جهُود المحدثين في تأويل مختلف الحديث

 

    بقلم : الدكتورة / عزية على طه

  

 

  

 

 

درج بعض السفهاء من الناس على إثارة الشكوك حول بعض الأحاديث النبويّة الشريفة باعتبار أنها متضاربة ومتناقضة، ولقد طعن آخرون فيها باعتبار أنها تتعارض مع ما أكتشفه العلمُ الحديث من حقائق، ولجأ بعضهم الآخر إلى الزعم بأنها غير منطقية أو غير صحيحة .

 

ولإزالة هذه الشكوك والشبهات فإنني سوف أتناول بإذن الله الفرقَ بين محكم الحديث ومختلفة . مع ذكر بعض المحدثين الذين أبدعوا في هذا المجال، ثم أورد مثالين لحديثين مختلفين وأوضح كيف وفّق العلماء بينهما دون أن يتعارض ذلك مع ما جاء به العلم الحديث من حقائق .

 

المحكَم والمختلف لغةً واصطلاحًا

المحكم في اللغة كما جاء في (المعجم الوسيط 1/189) هو اسم مفعول من "أحكم" ويقال: "أحكم فلانٌ الأمرَ": أيْ أتقنه، والمحكم المتفق، والمحكم من القرآن الظاهر الذي لاشبهةَ فيه، ولا يحتاج إلى تأويل. قال تعالى في سورة آل عمران: "مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ اُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات" الآية/7.

 

أما المحكم في اصطلاح المحدثين فهو الحديث المقبول الذي سلم من معارضة مثله له. ونجد أنّ أغلب الأحاديث النبوية الشريفة من هذا النوع.

 

أما المختلف لغةً كما جاء في (المعجم الوسيط) فهو اسم فاعل من الاختلاف ضد الاتفاق، وخالف الشيء يعني ضادّه، ويقال خالف بين الشيئين، وتخالفا إذا تضادّا، واختلف الشيئان يعني لم يتفقا ولم يتساويا.

 

والمختلف في اصطلاح المحدثين هو الحديث المقبول المعارض بمثله مع إمكان الجمع بينهما، والأحاديث المختلفة هي التي تصل إلى جامعي السنة الشريفة ويخالف بعضها بعضًا في المعنى ظاهريًا، إلا أن الأئمة الماهرين في فقه الحديث وأصوله، العارفين باللغة العربية وقواعدها قد استطاعوا أن يجمعوا بين أكثر الأحاديث التي كان ظاهرها يبدو متعارضًا.

 

أما الأحاديث المختلفة التي لم يتمكن المحدثون من الجمع بينها، فهم يحكمون عليها بالضعف، وهذا النوع من الحديث الضعيف يُسمَّى في المصطلح بالحديث المضطرِب .

 

والاضطراب في اللغة كما جاء في المعجم الوسيط هو اختلال الأمر وفساد نظامه، وفي اصطلاح المحدثين ، الأحاديث التي تُروى من أوجه مختلفة ومتساوية في القوة، وتتعارض بحيث لا يمكن الجمع بينها، أو ترجيح إحدى الروايات على الأخرى، ومثل هذه الأحاديث لايقبلها علماء المصطلح؛ لأنهم واثقون بأن مثل هذه الأقوال المضطربة لايمكن أن تصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن السبب في اضطراب هذه الأحاديثُ إنما يرجع في حقيقته إلى فساد تحمل تلك الأحاديث وتداولها بين الرواة .

 

أمثلة لبعض الأئمة الحذاق في هذا المجال

لقد اجتهد بعض العلماء في الجمع بين الأحاديث التي تبدو ظاهريًا متعارضةً، وبذلوا في ذلك جهودًا قيّمةً ، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.

 

من هؤلاء العلماء الإمام الحافظ أبوبكر محمد بن الحسن بن فورك المتوفى عام 206هـ خاصةً في مؤلفه المسمّى: "مشكل الحديث وبيانه" ولقد قال عن فورك الأمام السبكي في كتابه (الطبقات 3/52) ما يلي: "إنه بالغ في رفض الدنيا وراء ظهره وعمل على طاعة الله في سره وجهره، وصمَّمَ على التمسك بدينه... وإنه لا يجارى فقهًا، وأصولاً، وكلامًا، ووعظاً، ونحوًا مع مهابة وجلالة وورع بالغ".

 

أما مؤلَّفه (مشكل الحديث وبيانه) فهو كتاب قيم ذو فائدة جليلة، ولقد ذكر فيه ابن فورك ما اشتُهِر من الأحاديث المرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  مما يوهم ظاهرها التشبيه، ثم عمل على شرحها وتأويلها والتوفيق بينها بما يؤدِّي إلى إزالة كل شبهة يمكن أن يتعلّل بها المغرضون في التهجم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولقد قال ابن فورك في ذلك مايلي: "فقد وفقت ... على تحري النصح والصواب إلى إملاء كتاب نذكر فيه ما اشتهر من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  مما يوهم ظاهرها التشبيه، مما يتسلّق به الملحدون على الطعن في الدين، وخصّوا بتقبيح الطائفة التي هي ظاهرة على الحق لسانًا وبيانًا وقهرًا وعلوًا ... الطاهرة عقائدها من الشوائب والأباطيل وشوائن البدع والأهواء الفاسدة".

 

ومن العلماء الذين خاضوا هذا الغمار أيضًا وكتبوا في تأويل مختلف الحديث، فقيه الأدباء وأديب الفهاء، الإمام أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى عام 276هـ. ولقد أورد الإمام الذهبي في الميزان عن سيرته ما يلي: "هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة صاحب التصانيف صدوق قليل الرواية، روى عن اسحاق بن راهويه وجماعة... قال الخطيب عنه وكان ثقة دينًا فاضلاً.

 

ولقد كتب ابن قتيبة – كما قال محقق كتابه محمد زهري النجار – مقدمة كتابه (تأويل مختلف الحديث) لوزير المعتمد على الله ابن المتوكل على الله الخليفة العباسي قائلاً: (فإنك كتبت إليَّ تعلّمني ماوقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم، واسهامهم الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض، حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم، وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضًا، وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث... هذا ما حُكيت من طعنهم على أصحاب الحديث، وشكوت تطاول الأمر بهم على ذلك من غير أن ينصح عنهم ناصح ويحتج لهذه الأحاديث محتج، أو يتناولها متناول حتى أيسوا بالعيب ورضوا بالقذف، وصاروا بالإمساك عن الجواب كالمسلمين، وبتلك العلوم معترفين... وتذكر أنك وجدت في كتابي المؤلف في غريب الحديث بابًا ذكرت فيه شيئًا من المتناقض عندهم وتأولته، فأملت بذلك أن تجد عندي في جميعه مثل الذي وجدتُه في تلك من الحجج، وسألت أن أتكلّف ذلك محتسبًا الثواب. فتكلّفتُه بمبلغ علمي ومقدار طاقتي، واعدَتُّ ما ذكرةُ في كتبي من هذه الأحاديث ليكون الكتاب تامًا جامعًا للفن الذي قصدوا الطعن فيه).

 

أمثلة لأحاديث ظاهرها التعارض

ولكي نوضح جهود العلماء حول الأحاديث التي يشوبها التعارض ظاهريًا نأخذ موضوع العدوي وموقف العلماء منها حسب ما جاء في الأحاديث النبويَّة الصحيحة. فقد ورد في بعض الأحاديث النبويّة الصحيحة أنه لا عدوٰى، من أمثلة ذلك ما يلي:

 

الف- الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في كتاب الطب، باب لا هامةَ (21/44 من شرح الكرماني) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لاعدوٰى ولا صفرَ ولا هامةَ، فقال إعرابيٌ: يا رسولَ الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعيرُ الأجربُ فيُجربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن أعدى الأوّلَ".

 

ب – الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي في كتاب القدر، باب لا عدوى ولا هامةَ ولا صفرَ (6/354-355 من تحفة الأحوذي) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: لا يعدي شيءٌ شيئًا فقال إعرابيٌّ: يا رسولَ الله البعير أجرب الحشفة ندبنه – أي نضعه في الحظيرة – فيجرب الإبل كلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فمن أجرب الأوّل؟ لا عدوى ولا صفرَ، خلق الله كلَّ نفس فكتب حياتَها ورزقها ومصائبها".

 

ج – الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طِيَرَةَ ولا هامةَ ولا صفرَ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: "لا عدوى ولا هامةَ ولا نوء ولا صفر".

 

وعلى الرغم من أنّ هذه الأحاديث النبوية الصحيحة تصرح بأنه لاعدوى؛ لكننا نجد أحاديثَ نبويةً أخرى صحيحةً تحثّ على تجنب المريض بأمراض معدية وذلك تخوفًا من العدوى، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

 

* الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في كتاب الطب، باب لاهامةَ (21/44-45 من شرح الكرماني) من حديث أبي سلمة أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يوردنَّ ممرض على مصح وأنكر أبو هريرة حديث الأول، قلنا: ألم تحدث أنه لاعدوى فرطن بالحبشية قال أبو سلمة: فما رأيته نسي حديثًا غيره).

 

* الحدث الذي أخرجه الإمام البخاري أيضًا في الكتاب السابق، باب ما يذكر في الطاعون 21/14 من شرح الكرماني) من حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء. الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر اُدع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أنْ ترجع عنه، وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولا نرى أن نقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني ثم قال اُدعو لي الأنصار، فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيلَ المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: اُدع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل هبطت واديًا عدوتان، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.

 

* الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري أيضًا في كتاب الطب باب الجذام (21/2 من شرح الكرماني) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وَفِرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد".

 

موقف العلماء من ثبوت العدوى ونفيها

لقد حاول العلماء من المحدثين وغيرهم الجمعَ بين هذه الأحاديث حسب اجتهاد كل منهم، وانقسموا في ذلك إلى فريقين، إحدهما يرى وجود العدوى تصديقًا لظاهر الأحاديث الواردة في هذا الشأن، أما الفريق الآخر فينفي وجودَ العدوى تصديقًا للأحاديث الواردة في هذا الشأن .

 

رأي من نفى العدوى

نقل العلامة الكرماني (21/3) قولَ ابن بطال: "لاعدوى أي لا حقيقةَ للعدوى وأما النهي – ويقصد النهي عن مخالطة المريض – فلئلاّ يتوهّم المصح أن مرضها، أي – الإبل – حصل من أجل ورود المريض عليها فيكون داخلاً بتوهمه في تصحيح ما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم  من العدوى.

 

نقل الكرماني أيضًا رأى بعض العلماء القائلين بأن العدوى غير ثابتة، أما الأحاديث الواردة في شأن الفرار من المجذوم وغيرها فهي لعدم التأذى بالرائحة الكريهة ونحوه. وعلق ابن حجر في شرحه (فتح الباري 10/241/242) على حديث الإبل الصحيحة التي يمرضها البعير الأجرب قائلاً (قوله: فيدخل فيها فيجربها هو بناء على ما كانوا يعتقدون من العدوى أي يكون سببًا لوقوع الجرب بها. وهذا من أوهام الجهّال يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم، فلما أورد الأعرابي الشبهةَ ردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم  بقوله: فمن أعدى الأولَ، وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة، وحاصله من أين جاء الجرب الذي أعدى بزعمهم؟ فإن أجيب من بعير آخر لزم التسلسل، أو سبب آخر فليفصح به، فإن أجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدّعى ، وهو : إن الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق سبحانه وتعالى، أما قوله لايوردن ممرض على مصح، فإن سبب النهي عن الإيراد هو خشية الوقوع في اعتقاد العدوى، أو خشية تأثير الأوهام).

 

ولقد دعّم ابن حجر هذا الرأي وقوّاه، وأورد بعض آراء العلماء المؤيدين له من أمثال أبي عبيدة الذي قال: "ليس في قوله لايوردن ممرض على مصح إثبات العدوى ؛ بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه... وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخالفة على الصحيح من ذوات العاهة... وهذا شر ما حمل عليه الحديث لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع".

 

ولقد نقل ابن حجر أيضًا رأى ابن خزيمة حيث قال: (إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم  بالفرار من المجذوم، كما نهاهم أن يورد الممرض على المصح شفقةً عليهم، وخشيةً أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب، فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوى، فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بتجنب ذلك شفقةً منه ورحمةً، ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبيّن لهم أنه لا يعدى شيء شئًا... ويؤيد هذا كله أكله مع المجذوم فيحتمل أن يكون لأن المجذوم يغتم ويكره إدمان الصحيح النظر إليه لأنه قل ما يكون من به داء إلا وهو يكره أن يطلع عله).

 

رأي من أثبت العدوى

ذهب بعض العلماء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لاعدوى" لا ينافي وجود العدوى حسب ما أودعه الله في خلقه من أن لكل سبب مسببًا، أما نفي العدوى فيدل على أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يبطل قاعدة السبب والمسبّب ويبدأ المرض حسب إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.

 

ولقد أوضح الإمام القرطبي حسب ما أورد ابن حجر في شرحه فتح الباري أن قول النبي صلى الله عليه وسلم  للأعرابي: (فمن أعدى الأول) لا يتنافى مع قوله: (لاعدوى) لأن الحديث يبين جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل أهلاً لفهمه، ثم يقول القرطبي: (إن هذه الشبهة التي وقعت للأعرابي هي التي وقعت للطبائعيين أولاً وللمعتزلة ثانيًا، فقال الطبائعيون بتأثير الأشياء بعضها في بعض وإيجادها إياها وسمّوا المؤثر(طبيعة)، وقال المعتزلة بنحو ذلك في الحيوانات والمتوالدات وأن قدرهم مؤثرة فيها بالإيجاد، أو أنهم خالقون لأفعالهم مستقلون باختراعها، فاستندت الطائفتان إلى المشاهدة الحِسِّية).

 

ولقد أورد ابن حجر في شرحه لباب "لا عدوى" رأى من نفي العدوى قائلاً: "فقد رد هذا الفريق حديث لا عدوى بأن أباهريرة رجع عنه، إما لشبهة فيه، وإما لثبوت عكسه عنده... وقالوا بأن الأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طرقًا فالمصير إليها أولى".

 

نقل ابن حجر أيضًا في شرحه لباب الجذام رأيَ من قال: (إن المراد بنفي العدوى أن شيئًا لا يعدى بطبعه، نفيًا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبيعتها من غير إضافة إلى الله تعالى، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي بمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنومنه ليبين لهم أن هذه من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لاتستغل؛ بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئًا، وإن شاء أبقاها فأثرت).

 

ويحتمل أيضًا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم  مع المجذوم أنه به أمر يسير لا يعدى مثله في العادة، إذ ليس الجذمى كلهم سواء، ولاتحصل العدوى من جميعهم ؛ بل بعضهم لا يحصل منه في العادة عدوى أصلاً، كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه .

 

ولقد نقل ابن حجر رأى البيهقي حيث يقول: (إن الجذام والبرص بزعم أهل العلم والطب والتجارب يعدى الزوج كثيرًا ... أما الولد إن كان أحد أبويه أجذمَ أو أبرصَ فإنه قلَّمَا يسلم من الجذام أو البرص، وإن سلم أدرك نسله).

 

رأي العلم الحديث

لقد وضح الطبيب محمد علي الباز في مؤلفه "العدوى بين الطب وحديث المصطفى" بأن الأمراض التي تصيب الإنسان تنقسم إلى قسمين كبيرين: أمراض غيرُ معدية، وأمراض معدية وهو يقول في صفحة 24: "أما الأمراض المعدية فهي التي تنتقل من مريض إلى آخر بأحد طرق العدوى العديدة وهي: إما بواسطة التنفس كما في أمراض الجهاز التنفسي كالأنفلونزا والسل الرئوي، أو بطريق الفم مثل أمراض الجهاز الهضمي كالدوسنتاريا، والتيفود، والكوليرا، وشلل الأطفال، والتهاب الكبد الوبائي، أو عن طريق الزنا مثل المراض التناسلية كالزهري والسيلان، أو عن طريق الملامسة مثل الجدري أو الجذام، أو بواسطة الحقن ونقل الدم مثل التهاب الكبد الفيروسي، أو بواسطة وخذ الحشرات كالبعوضة التي تنقل مرض الملاريا، وداء الفيل، والحمى الصفراء، أو ذبابة التي تسي التي تنقل مرض النوم، أو القمل الذي ينقل حمى التيفوس، أو البرغوث الذي ينقل الطاعون".

 

ولقد أفاد الدكتور محمد على الباز أيضًا بأن الفيروسات والبكتريا هي التي تسبب الأمراض، وهي كائنات دقيقة جدًا، ترى بالمجهر الإليكتروني بعد تكبيرها عشرات الآلاف أو مئات الألوف من المرّات، ولقد أثبت الطب كذلك بأن البلايين من تلك البكتريا تيعش في فم الإنسان وأنفه وعلى سطح جلده وأمعانه دون أن تحدث له أي ضرر، بل إن كثيرًا منها ذو نفع وفائدة، لكن هذه البكتريا الهادئة نفسها قد تتحول فَجْأةً إلى عدو يقتل الإنسانَ ويسبب له الأمراض المختلفة .

 

ثم يقول الدكتور الباز في ذلك: (وليست هناك قاعدة معروفة تستطيع أن تتنبأ بها عن طبيعة هذا الميكروب المخادع المخاذل، وأنه سيتحول فجأةً من السلام والوئام إلى الهجوم والعدوان، فليس الأمر بأيدينا ولا بأيدي تلك الميكوربات الدقيقة فهي لاتعلم من أمرها شيئًا، ولكن الأمر لمن بيده الأمر كله يصرفها كما يشاء ... أما معلوماتنا فهي تعتمد على التجارب وعلى الأغلب الأرجح، وليس لدينا من علم يقيني بأن هذا الميكروب سيسبب المرض الفلاني، أو أنه سبب المنعة والمناعة... وإنما هو علم مبني على الظن والترجيح.

 

الخاتمة

مما سبق يتضح لنا أن العلماء ذوي الفهم الثاقب قد اجتهدوا في تأويل الأحاديث التي تختص بإثبات العدوى ونفيها، وذلك لدفع التعارض الظاهري حول هذه الأحاديث، فمن أصاب منهم فقد جمع الأجرين، أما من أخطأ فقد حصل على الأجر الواحد فَكِلاَ الفريقين مأجور بإذن الله.

 

ولقد رأينا كيف أن العلم، الحديث قد أثبت العدوى في أمراض مختلفة، كما أنه وضع بأن الجراثيم ناقلة المرض يمكن أن تعيش في فم الإنسان وأنفه، وعلى سطح جلده وأمعانه دون أن تحدث له أي ضرر، مما يدل بأن المرض والشفاء كله بيد الله سبحانه وتعالى وأن هذه الجراثيم لاتعدي بذاتها، لكنها تسير حسب النواميس التي أودعها الله تعالى في الكون، والتي يمكن أن يعدلها ويبدلها متى شاء وكيف شاء.

 

وعليه فلا تناقض حقيقي بين الأحاديث التي تثبت العدوى والتي تنفيها .

 

 

ربيع الثاني – جمادى الأولى 1429هـ = أبريل – مايو  2008م