخبّط صورته ومسيرته وتنحطّ حياته إلى أسفل سافلين ولا يمكن للإنسان أن ينهض من جديد إلاّ إذا جمّل حياته وبيئته وطهّر حسه ومسلكه وتعرّف على أساس المنهج الربانيّ الذي وضعه الله له للحفاظ عليه كوجود وكقيمة.

*  *  *

الهوامش :

(1)        التعريفات ص 88.

(2)        مفردات ألفاظ القرآن ص 202.

(3)        الأخلاق والسير في مداواة النقوس ص 179.

(4)        نفس المصدر ص 178.

(5)        التهانوي – ج1 ص 348 – الجيلي – الإنسان الكامل ج1 ص 89، الرازي. شرح أسماء الله الحسنى ص 276.

(6)        انظر المعجم الفلسفي – مجمع اللغة العربية ص 62.

(7)        الرازي: أسماء الله الحسنى ص 348.

(8)        الرازي – ص 215.

(9)        نفسه ص 349 .

 

 

ربيع الثاني – جمادى الأولى 1429هـ = أبريل – مايو  2008م