الكذب عند الأطفال

 

    بقلم : فالح إبراهيم عبود

  

 

  

 

 

الكذب أساس كل رذيلة، ومنتهى كل نقص وهو من أقذر الصفات وأخسّها. ويُعَدُّ انحرافًا نفسيًا وكثيرًا ماتُشَبّهْ الأكاذيب بالرداء الذي يخفي معالم النفس..

 

أما نظرة الإسلام للكذب فتتجلّى في الحديث الشريف: (إيّاكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا) : رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه وهناك ضروب شتى وأنواع مختلفة من الأكاذيب فلكل منها مغزاه وما يرمي إليه، ومن الكذب ماهو اعتياديّ، وما هو مرضيّ ..

 

وهو الكذب الذي يُزَامن ويصاحب مرحلةً نفسيةً معينةً، كأن يكون مثلاً مرحلة نمو الخيال فيسمى الكذب الخياليّ، وهذا النوع من الكذب أقل خطورة من الكذب المرضي لأنه يزول بزوال المرحلة والنضج وينبغي أن لايهمل هذا الجانب من الكذب في الطفل .

 

والكذب المرضي:

 

هو بيت الداء وهو يُعَدُّ وسلةً تلجأ إليه النفس لتغلف به ذاتها أحيانًا. إن ما تعمّد إليه النفس من تعمية كوسيلة دفاعية بقصد التكيف اللاشعوري. وما التعمية هذه إلاَّ كذب الإحساس والجانب الوجداني الذي لايكون سليمًا، ويتخذ الطفل الكذب سبيلاً لحمايته، وبالتالي تمكنه من الحياة الهانئة التي يتشوق إليها، لكنه سرعان ما يحسّ بالتناقض والتناحر يعتملان ضمن إطار ذاته .

 

ولقد حاول العلاج النفسي التوافر على معالجة الكذب وذلك حينما تصبح لغته نسيجًا من الأكاذيب. والكذب الذي يحاول الطفل إتيانه قد لا يكون متعمدًا أول الأمر ثم يتفاقم في خطورته حتى يصبح لا شعوريًا(1) بعدئذٍ. ولعلّه يمكن حصر الكذب بالأسباب التالية:

       1- قد يكون الكذب عند الطفل اختلاقًا محضًا، مستمدًا من وحي الخيال، القصد منه إيهام الآخرين بقبوله لغرض بريء هو المتعة النفسية أولاً، ولجلب اهتمام الأخرين والاستئثار بانتباههم ثانيًا.

       2- وهناك الطفل اللا أبالي الذي ليبدي اهتمامًا بالحياة، لايريد أن يُطلق العنان لخياله كما أنه قد لايمكن لخياله أن يبلغ مثل هذا المستوى فهذا النوع من الكذب ينشأ من جراء عدم الاكتراث عند الطفل .

       3- ويكون الكذب أحيانًا نتيجة لما يتعرض له من مواقف جديدة في الحياة فمثلاً. عندما يُغادر البيت لأول مرة إلى المدرسة فقد يأتي ويتحدث عن قساوة المعلم أو غير ذلك مما لاصحة له.

       4- ويكذب الطفل أحيانًا لحماية ذاته ضد تهجّمات الكبار عليه، وينشأ هذا الكذب عادةً لدى الأطفال الذين لاتتمثّل فيهم قوة الشخصية، وممن تعوّدوا أو عوّدوا على الاستكانة أو الخنوع بدلاً من تنمية الثقة بالذات عندهم، لهذا كله أرجو أن يتقبّل القارئ الكريم الوصايا الناصعة التي أوردها الغزاليّ – رحمه الله – في كتاب الأخلاق لتكون نبراسًا تربويًّا فيه النفع لكل مربّ يعرف الغاية المثلى لوجود الإنسان المسلم على وجه البسيطة وإليك بعضها: (وإذا ظهر من الطفل فعل محمود فينبغي أن يجازي عليه بما يفرح به، وأن يمدح أمام الناس فإن أساء مرةً فيجمل بالوالد أن يتغافل عنه ولا يكاشفه، ولاسيّما إذا تستر الطفل واجتهد في الإخفاء، فإنّ مكاشفته قد تزيده جسارةً وعدم مبالاة. فإن عاد فليعاقب سرًّا وليحذر عواقب الافتضاح وليكن العتب قليلاً لئلاّ يهون على الطفل وَقْعُ الملام، وسماع التأنيب، وركوب القبيح).

 

ويقول ابن الرومي:

إن بحث الطبيب عن داء ذي العداء

لأس الشفـاء قبل الشفــــاء

       5- القدوة السيئة وكذب الوالدين أمامه: مما لاشك فيه أن الطفل يتعلم بالقدوة أكثر مما يتعلم بالموعظة وأن الطفل في سنواته الأولى يدرك السلوك الظاهر أكثر مما يفهم معنى الكلام المجرد ومغزاه، وإذا كانت التربية الفاضلة في نظر المربين تعتمد على القدوة الصالحة فجدير بكل مرب مسؤول ألاّ يكذب على أطفاله بحجة إسكاتهم من بكاء أو ترغيبهم في أمر، أو إسكات غضبهم.. فإنهم إن فعلوا ذلك يكونوا قد عوّدوهم على الإيحاء والمحاكاة، وقد قيل: (من استحلى وضاع الكذب عسر فطامه). وكما قال الشاعر:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوّده أبوه

 

لهذا كله نرى المربي الأول والمرشد الكامل محمدًا صلى الله عليه وسلم  قد حذر الأولياء والمربين من الكذب أمام أطفالهم ولو بقصد الإلهاء أو الترغيب أو الممازحة؛ لأن المزحة العابرة إذا انطوت على شيء من الكذب تصير كذبًا.

 

روى أبو داؤد والبيهقي عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: (دعتْني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم  قاعد في بيتنا، فقالت: هما تعالم أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أردت أن تُعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال عليه الصلاة والسلام (أما أنك لو لم تُعطيه شيئًا كُتبت عليك كذبة). وروى الإمام أحمد وابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال (من قال لصبي هاك ثم لم يُعطه فهي كذبة). وهذه مناسبة أراد النبي صلى الله عليه وسلم  أن يوجّه فيها وأن لا يدعها تمر دونما نفع عام لكل الأفراد والجماعات المسلمة، وذلك بتنشئة الأطفال منذ الصغر على فضيلة الصدق حتى يكبروا وفيهم هذا الخلق طبعًا وعادةً، فيتكوّن بذلك جيل إسلامي فاضل، تسعد به الحياة وتنهض به الأمة ويعملو به الحق؛ لذلك نفَّر الإسلام من الكذب ونهى عنه جدًا وهزلاً، كما قال الإمام علي رضي الله عنه: (لايجد العبد طُعْمَ الإيمان حتى يترك الكذب هزلَه وجِدَّه).

 

       6- الخلطة الفاسدة ورفاق السوء. ومن العوامل الكبيرة التي تؤدي إلى انحراف الولد رفاق السوء والخلطة الفاسدة ولا سيّما إن كان الولد بليدَ الذكاء، ضعيف العقيدة، متميع الخلق. فسرعان ما يتأثـّر بمصاجة الأشرار، ومرافقة الفجار، وسرعان ما يكتسب منهم أحط العادات، وأقبح الأخلاق، بل يسير معهم في طريق الشقاوة بخطى سريعة، دونما تمحيص وتمييز، فالإسلام لا يعفي الآباء والمربين الذين يُرْخُوْن لأولادهم العنانَ بمخالطة رفاق السوء وقرناء الشر دونما حساب ولا رقيب. ولئن سألتهم عن ما هم فيه سرعان ما يلقون الملامة على المجتمع بأنه يجر الأفراد إلى هذه الهاوية وبذلك يصير المربي المسؤول كمسمار في عجلة يدور حيث تدور، متناسين الدور الفاعل الذي رسمه الإسلام وكلّف به كل أب مسلم، والمتمثّل بما ورد عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  من أحاديث كثيرة اخترت طائفة منها عسى أن تكون منهج أدب قويم، وتربية رصينة تسعد بهاكل أسرة مسلمة:

 

روى الترمذي عن أيوب بن موسى عن ابيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: (ما نحل(2) والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن).

 

وروى ابن مجاة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم).

 

وأخرج عبد الرزاق، وسعد بن منصور وغيرهما من حديث علي رضي الله عنه: (علّموا أولادكم وأهليكم الخير وأدّبوهم).

 

وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: (من حق الولد على الوالد أن يُحسن أدبه، ويُحسن اسمه).

 

       7- البيئة الملوثـّة: إن وجود البيئة غير المسلمة والملوثة تقوي وترسخ دعائم الكذب والنفاق وغيرهما من الأخلاق الذميمة في نفوس الأطفال، كما لا ننسى الأثر الناشئ من مشاهدة الأفلام البعيدة عن تعاليم الإسلام.. فالأب الذي يسمح لأولاده أن يشاهدوا الأفلام الغرامية التي تُوَجّه إلى الميوعة والانحلال، والأفلام البوليسية التي تحض على الانحراف والأجرام وهي بتأثيرها تفسد الكبار فضلاً عن الصغار، لاشك أن هذا الأب يهوي بأولاده – من حيث يعشر أو لا يشعر – في هاوية سحيقة ستودّي بهم حتمًا إلى هلاك محقق، ودمار محتوم . لأن الأطفال بطبعهم ميَّالون إلى الخيال.

 

ومما يزيد في بسط خيالهم، وإنماء روح المحاكاة مشاهدة هذه الأفلام البعيدة عن تعاليم الإسلام وخلقه القويم، فنرى زيدًا من الأطفال نسَّاجًا المغامرات غرامية مختلفة ينسبها لنفسه وهو منها بريء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام؛ لكنه يستحلي التحدّث بما قدّمت له الأفلام من مرآى تجره وغيره إلى مصير راعب تتحكم بهم الأهواء، وأوهاق(3) الشهوات، محاكاة لتلك الأفلام الداعرة، والمشاهدات الراعبة. كما نرى عمرًا من الأطفال يُنصِّب نفسه بطلاً من الأبطال كذبًا وزورًا، تراه أحاط به الأقران يستمعون إليه وإلى بطولات حب مزعوم وأسماء فتيات قد يكنّ أقرب الناس إليه بقصد إحكام قوله وإدخاله في أذهان سامعيه. لحساب مَن أيها المربون نسمح لابنائنا أن ينحدروا إلى هذا الدرك الخطير؟

 

أما آن الأوان أن نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (كفى المرء إثمًا أن يُضيِّع مَنْ يعُول) وفي رواية (مَنْ يقود). وما أجدر أن نتمثّل قول الشاعر:

أتبكي على لُبْنـى وأنت قتلتها

لقد ذهبت لُبْنى فما أنت صانع؟

 

ولرب سائل يسأل ماذا يفعل المربي تجاه هذا الخطر؟

 

إن الطفل يُمكن أن يستفيد من التوجيه متى ألفى في محيطه وضوحًا في التوجيه وصراحة في التعليمات والنصائح التي تكون مشفوعة بالقدوة الحسنة، ثم إيصاله بحقيقة الواقع كما هو وكما يحياه وتجديدًا في بناء نفسه المنقسة، ومتى وجد مجالاً يسمح له بالنشاط والحركة مع اهتمام بالأشياء الموضوعية، وحينما يجد مشاركة له في أولاعه من جانب الأبوين، وتتويج كل هذا بالعطف والمحبة.. وتوجيه الولد في أشغال فراغه بالمطالعة الهادفة والنزهة البريئة، والرياضة المتنوعة، وذلك لا يتأتى إلا بافتتاح الملاعب الكبيرة، والنوادي الضخمة، والمكتبات الشهيرة، والمؤسّسات العامة، والمسابح الصَحّية الملائمة بشرط أن تكون متوافقةً مع أحكام الإسلام، وآدابه السامية.

 

إن الإسلام بتعاليمه التربوية وجّه الآباء والمربيين إلى أن يُراقبوا أولادَهم مراقبةً تامةً وخاصةً في سن التمييز والمراهقة؛ ليعرفوا من يخالطون ويصاحبون، وإلى أين يغدون ويروحون وإلى أي الأماكن يذهبون ويرتادون.

 

أيها المربون ! أوقدوا في قلوب الناشئة مصابيح الرحمن آيات بيانات تبصرهم إذا استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله.

 

استرضعوهم الصدق أطفالاً يتعوّدوه كبارًا فتسّروا بهم في الدنيا والآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين، حتى لاتكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة (أَلاَ ذٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِيْنُ)(4).

 

فوزوا باتباعهم إياكم طريق الهدى والتقى والرشاد، تسعدوا بلقياهم يوم القيامة: (وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(5).

 

الهوامش:

(1)    اللاشعوري: هو الجزء غير الظاهر من العقل وفي السلوك وفي الاضطراب النفسي ولا يستطيع أحد ملاحظته ولا حتى صاحبه مثل زلاّت القلم وهفوات اللسان كلها عمليات لاشعورية تصادفنا في حياتنا ومن الأدلة على وجود اللاشعور هي الأحلام؛ لأنه بواسطتها يمكننا تحقيق الأشياء التي لا يمكن تحقيقها في الواقع.

(2)       نحلة : أي اعطاه .

(3)       أوهاق : قيود.

(4)       الآية 14 (الزمر).

(5)       الآية 20 من سورة الطور.

 

 

ربيع الثاني – جمادى الأولى 1429هـ = أبريل – مايو  2008م