محاولة تغيير الوضع بين أُسْلُوبَيِ الصِّدَام والسَّلاَم

 

    

  

 

  

 

 

منذ سقوط الخلافة – الدولة – العباسيّة عمومًا ومنذ سقوط الخلافة العثمانيّة خصوصًا، برز عهدُ النهضة الأوربيّة بروزًا أكثر، بمعنى أن دول أوربّا الاستعماريّة استولتْ على الدول الإسلاميّة ومَـــزَّقَتْها تمــــزيقًا، وما انسحبت منها إلاّ بعــــد ما جَزَّأَتْها بشكل تَـــــرَكَ شعــــوبَها تتحارب بنحو دائم. وفي جانب آخر تَعَمَّدَت الدولُ الاستعماريّةُ أن لايمسك بأزمّة الحكم فيها إلاّ المُثَقَّفُون بالثقافة الغربيّة، المُتَشَرِّبون روحَ الحضارة الغربيّة والأفكار الغربيّة، المُنْبَهرون بفضلها، المُتَغَنُّون بمجدها، الأوفياء لأبنائها، المُتَطَوِّعون عن رضا وانشراحِ صدرٍ للقيام بكل خدمة يُكَلَّفُون بها من قبلهم – أبناء الغرب والحضارة الغربيّة – وقد بَلَغَ بهم الانبهارُ بهم – أبناءِ الغرب – أنهم كانوا يَرَوْنَهُمْ مصدرَ كلِّ تَقَدُّم.

 

وعندما انجلى الاستعمارُ الغربيُّ عن بلادنا حاول أن يبقى مُتَّصِلاً بها عن طريق السياسة والحكم؛ فإن انجلى عسكريًّا، فلم يَنْجَلِ سياسيًّا وسُلْطَويًّا، حتى بَقِيَتْ دولُنا لاتتخذ قرارًا إلاّ بعد سَمَاحٍ منها بذلك . وفي الأغلب ظلَّ حكامُنا وقادتنا يُسَلَّطون علينا – أو يتسلّطون – عن كره منّا؛ لأنّه لدى فرضهم علينا، لم تكن تُرَاعَىٰ مَصَالِحُنا وإنما ظلّتْ تُرَاعَىٰ مَصَالِحُ الغرب؛ فكانوا – عادةً – لايحملون أهليّةً للقيادة والحكم والإدارة، كما كانوا فارغين تمامًا من عنصر العدل، وروح الدين، وعاطفة الإسلام، وحياة الضمير، والحميّة الوطنيّة، والنخوة القوميّة، ومن عنصر المبـدئيّة وبُعد النظر وثقوب الفكر. الأمرُ الذي به يثبت المرأ على أساس، أو على رأي، ولا يتزعزع لدى بليّة، ولا يلين لدى شدّة، ويعزم على أن يكيل للعدوّ الصاعَ صاعَين؛ ومن ثم ظلَّ مُعْظَمُ حكّامنا وقادتنا مُغْرَمِين بالحكم والقيادة، حريصين على العزّ والجاه، مُتَعَطِّشين لزخارف الحياة الدنيا، مُتَشَوِّقِين للوصول إلى الغاية القصوى من رغادة العيش، ورفاهية الحياة، ولازالتِ الحالُ على هذا المنوال.

إن الحكومة في بلادنا، لايزال يديرها السادةُ في الغرب، من هناك يُحَرِّكُون الحبل، فتتحرّك قادتُنا وحكامُنا الذين هم في الواقع دُمًى من أخشاب؛ فحركاتُهم رهينةٌ بالسادة في الغرب؛ فهم لايتحرّكون إلاّ في الجهة التي يرضاها السادة وبالقدر الذي يرضونه، وبالكيفيّة التي يرضونَها؛ فإن تظاهروا في وقت ما – لداعية من الدواعي – بـ"إباء" في حركاتهم أو "استقلال" في سكناتهم، أو ثارت فيهم – بمشيئة من الله – في حين من الأحيان غيرة دينية أو حميّة إسلاميّة، واستجابوا لها استجابةً خفيفةً، ضاربين عُرْضَ الحائط مصالحهم الدنيويّة المُتَعَلِّقَة بسادتهم الغرب، فإنهم يفقدون – فورًا – كراسيَّ الحكم، ويعيشون الحياةَ الباقيةَ بذلّ يُشَكِّلُ درسًا لغيرهم، وربما يُغْتَالُون أو يُقْتَلُون بنحو يكون عبرةً لجميع عبيد الغرب من القادة والحكّام لدينا، بل تَقْشَعِرُّ جلودُهم من قساوة العاقبة التي يُلاَقُونَها، ويُجَدِّدُون التعهّدَ بأنهم لن يُعِيدُوا الخطأَ الذي ارتكبه المُعَاقَبُون من قِبَل الغرب من نظرائهم: القادة والحكام في بلادهم الشرقيّة. وإنما يتقيّدون بكل إشارة يرسلها لهم السادة في الغرب، ويتعهّدون أنهم سيضحّون بكل راحة بل ويخاطرون بأنفسهم في سبيل تنفيذها دونما شطط؛ لأن ذلك وحده هو الضمان لعزّهم "الدائم" وكرامتهم "الباقية" وفلاحهم "الأبدي"!.

*  *  *

إنّ القراء يكونون قد تَأَكَّدُوا بشكل مُسْتَوفٍ مما أسلفنا أنّ الحُكاَّمَ لدينا الذين يَتَسَمَّوْن بأسماء إسلاميّة، إنّما يحكمون بلادَنا لتحقيق مصالحهم هم وإشباع هواهم في الحكم والسلطة.. يحكمونها عبيدًا مُسْتَأْجَرين وعملاءَ مُسَخَّرين من قِبَل الغرب؛ فلا تُهِمُّهم مصالحُ البلاد التي يحكمونها، ولايُحِبُّون الترابَ الذي يَنْتَمُون إليه، ولا يُفَكِّرون بشكل في هموم شعوبهم، ولايرون حاجةً إلى الاهتمام بُمُقْتَضَيَات الغيرة الدينيّة، والحميّة القوميّة، ورغبات أبناء البلاد، وعواطف ومشاعر وحوائج الشعوب، ولا يهمّهم قضيّةُ نموّ البلاد، ورفاهية الشعوب، ورخاء الوطن، وسيادته أوسلامته، والدفاع عنه أو استقراره. أمّا العقيدة والدين، وحماية الأحكام الدينية، فمتى كان الغرب قد سَمَحَ لهم بأن يَدُسُّوا الدين في السياسة ويخلطوا بين العقيدة وشؤون الدولة؟ إنّ الغرب جعلهم دائمًا أن يحاكوا كالببغاء أن الدين قضيّة شخصيّة لدى الإنسان؛ فلا يجوز المزج بينهما؛ لأن ذلك – المزج بين الدين والدولة والعقيدة والسياسة – رجعيّة، ظلاميّة، قِدَميّة، لايقول بها إلاّ مثلُ الإسلام الذي تَقَادَمَ عهدُه، ووَلَّىٰ دورُه. إنّ الغرب المتنور طَلَّقَ الدينَ ثلاثًا؛ فقَطَعَ أشواطَ التقدّم ؛ فصارَ مغبوطاً لدى أبناء الشرق "الظلاميين" كُلِّهم، وأصبح لديهم نموذجًا يُحْتَذَىٰ، ومثالاً يُقَلَّد، وغدا يدعونا نحن الشرقيين دعوةً قويّةً مُتَّصِلةً إلى الأخذ بأسباب الرقيّ والسعادة هذه!؛ ولكننا صِرْنَا أغبياءَ – من أجل مُجَرَّد حبِّنا للإسلام لا للعمل به لأننا رفضنا العمل به منذ عهد بعيد – بحيث لانسيغ أيَّ شيء بسيط يتّصل بأسباب التقدّم الدنيويّ والسعادة العاجلة، وإنما يسيغه إساغةً كاملةً زعماؤُنا وحكامُنا وساستُنا وحدَهم؛ لأنهم أيضًا يتّصفون بمثل "التنوّر" الذي يُمَيِّزُ الغربَ عن الشرق، وينظرون إلى الإسلام نظرةً تُمَاثِل نظرةَ الغرب إليه؛ فهم يؤكّدون بأعمالهم أفكارَهم بنحو يجعل كلَّ من يتعامل معهم أنَّ الإسلام لايتجاوز حلوقَهم التي شَرِقَتْ بالأفكار الغربيّة، وإيحاءاتها الفاسدة المفسدة .

*  *  *

الانهزاميّةُ التي مُنِيَ بها الشعوبُ الإسلاميّة تجاهَ الوافد الدخيل من رُؤَى الغرب وأفكاره، ومناهج حياته وأساليب عيشه، وطرق حكمه وإدارته، وتعامله المزري مع الدين، وتنكّره للقيم الخلقيّة، ورفضه للمُثُل الإنسانيّة، وخروجه على كل مروءة تضمن للإنسان الكرامة والشرف، والحشمة والوقار، وتُفَرِّق بينه وبين البهائم؛ إنّما هي – الانهزاميّة – مُوَرَّدَة عن طريق هؤلاء العملاء الانهزامييّن مأجوري الغرب أوّلاً وقبل كلَّ شيء؛ لأنهم فرضوها على شعوبهم المسلمة بقوّة الحديد والنّار، وحالوا دونها ودون العمل بما يضمن لهم –الشعوب – الحياة الإسلاميّةَ الخالصةَ من كل شائبة من مفاسد الحياة الغربيّة التي لايُحْصِيها إلاّ من أَحْصَىٰ شعر غَنَم بني كلب أو رَمَلَ عالج؛ لأنهم آمنوا بأنّ الإسلامَ الخالصَ الحقيقيَّ لايساير العصرَ ولا يُعَاوِن على التقدّم، وإنّما يرجع بأبنائه الأوفياء إلى الوراء، ويُسَبِّب لهم التراجعَ في جميع قِطَاعَات الحياة؛ وتأكّدوا أنّ نهضةَ الغرب الشاملة وتقدّمَه الاقتصاديَّ والعسكريَّ والتكنولوجيَّ والعلميَّ إنما هو مدينٌ لرفضه للدّين، وخروجه على جميع القيم الدينية، وبغيه على كل الآداب التي تُقَيِّد الإنسانَ! وتمنعه عن الانطلاق والتحرر اللذين لابدّ منهما لإحراز أيّ تقدّم وتحقيق أيّ رقيّ في أيّ من المجالات التي تهمّ الإنسان!.

 

ذلك هو الوضعُ المُرْدِي الذي يواجهه العالمُ الإسلاميُّ كلُّه باستثناء بعض بصيصاتِ أملٍ تلمح خافتةً للغاية في بعض الأقطار لا تُغْنِي من جوع فضلاً عن أن يُرْجَىٰ أن تُسْمِن؛ من هنا أصبح الشعوبُ الإسلاميّةُ تسأم وتتضجَّر، وتتوجَّع وتتألَّم، وتكاد تذوب من كمد؛ لأنّها لاتقدر على إحداث تغيير في الوضع، والحيلولة دون ما هو قائم تَحَدِّيًا صارخًا لهذه الأمّة التي أُخْرِجَتْ للنّاس؛ لتأمر بالمعروف وتنهى عن المُنْكَر وتؤمن بالله؛ حيث تُرْغَم بشكل وبآخر على أن تؤمن بكثير من "الآلهة" وتُسِيْغَ كثيرًا من مناهج الحياة والأفكار الوافدة التي تتعارض مع المنهج والفكر الإسلامي على طول الخطّ وعرضه، وتَتَبَنَّىٰ غيرَما هي مأمورة بتَبَنِّيه من أحكام دينها وآدابه.

*  *  *

وتغييرُ هذا "المُنْكَر الصارخ" لايمكن أن يَتَأَتَّى اليومَ من خلال التصادم مع الحكّام والقادة المُسَلَّطِين على رقابنا من الغرب القويّ المُسْتَعْمِر فعلاً لبلادنا والمُتَحَكِّم في الواقع في مصيرنا، وإنّما يَتَأَتَّىٰ في هذا الوضع الذين نعيشه بأن نَصْلُح كُلِّيًّا، فننهض لنُصْلِح هؤلاء القادةَ المُتَجَبِّرين بالحكمة والموعظة الحسنة وبأن نجادلهم بالتي هي أَحْسَنُ. لأنَّ تغييرَ المنكر عمليَّةٌ مربوطة بالمرحليّة والتدرّح والتعامل مع الواقع الذي يمرُّ به المُتَصَدِّي للتغيير؛ وإلاّ فإنّها – العمليّة – تبوء بالفشل لا مَحَالَةَ، وتضيع المحاولاتُ رغمَ كونها مُخْلَصَةً سُدىً، وقد يقع القائمُ بها – لا قَدَّرَ الله – رغمَ إخلاصه في مأزق خطير لايكاد يتخلّص منه.

 

وقد كان النبيّ الأعظم سيّدُنا محمد صلى الله عليه وسلم حكيمًا بكل معاني الكلمة – لأنّه كان لاينطق عن الهوى، إن كان مقاله وتوجيهه وحيًا يُوحَىٰ من قبل الله العالم بالغيب – عندما قال: "من رأى منكم مُنْكَرًا، فليُغَيِّرْهُ بيده، فإِن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعفُ الإيمان". (أخرجه مسلم (رقم الحديث 49) وأبوداؤد (رقم الحديث 1140، 4340) وابن ماجة (رقم الحديث 1275، 4013) كلُّهم عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه).

 

وقد عَمِلَ بذلك العالمُ الربّانيُّ المصلحُ الهنديُّ الكبيرُ الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهنديّ 971 – 1034هـ = 1564 – 1624م) فلم يَرَ أن يصطدم بالبلاط المغوليّ القويّ الذي جعله المارقُ من الإسلام الإمبراطورُ المغوليّ "أكبر" (أبوالفتح جلال الدين محمد بن همايون 949–1014هـ= 1542–1605م) لادينيًّا، وإنّما اتْصل بأمراء البلاط وسلطاته ولاسيّما على عهد ابن "أكبر" الإمبراطور "جهانكير" (أبوالمظفر نورالدين محمد 976–1036هـ = 1569–1627م) ونفخ فيهم روحَ الدين بشكل مستمرّ حكيم، حتّى حَوَّلَه – البلاطَ – كليًّا من اللادينية إلى الدين، وظلّت جمرةُ الإيمان تشتعل في قلوب الأمراء ورجال الدولة حتى أنجب البلاطُ المغوليُّ – الذي كان من قبلُ مُتَنَكِّرًا للدين ومُتَوَحِّشًا من الإسلام – الملكَ الصالحَ التقيّ النقيّ الزاهد الأوّاب "أورنك زيب" (محيي الدين عالمكير بن شاهجهان بن جهانكير بن همايون بن بابر مؤسس الدولة المغوليّة 1027–1119هـ = 1618–1707م) الذي يعدّه المؤرخون الإسلاميّون المُتَبَصِّرُون المُتَعَمِّقُون سادسَ الخلفاء الراشدين .

*  *  *

منهجُ الإصلاح والتغيير الذي اتَّبَعَه الإمام السرهنديُّ لايزال منارةَ نور للأجيال الحاضرة والقادمة كالأجيال السالفة . وقد أشاد به عَبْرَ هذه القرون الطويلة جميعُ العلماء الراسخين، والدعاة الحكماء، والمفكرين الإسلاميين المُتَعَمِّقِين في دراسة الكتاب والسنة.

 

إنّ هذا الأسلوبَ التغييريَّ الإصلاحيَّ أسلوبٌ آمِنٌ؛ حيث لايُعَرِّض صاحبَه للأخطار والمهالك أو الأشواك والمخاوف، بل يضمن له النجاحَ الأكيـــــدَ دونما خســارة. وذلك هو المُجْدِي بشكل مُسْتَوْفٍ في هذا الوضع المُرْدِي، الذي تَأَلَّبَ فيه الأعداءُ علينا بكل ما عندهم من سلاح وعتاد ومكر ومكيدة، وجاسوا خلالَ ديارنا دارٍ دارٍ، فلم تبق دولةٌ مَدْعُوَّةٌ "إسلاميّةً" لاتكون مُسْتَعْبَدَة مُسْتَعْمَرَة من قبل الغرب الصليبي الصهيونيّ، وصار المسلمون أجانب في أوطانهم التي وُلِدُوا فيها ونشؤوا، وحكامُنا وقادتُنا الذين يُمَاثِلُونَنا لغةً ولونًا وجلدًا وزيًّا، يعملون في بلادنا نائبين عن الأعداء، فيعادوننا معاداةً لا تَقِلَّ عن مُعَادَاة الأعداء لنا؛ بل قد تفوقها كمًّا وكيفًا؛ فتقع علينا أشدَّ وأمضَّ؛ لأن ظلمَ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقع الحسام المُهَنَّد، كما قال الشاعر الجاهليّ الحكيم .

 

وذلك لايعني أن نتخلّى عن كل أسلوب آخر تسمح به الحكمةُ العمليّة والتعقّل الأدائيّ فيما يتّصل بالدعوة وتبليغ الدين ونشر الرسالة . وإنّما القصدُ أن نتجنّب كلَّ أسلوب يستنفد طاقتَنا دونما فائدة، ويستنزف قدرتَنا فيما يعود علينا بالخسارة بأنواعها ولايعود علينا بربح؛ فالمؤمن مأمور بإعمال الحكمة وتبنّيها في كل ما يأتي ويذر. اللهم أَلْهِمْنَا الرشدَ وارزقْنا اتِّبَاعَه.                         أبو أسامة نور

 

( تحريرًا في الساعة 9 من الليلة المتخللة بين الأحد والاثنين: 34/محرم  1429هـ الموافق = 1314/يناير 2008م ) .

 

 

ربيع الثاني – جمادى الأولى 1429هـ = أبريل – مايو  2008م